مشاعر متناقضة
إنطباعات أولية وكلمة وفاء
أحمد مولود الطيار
وقع قلبي في بيروت، صعدت الى الطائرة بلا روحي، أجرّ قدمي بتثاقل فظيع. لا أيادي تلوح لي ولا دموع يكفكفها أحد.
قبيل السفر بيومين وفي مؤسسة الشهيد سمير قصير قالت لي مايا اللطيفة: اذهب لا أحبّ الوداع. وعند الباب التفتّ ورائي لمحتها تلمّلم دمعة ربّما ستخونها. هي ربما الدمعة الوحيدة التي كدت أراها بأم عيني.
ودعت أغلب الأحبة على الهاتف، انتهت أغلبها حشرحات غير مفهومة. غريبة هي المسافات، أغلب من ودعتهم من السوريين مضى على أخر لقاء لي بهم سنتان ونصف السنة وبعضهم لم أره مطلقا، جمعني بهم ال"فيس بوك" والهاتف، لكن شعر كلينا بشئ ما، غامض لا تفسير له. هل هي كندا التي تنتمي الى العالم الآخر أم أن بيروت والاحساس أنها قريبة وان عزّ اللقاء؟!
بيروت رغم تضاؤل الجغرافيا هنا لكنها أيضا كانت بعيدة . لن يتغير شئ سيبقى الهاتف ويبقى الانترنت وسيلة تواصلنا، ولكن لماذا هذا الشعور بالفقد!؟ ربما كما قالت احدى الصديقات: "أنه أجل عودتنا" والمقصود العودة الى سوريا. ربما هو الشعور بأن "سوريانا" تتسلل من بين أصابعنا كحبات الرمل أو ربّما أن موعدنا قد تأجل واللقاء مع من نحب غدا في عالم الغيب.
من بيروت الى فرانكفورت ثلاث ساعات وعشر دقائق كنت كمن يجلس في عزاء لشخص حبيب، لم أستطع أكل شئ ولا شرب أي شئ وشعور بالمرارة كان يمرمر حلقي ويقبض عليّ. في استراحة الأربع ساعات في مطار فرانكفورت بدأ التغيير يفرض نفسه وأول ضحاياه كان فنجان القهوة الصباحي الذي كان يترافق مع سيكارات ثلاث أو أربع (أدمنت هذه العادة في بيروت اذ انني لم اتعاطى التدخين في سوريا مطلقا) فنادلة الكافتيرا في استراحة المطار كشّرت في وجهي عندما قلت لها: "قهوة تركية لو سمحتي" فصححت لي طلبي: "قهوة ألمانية" .
شعرت وقتها أنني ارتكبت هفوة كبيرة معتقدا أنني جالس في احدى مقاهي بيروت التي ترطن بكل اللغات، ونسيت أني في حضرة الاباء الألماني الذي لا يحدّث الأمريكان الا الألمانية حتى وان لم يفهموها.
كانت ساعات فرانكفورت الأربع طويلة أمضيت ثلثها متمددا عاى أحد المقاعد بين مستيقظ ونائم وفي قسم منها، القراءة من كتاب كنت أحمله معي لتعليم اللغة الانكليزية وفي قسم لا يستهان به أمضيته متلصلصا على شاب سعودي وفتاة سعودية محجبة (عرفت ذلك فيما بعد لأنهما توجها الى فانكوفر معي على نفس الطائرة) وجلسا في ركن قصي من الاستراحة ووضعا بينهما وبين الآخرين حمالة لنقل الأمتعة وضعا عليها أمتعتهماا فغدت حاجزا منيعا ليمارسا حريتهما التي افتقداها في بلدهما فكانا يطعمان بعضهما البعض ويتغامزان ويتراقصان بكل فرح ثم رأيتها تغفو فيما بعد على صدره. قلت في سري بخبث: "أين هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر"؟.
من فرانكفورت الى فانكوفر كانت رحلة مرهقة ومرعبة بكل معنى الكلمة، فأن تطير على مدار قارة شبه كاملة وفوق محيط لمدة أربع عشرة ساعة فذلك ما لم يتحمله عقلي، أنا الذي لا يستطيع الجلوس مدة ساعة واحدة في مكان واحد، فكيف لك أن تجلس بين أربعة أشخاص كل هذه المدة لا يفهمون عليك ولا تفهم عليهم، حيث حظي العاثر وضعني في المقاعد الأربعة التي في المنتصف وأيضا الى المقعد الثاني في المنتصف حيث على يميني كندي من أصل هندي وعلى يساري شاب بريطاني تليه صديقته .
كانت الطائرة ومن خلال سحنات ووجوه الركاب ولكناتهم صورة مصغرة عن كندا التي نتوجه اليها فالوجوه الصفراء والعيون والحدقات الضيقة كانت لهم الأكثرية ويوجد القليل من ذوي الشعر الأسود والعيون السود والقامة المربوعة، وكذلك أصحاب العيون الزرق والشعر الأشقر وطوال القامة.
ثقافات كثيرة وألبسة متنوعة وألسن تترجم كل اللغات كلها كانت تتجه واتجهت حيث دولة تصنّف الآن في عداد الدول الثمان المتقدمة في العالم.
من مطار فانكوفر المدينة التي انتخبت لثلاث سنوات من العقد الماضي كأجمل مدينة في العالم قادني مستقبلي - مندوب وزارة الهجرة والجنسية الكندية - الى بناء يقع في مركز المدينة يطلق عليه "بيت الضيافة" وأطلقت عليه في ثاني يوم لوصولي بيت المقهورين أو بيت العالم الثالث حيث كل نزلائه من الصومال وأريتريا والسودان والحبشة - أصر محدثي الأثيوبي على الحبشة رافضا تسمية أثيوبيا - والعراق وايران وكنت السوري الوحيد.
جمعت من قصصهم نتفا لا يعتدّ بها انّما قاسمها الحروب والجوع والخوف والقمع والاعتقال وبلاد لم تتعرّف بعد على كلمة "مستقبل"
كنت أطمح أن أجري تحقيقا شاملا عن نزلاء هذا البيت لكن اللغة لم تسعف.
ختاما أردت بهذا المقال مشاركتكم جزءا من أحداث رحلتي، حق الأصدقاء على بعض، كذلك أغتنمها فرصة لأتقدم بكلمة وفاء الى مؤسسة الشهيد سمير قصير التي ساعدتني ووقفت معي وربما لولاها لأكلت أرصفة بيروت جزءا مني.
للصديق سعد كيوان مدير المؤسسة الذي لا أفيه حقه.
وأولا الصديق الخلوق زياد ماجد الذي لولاه ما كان أي شئ.
ومن الأصدقاء السوريين أود شكر أولئك الذين احتفوا بي عندما قدمت الى بيروت حسن الهويدي وعهد الهندي ومحمد العبدالله وعليا منصور الذين لم يقصروا معي أبدا. وفي سوريا بودي شكر الكثيرين لكن ربما للشكر هنا عواقبه لذلك لن أجازف وأذكر أسماءهم.
وأخيرا لكم أصدقائي الذين تحملتم عناء قراءة أسطري هذه وما كنت لأكتب بهذه ال (أنا) لولا طغيان الوجع ولولا تداخل الخاص بالعام، فمعذرة وكلي توق وأمل أن موعد لقاءنا كسوريين في دمشق ليس بالبعيد.