بوح الأمكنة/ الحصن تاريخ وإبداع وتراث "الحلقة الخامسة"
حين أنهينا الجولة في دير الروم الأرثوذكس ومتحفه الرائع الذي يروي الكثير من الحكايات، ودير اللاتين وجماله والصور الحافظة للذاكرة فيه، كنت أقف في الشارع وعيناي ترنوان للأبنية التراثية بعشق، فشعر صديقاي باسل النمري ومحمد الحتاملة رفيقا جولتي ومرشداها بذلك، فقال باسل: أنت لا ترتوي من التراث؟ فقلت له: ومن يمكنه أن يستمع من خلالها لهمسات أرواح الأجداد ويكتفي؟ فاتجها بي إلى مبنى قديم وهو بيت كريم عصفور وكان يحتوي سابقا على أقدم مستشفى في الأردن، ودخلنا الطابق الأول حيث استقبلنا الموجودون في منجرة موسى أندراوس بكل ترحاب، وبدأت أتجول في أنحاء البيت الذي أصبح منجرة، ومن بوابة خلفية تراثية دخلت للساحة الخلفية وصعدت درجا تراثيا من الحجر ووثقت عدستي كل هذا الجمال والتراث حتى المغالق المعدنية للأبواب، لنتجه بعدها إلى مبنى معرض للهدم إن لم يتم تدارك الأمر وهذا المبنى كان مطحنة تراثية للقمح وتجولنا في مجموعة من البيوتات التراثية حتى قارب وقت العصر فاتجهنا لبيت صديقي باسل النمري "أبو شجاع" الذي كان قد أصر على حفل غداء على شرف لقائنا بعد 40 عاما لم نلتق فيها، دعوة حفلت بالكرم العربي الأصيل وطيبة أهل الحصن وروعتهم، كان عدد المدعوين كبيرا مما أتاح لي فرصة التعرف والاستماع إلى عدد كبير من أهل البلدة، وتسامرنا حتى المساء لنتجه بعدها لتعليلة مضافة الحصن، حيث يلتقي فيها كل أسبوع أدباء وشعراء ومن أهل البلدة وخارجها في تعليلة جميلة تمتد لمنتصف الليل، فتمتعنا وزوجتي بهذه السهرة واستمعنا لأشعار وأغنيات تراثية، وكانت فرصة جميلة للاستماع للشاعر الشعبي المبدع "أبو راكان"، لأعود وزوجتي بعدها إلى عمان قرابة منتصف الليل.
لم تنته حكايتي مع الحصن ولا أعتقد أنها يمكن أن تنتهي بعد أن استوطنت الحصن وأهلها في القلب، وخلال فترة قصيرة كانت قد وجهت لي دعوة لندوة أتحدث فيها عن الحصن وتاريخها مع عرض الصور على نهج نداوتي في أكثر من مكان في فلسطين وخارجها، فكانت فرصة للقاء والحديث ضمن حضور رائع وجميل من أهل الحصن ومن خارجها والتي قالت عنها الإعلامية منى عساف في تغطيتها الإعلامية التي نشرت بكثافة في الصحافة والمواقع الالكترونية: " بدعوة من جمعية الشابات المسيحية وبالتعاون مع المبادرة الشعبية ومنتدى الحصن الثقافي، تمت دعوة الكاتب والناقد والإعلامي جيوسي لعقد ندوة ثقافية ليشارك أهل الحصن أسرار بلدتهم وحكايات الأجداد والجدات تحت عنوان: "الحصن ذاكرة وتاريخ وحضارة" وذيلت الدعوة بكلمات جميلة تعبر عن حب أهل الحصن للكاتب وتقديرهم له، لدرجة أنهم لقبوه بابن بطوطة فلسطين.
بدأت الندوة بتقديم الكاتب للحضور من خلال عريف الحفل الدكتور برهان طشطوش رئيس لجنة المبادرة الشعبية في الحصن، ثم وجه الضيف كلمة شكر للحصن وأهلها، وللفنانة التشكيلية الشابة رنا حتاملة على توجيهها الدعوة له لزيارة الحصن والتجوال فيها وترتيب برنامج الزيارات، وللسيدين محمد الحتاملة وباسل النمري اللذين رافقاه في الجولة يومين، وكل من قدم له معلومات أو تسهيلات، وتطرق المحاضر إلى تاريخ الحصن وذاكرتها موثقا الحديث بعرض صور بعدسته تشهد على جمالية المكان، وتشير إلى تعدد الحضارات التي مرت عليها عبر العصور بدءا من العهد البرونزي حتى العصر الحالي، وتحدث عن أنماط وأشكال البناء ومدلولاتها لكل عصر تم بناؤها فيه، وخلال حديثه كان واضحا عليه الإعجاب بكل ما وجد في الحصن من تاريخ غني بالحضارات ومكتنز بالعلم والأدب والثقافة والمثقفين مثل متحف المرحوم أديب عباسي".
كنت أنهيت جولاتي الأولى في الحصن وتوجهت بعدها بفترة لمدينة إربد لمشاركة الفنانة التشكيلية رنا حتاملة تكريمها كضيف شرف في بلدية إربد، إذ فاجأتني كعادتها بأنها رتبت موعدا في المساء لزيارة البيت الذي كانت تقيم فيه الفنانة والمربية والكاتبة والشاعرة روضة أبو الشعر قبل أن ترحل روحها للسماوات، وهو بيت تراثي متميز بجماله وكنت فقد تحدثت عنه ووثقته بالصور من الخارج، فكانت فرصة لا يمكن أن أتركها تضيع فتوجهنا للحصن وكان بانتظارنا الدكتور فيصل نادر أبو الشعر والدكتور مازن مرجي، وصعدنا الدرج إلى الطابق الثاني حيث مساحة واسعة مبلطة بالبلاط التراثي، ومن بين الأقواس الحجرية كنت أنظر إلى الحصن في الليل قبل أن أدخل لمكان يستحق أن يكون متحفا، فلوحات الفنانة معلقة على الجدران مشيرة لفنانة تميزت بريشتها ولم تأخذ حقها في التقدير كفنانة وكأديبة وشاعرة، فوقفت بذهول أمام هذه اللوحات وأمام مكتبتها وكتبها والمقتنيات التراثية في المكان، وشعرت بتقدير كبير لجهود الدكتور فيصل بحرصه على مقتنيات عمته، وشعرت بالألم أن المرحومة بعطائها الكبير لم تأخذ حقها بالتكريم ولو بعد وفاتها، وسعدت بكتبها التي أهداني إياها الدكتور نادر من كتبها ورافقتني إلى رحاب فلسطين حيث قرأتها جميعا، ومنها: يا ريت، بيادر الشوك، أمثال من البيئة الأردنية، الحقل ينتظر المطر، لمن يضحك الصبار، شعراء من مدينتي الحصن، أخي نادر، مرثاة أخي نادر، غابة الاحتراق، واعتقدأن من حق هذه الأديبة أن تكرم من خلال رابطة الكتاب واتحاد الكتاب في الأردن، ومن خلال وزارة الثقافة الأردنية، ومن خلال رابطة الفنانين التشكيليين الأردنيين، ومن حقها على أهل الحصن أن يتحول هذا المكان إلى متحف ومركز إبداع للفنون التشكيلية.
غادرت الحصن ومشاعر جياشة في روحي وقلبي للحصن وأهلها ولكل من رافقني هذه الجولات، تاركا فيها بعضا من الروح، وتلفت إليها حين وصلت أطرافها وهمست: سنلتقي مرات أخرى أيتها الجميلة.. وعدت إليها مرة أخرى حين قامت ثلة رائعة من أهالي البلدة بإحياء ذكرى الأديب عباسي واتصل بي العزيز د. مازن مرجي فسعدت بالحضور والمشاركة وإلقاء كلمة ارتجالية بالمناسبة، فقد كنت تحدثت في المقال الأول عن ضرورة الاهتمام بمتحف وصومعة الأديب وإحياء ذكراه هذا المبدع والفيلسوف، وسعدت للمشاركة الكبيرة من مثقفين ومهتمين وأبناء البلدة، فتجولت في صومعة ومتحف الأديب الكبير وشاهدت ممتلكاته التي لم يتح لي رؤيتها في زيارتي الأولى، ووثقت عدستي كل ذلك إضافة إلى المعرض الفني المتميز للفنان التشكيلي الكبير سعيد حدادين والفنانة التشكيلية الألقة رنا حتاملة، وبدأت أعد نفسي لاستكمال جولاتي في شمال الأردن، حيث كان ضمن برنامجي زيارة إربد وموقع معركة اليرموك وأم قيس والحمة والشونة الشمالية ومخربا وحوفا وصمد وغيرها من بلدات تروي حكاية الأجداد والتراث والتاريخ، وهذا ما سأتحدث عنه ضمن الحلقات القادمة من رحلاتي التوثيقية للشمال الأردني الجميل.
وسوم: العدد 762