لتونس سحر آخر 1
لتونس سحر آخر
الحلقة الأولى
زياد جيوسي
عضو لجنة العلاقات
الدولية في
اتحاد كتاب الانترنت العرب
هي تونس بكل ما كان يحمله القلب من حنين، أصِلها عصر الأربعاء الخامس من شهر 12 للعام 2012، وكانت آخر مرة زرتها في العام 1993 ولم يتح لي معانقتها بعد ذلك، وكان المفترض أن ترافقني ختام زوجتي، ولكن تعثر تأشيرة الدخول وتأخرها، منعها من مرافقتي فسافرت وحدي وفي القلب غصة، واعداً إياها أن أعوضها الرحلة ذات ربيع برحلة سياحية بدون مؤتمرات تأخذ معظم الوقت، وحين أطلت الطائرة على أجواء تونس من كل هذا الارتفاع، شعرت أني أتنشق عبقها والياسمين، وشعرت بروحي وقلبي يريدان القفز من لهفة اللقاء، وشعرت بطيفي يرافقني ويهمس لي: ليت أني معك جسدا كما روحي ترافقك، فأقطف لي من ياسمينات تونس وردتين.. فهمست: أنتِ معي وستبقين طيفي المتمرد والمنى، وعبق الياسمين وفنجان قهوتنا.
هي تونس بكل ما تحمله الكلمة من معنى، حتى وجدت نفسي أهمس بصوت ربما كان مرتفعاً: لتونس أغني.. لأهلها وشعبها وأرضها، للأحبة والياسمين، ولروح أبي القاسم الشابي أغني.. لشهداء فلسطين فيها، والدماء التي سالت على طريق حرية فلسطين، لكل من عرفت من أصدقاء وأحبة رائعين، لابتسام مكور وريم قمري ومنيه بوليلة، والفنانين آمال حمروني وخميس بحري أغني، ولابنة بلدي المحامية رندة قطب وللرقيقة د. سلمى سلامة ود. جوهر الجموسي، وللصديق الرائع سفير تونس في فلسطين الأستاذ لطفي المولّي، الذي منعه الاحتلال من العودة إلى فلسطين والتقيته في عمان قبل سفري، والذي بذل جهودا رائعة حتى أمن وصولي لتونس، لهم جميعا غنيت وسأبقى أغني.
ما أن حطت الطائرة وأنجزت معاملات الدخول وخرجت، حتى فوجئت بالصديق والشاعر الرائع طلال حماد ينتظرني، ولجنة استقبال من مؤتمر الأيام العربية للأمن في الفضاء السيبراني (الدورة الثالثة) الأيام الدراسية محمد الزين، فكان لقاء حميم مع الصديق والشاعر الرقيق طلال حماد، ومع الرقيقة د. سلمى سلامة دكتورة القانون في كلية الحقوق والعلوم السياسية في تونس، وعضو مخبر قانون العلاقات الدولية والأسواق والمفاوضات ومنسقة المؤتمر، ولقاء أجمل مع جوهرة تونس صديقي الرائع د. جوهر الجموسي أستاذ الملتيميديا في جامعة منوبة بتونس، والذي يحمل اسم جوهر وهو اسم على مسمى لجوهرة حقيقية يرافقهما الشاب الرائع اللطيف د. أمين أعزان أستاذ القانون الخاص والقانون الالكتروني في جامعة مولاي إسماعيل في المغرب، والدكتورة سلمى والدكتور جوهر التقيتهما أثناء مشاركتنا في المؤتمر الثاني في الجامعة الأردنية في نهاية عام 2011، ومن المطار إلى الفندق مع الصديق طلال حماد ,احاديث الشوق والوطن، لألتقي بعدد من الأحبة الذين وصلوا الفندق قبلي.
من غرفتي بالفندق، وقبل أن أنزل لباحته لأجلس مع الأصدقاء، كنت أطل من النافذة فتغمرني المشاعر، فلم تمتلك عدستي إلا أن توثق لحظات الوصول كما وثقتها من الجو ووثقتها في المطار، رغم الغيوم والأمطار والبرد، فقمت بذلك ونزلت للقاء الأصدقاء أعضاء مؤتمرنا الثالث، ولتضعنا د. سلمى بصورة برنامج المؤتمر والترتيبات له، لنغادر بعده إلى مطعم قريب مع د. جوهر لتناول العشاء وأطراف الحديث، وبعدها عدنا إلى الفندق للراحة فلدينا برنامج مكثف على مدى يومين من الثامنة صباحا حتى السابعة مساء.
في الصباح وبعد الإفطار المبكر كنا نتجه إلى قاعة المؤتمر، فكانت جلسة الافتتاح مع حضور رسمي جميل، وطوال الوقت لم أهدأ، فبعض من مهماتي في المؤتمر توثيق المؤتمر بالكلمة والصورة، ونشر أخبار المؤتمر عبر وسائل الإعلام المختلفة، وقدمت ورقة عمل تحت عنوان: الأمن الثقافي والفكري في تحديات مواجهة الشبكة العنكبوتية.
في اليوم الثاني من وصولي، كان المؤتمر يأخذ وقتنا من الصباح حتى المساء، وبعد انتهاء أعمال المؤتمر بعد السادسة مساء، كنا مدعوين للعشاء في البلدة القديمة، كان مضيفونا في المؤتمر قد اختاروا مطعماً يحمل اسم السرايا، وما أن وصلنا هناك ورأت عيناي المكان رغم أن الليل قد أرخى سدوله، حتى شعرت بكل التعب يفارقني وجهد اليوم الطويل والمكثف قد زال، فعاشق اعتاد أن يستمع لهمسات الأجداد في الأزقة التي تحمل عبق التراث والتاريخ وتروي الحكايات، لا يمكنه إلا أن يمارس عشقه في كل أرض عربية، فسرت مع صحبي وأعضاء المؤتمر في الأزقة المقنطرة، ورغم أن الوقت ليلاً، إلا أني لم أتوقف عن التقاط الصور، توثيق جمالية اللحظة بعدسة القلب.
كان يرافقنا شيخ يرتدي الزي التقليدي ويحمل فانوساً تراثياً يسير معنا ويشرح لنا عما نراه، فمن زاوية سيدي بو خريصان والذي يعود لفترة دولة بني خراسان، مرورا بأسواق تحمل أسماء عدة جعلت نابلس والقدس ودمشق تحضر بتاريخها وأسماء أسواقها بقوة، مثل سوق يحمل اسم سوق السكاجين.
وصولا إلى قبر عبد الله الترجماني الذي نقش عليه أنه مفخرة الدين الإسلامي، وكان بالأصل قساً إسبانيا ولد في ميورقة عام 1355م، وأسلم وألف كتباً عن الإسلام، ووصل إلى درجة وزير في تونس قبل أن يتوفاه الله في العام 1423 م، وصولاً إلى مبنى تراثي قديم جرى ترميمه وزخرفته بأجمل الزخارف التي تحمل عبق التراث والتاريخ، فأصبح تحفة فنية تحمل اسم مطعم السرايا، ومرفق به سوق تجاري تراثي جميل، ومع عزف على العود وأغنيات أصيلة، وأطعمة تراثية وشعبية، كنا نعيش لحظات من جمال وحلم، ووجدت نفسي أهمس: لم أعرف كيف تمكنت تونس من السيطرة على قلبي ومشاعري، كيف تغلغلت في الشرايين من اللحظة الأولى للقاء، فشعرت أن تونس تطوقني بحبها كعاشقة وتسألني: أيا زياد أنا التقيتك وأعرف أنك عاشق لرام الله وتذوب هوى في عمّان، فكيف تعلقتَ بك وتعلقتَ بي؟ ما الذي جرى؟ وما الذي يجري؟
فهمست لها: ربما كنتِ حلماً حلمت به عبر العصور، إنه الحب.. والحب لا يمكن تعريفه ومعرفته بدورق المختبر، الحب مسألة غامضة لا يمكن لأحد أن يُعرّفها، هي لحظة كالصعقة، فلا تفكري بما جرى ولا بما سيجري.. في الحب نكون كأننا نركب زورقاً في البحر بدون مجاذيف، الريح تسيّر المركب تارة والنسمات تارة.. فدعي مركب الحب يحملنا بدون سؤال وبدون تفكير..فهمست تونس في أذني: موافقة!! إن كنت ستكون لي الحب الحقيقي.. وأردفت بهمساتها: أمعقول هذا، وهل يمكن لي أن أعيش هذا الحب الآن بعد أن بلغت هذا العمر؟ فأنا لا أفكر بطريقة سلبية بل أحاول أن أفهم نفسي وما أمر به الآن من عواصف.. ولكني دهشتي وصدمتي وعشقي وتمردي وجنوني وحبي، كلها مجتمعة فوق روحي، تتحاور بكل قوة وقلبي ينتفض عند كل حوار، وجسدي يرتعش، وأنوثتي تتمرد وتقاوم، وعقلي يقاوم كل جنوني، وما زلت بين زيزفونة وسنديانة، وفنجان قهوة ولفافة تبغ، وعبق ياسمينة وعشقك لمدينتين.. أترنح.
كم تمنيت لو أن الوقت والظرف العام القلق في تلك الفترة سمح لي أن أعود إلى البلدة القديمة نهاراً، كي أجولها بكل دروبها وأزقتها، وأوثقها ضمن رحلتي بالقلم والصورة، واعداً نفسي بزيارة أخرى لتونس، بعيدة عن المؤتمرات التي تأخذ معظم وقتي، كي أجول تونس كلها كما يجول عاشق روح محبوبته.. فشكراً لمضيفينا الرائعين، شكراً لتونس التي منحتنا كل هذا الحب، الكرم، حسن الضيافة، ممثلة بأهلها الطيبين والقائمين على المؤتمر والمشاركين فيه.
رام الله في هذا الصباح تبشرنا بالخريف، نسمات باردة تداعبني من نافذتي، أقرأ كلمات جميلة للصديقة نيروز غطاسي من تونس، فيثور الحنين في روحي، أجلس وأكتب لتونس وذاكرة تونس، وأنا أنظر إلى علم تونس الذي أهدتني إياه فتاة تونسية لا أعرفها، في اعتصام احتجاجي للفنانين التونسيين أثناء زيارتي، وأحرص أن يبقى معلقاً على الواجهة أمامي معانقاً علم فلسطين، وأشعر بروح طيفي البعيد القريب تشاركني الذاكرة واحتساء فنجان القهوة، ونستمع لشدو فيروز وهي تشدو أغنية شدتها لتونس في العام 1968: (يا تونس الشقيقة يا وردة البلدان.. إليك يا سليلة الملاحم يا نجمة القصائد القديمة إليك يا قرطاجة العظيمة، حبي وما يحمل من مياسم، لشعبك الأبي من شعبي الأبي، وأن مجداً كان ما بين شاطئينا يبقي علي الزمان)... فأهمس: صباحك أجمل يا وطني من محيط حتى خليج.. صباحك أجمل يا تونس.. صباحك أجمل رام الله..