تافوغالت قرية سياحية فاتنة ببنية تحية بالية وفوضى قياسية
سبق لي في السابق أن حررت مقالا عن تافوغالت القرية الجبلية الساحرة التي أنا مدين لها بالثناء ،وقد قضيت بها أياما سعيدة من طفولتي وشبابي ، وكان ما كتبته يومئذ عنها تعبيرا عن غيرتي على نظافتها وقد عاينت الزبالة المتراكمة في الجدول الذي يمر وسطها ، وقد كان أيام الزمن الجميل دائم الجريان ،ويتحول من أعلى مغارة الحمام حيث ترقد عظام الإنسان القديم الذي سكنها إلى شلال خلاّب. واليوم وقد أصبحت هذه القرية الجميلة بطبيعتها الفاتنة مقصدا للسياحة أكثر من ذي قبل ،لا زالت مع شديد الأسف بنيتها التحتية بالية بما للبلى من دلالة قدحية ، ولا زال جدولها الذي يشكو من الجفاف مترحا للنفايات كما كان. ولا زالت الفوضى هي الظاهرة الغالبة على من يمارسون فيها نوعا من التجارة المفضلة لدى زوارها حيث نصب في حيز منها ما يشبه الخيام المرقعة بخليط من القماش الأكياس وقطع البلاستيك ، في هندسة هي غاية في الفوضى والنشاز بل فوضاها قياسية بمقياس " جينس " .
ومما ابتليت به هذه القرية الوديعة أن الطريق المزدوج الرابط بين مدينة بركان ، ومدينة العيون الشرقية قد مر شق منه وسطها بينما دار حولها الشق الآخر الذي سرعان ما انهيارت حجارة وتربة منذ مدة طويلة ، ولا زال معطلا لحد الساعة في انتظار إصلاحه . ولقد فصل هذا الشق الدائري بعض المساكن عن وسط القرية دون تتفتق عبقرية من وضع هندسته عن التفكير في رمي جسر حديدي فوقه لتسهيل حركة المارة من ساكنة القرية الذين صاروا معزولين يعانون كثيرا من أجل الوصول إلى قضاء مآربهم التي كانت على مرمى حجر من مساكنهم ، وصاروا يقطعون ممرا جبليا وعرا ومغبرا إذا ما أعوزهم اقتناء مقتنياتهم اليومية .
ومن الظواهر السلبية في هذه القرية المسكينة تزايد ركن عدد السيارات والعربات في شارعها اليتيم ، وفي مدارها الضيق أصلا نظرا لطبيعتها الجبلية ، وحيثما ولى الإنسان وجهه يرى حرسا من أصحاب الوزرات الليمونية، الشيء الذي يعطي انطباعا بأن القرية ربما قد حل بها الأربعون حرامي من أصحاب علي بابا ، وأنها قد صارت مرتع اللصوصية مع أنها منذ أن خلقها الله تعالى وهي آمنة مطمئنة يأتيها رزقها من كل مكان حتى حل بها ما حل، والله أعلم أوهو ابتلاء منه سبحانه وتعالى أم نقمة ؟
وصباح هذا اليوم عاينت شجارا بين أصحاب الوزرات الصفر سببه التنافس على ملكية أماكن الركن التي يتوهمون أنها قد أصبحت عقارا في ملكهم، ولم تعد أماكن عمومية لكل الناس حق فيها . وقد سمعت أحد الباعة يقول عنهم إنهم يحصلون أجورا مجانية يوميا لا ندرها نحن الباعة ،ولكنهم لا يحمدون الله عز وجل على ذلك .
ومما ابتليت به القرية التي تستحق كل عناية ورعاية ، وهي التي تحتضن زوارها بجوها اللطيف في عز الصيف القائظ ، والناس في المدن المجاورة لها يصطلون حر هاجرة غير معتاد استغلال بعض الباعة ـ دون أن نعمم الحكم على جميعهم ـ الزوار وابتزازهم بالرفع من أسعار بعض المواد أذكر منها على سبيل المثال لا الحصر الإسفنج التي تطلب صاحب محل إعداده ثلاثة دراهم للاسفنجة الواحدة، وذلك ، في غياب الرقابة، وفي غياب من يوكل إليهم حماية المستهلك . وأما الفواكه ففضلا عن الزيادة التي تنسب إلى موجة الغلاء التي تضرب البلاد، هناك غلاء إضافي يفرضه من يسمون " الفراشة"وهم الذين يحتلون أحيازا من وسط القرية ، وهم في الحقيقة يمارسون البطالة المقنعة نقولها لا نكاية فبهم، ولا شماتة بهم بل إشفاقا على وضعيتهم خصوصا ومعظمهم من الشباب الضائع الذين ضاقت بهم سبل العيش ، وانسدت آفاق طلبه.
ومع تعاطفنا مع كل من يمارسون التجارة في هذه القرية لأن معظمهم وضعياتهم المادية في غاية الهشاشة ، فإننا ننكر عليهم مغالاتهم في أسعار ما يعرضون من بضاعة دون وازع ديني أو أخلاقي في غياب الرقابة الحامية للمستهلك . وأما بعض الفواكه، و نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر التين والتين الشوكي فتسوق بأثمان مبالغ فيها ، وكأنها من فواكه القارة الأمريكية أو من فواكه أدغال القارة السمراء . ولقد ابتعت زوال هذا اليوم أرغفة خبز من شعير من أحدهم ثمن الرغيف أربعة دراهم ، فلما لاحظت الزيادة في سعره ، انبرى لي أحد جلساء بالنقد ،ويطلب مني أن أشكو الغلاء إلى رئيس الحكومة ، ثم ختم كلامه بالقول لو كنت صاحب الخبز لما بعته لك بأقل من عشرة دراهم ، وكان ردي عليه أما أنا فلن آخذه منك حتى مجانا ،وانصرفت معرضا عن جهالته .
ومن المثير للسخرية والشفقة في نفس الوقت أن أعشابا من الغطاء النباتي للقرية والموجودة على مرمى حجر من أماكن عرضها،يطلب فيها ملتقطوها أثمنة مبالغ فيها وكأنها وافدة من شبه جزيرة الهند مع أن الغطاء النباتي للقرية المعطاء يجود بها على كل من يزورها إذ يكفيه أن يخطو بضع خطوات على الطريق التي تمر بها ليحصل بيسر وسهولة على حاجتها منها ، لكن الذين يحتكرونها من أولئك الباعة يتصرفون فيها تصرف ملاّكها نيابة عن خالقها تعالى ، وكان عليهم أن يكتفوا بتحصيل ثمن أتعاب التقاطها لأنهم لا يدفعون ثمنها ، وهي هبة من هبات الله تعالى في هذه القرية ، وقد أنعم بها عز وجل على جميع من يحل بها ضيفا أو زائرا .
ومما ابتليت به القرية الوديعة أيضا جفاف ضربها لسنوات متتالية ، وقد كانت في فترة الزمن الجميل لا ينضب ماء ينابيعها المتدفقة حتى في أعلى قمم جبالها ، وكانت وديانها جارية دائمة الجريان ، وقطوفها دانية . ولقد جفت عينها التي كانت تتوسطها والتي كانت مقصد الزوار منها يرتوون أو لنقل بالأحرى قد جففت ، ونقلت إلى غير مكانها عبر أنبوب ،والله أعلم هل الماء الجاري منه ماؤها أو مصدره غيرها ؟ . ولقد أصبح مشكل الماء بها يدعو إلى القلق الشديد ، وهو في نقص متزايد ينذر بما لا تحمد عقباه لا قدر الله .
ومن أجل تدارك ما يتهدد هذه القرية السياحية الفاتنة هو غياب الاهتمام بها ، والتفكير في مشاريع تجعلها تلحق بغيرها من المناطق السياحية التي تستهوي الزوار . وأول ما يجب التفكير فيها ، هو مراجعة جذرية لبنيتها التحتية بدءا بمرآب كبير يحل مشكل ركن السيارات ، ويكون أسفل الأرض ، تليه بنايات جديدة تحل محل البنايات التي تركها المحتل الفرنسي، وتكون عبارة عن مطاعم ومقاه، ومتاجر في الطابق الأول ، تليها في الطوابق العليا فنادق أو مساكن . ولا بد من حل لمشكل التجار الذين يحتلون الحيز الحالي الذي من المفروض أن يكون متنزها أو مساحة خضراء ، وفضلا عن هذا وذاك لا بد من مزيد مسابح لأن المسبحين الموجودين فيها لا يستوعبان من يرتادهما من الزوار خصوصا في عطلة فصل الصيف .
ومعلوم أن أساس تغيير ملامح هذه القرية لتكون في مستوى ما حباها به الله عز وجل من جمال الطبيعة هو تغيير ذهنية المسؤولين عن تدبير شأنها لتكون ذهنية بينها وبين التدبير البالي الذي لم ينهض بها لعقود طويلة قطيعة ، ودون ذلك لا أمل في أن تلحق هذه القرية بمثيلاتها من القرى السياحية في وطننا العزيز.
وسوم: العدد 992