رمضان مميز
رمضان مميز
إلهام محمد صبري بيره جكلي
اعتدت في رمضان أن يكون لي برنامج آخر يختلف عن حياتي في غيره ... كنت في غيره أختم القرآن مرة كل شهر، وأعمل على حفظ شيء منه . أما فيه فإني أختمه ثلاث مرات ، وأراجع حفظي ، وأبتعد عن التلفاز إلا بعض البرامج الإخبارية ... لكن شاء الله سبحانه وتعالى أن يكون لرمضان هذا العام طعم مميز عن غيره، فقد دعيت وزوجي إلى إيطاليا، مدينة "بولونيا" ليكون ضيفا على مسجدها.
وصلنا مساء اليوم الثامن من هذا الشهر المبارك إلى المسجد ، وصلينا العشاء معهم والتراويح .... وعدنا إلى المسجد صباح اليوم التالي أن تعرف على القائمين عليه . وفي مصلى النساء تعرفت على شابات ، وتحاورنا ... ثم حددنا موعداً لدرس نسائي في المصلى ، ومساء في فسحة صلاة التراويح تعرفت على أخوات عربيات من كثير من الأقطار واتفقنا على أن تمر أخت سورية ضحى كل يوم – في العاشرة – لتحملني إلى المصلى فنجتمع على قراءة القرآن ، نتدارس معاني آياته ، ونغترف من كنوزه .
برنامج حافل يبدأ كل يوم من العاشرة تماماً حيث نقرأ القرآن الكريم ونفسر بعض آياته ،ثم يكون درس تترجمه الأخوات العربيات إلى اللغة الإيطالية .. فهناك ثلاث مسلمات إيطاليات يحضرن الدرس ، ثم تُقام صلاة الظهر فنصلي ،وتذهب العاملات منهن إلى عملهنّ ،وأذهب مع الأخت أم سعيد إلى بيتها ، فهي صديقة وأخت عزيزة كريمة وأنا أحب بناتها المؤدبات ، فقد ربتهن أمهن في هذه الغربة تربية صالحة _ ولا أزكي على الله أحداً _ لكن جهدها معهنّ واضح وقد يحضر بعضهن إلى بيتها كذلك فتكون الفائدة جيد ... وقريب المغرب توصلني إلى مقر إقامتنا لنفطر ، أو يحضر زوجي مع أحد الإخوة لأرافقه إلى المسجد كي نفطر فيه أو إلى دار أحدهم إذا كنا مدعوّيْن . ثم نجتمع في المسجد ثانية لصلاة التراويح والدرس العام بعد الركعات الأربع ، ونعود إلى البيت لأحضر درساً لليوم التالي وأنام ، لنقوم قبيل الفجر عسى الله تعالى أن يتقبلنا في عباده الصالحين ... إنه يوم حافل كما أظن أرجو أن يكون العمل فيه خالصاً لوجه الله الكريم .
رمضان مميز حقاً ، التقيت فيه بأخوات من مختلف الأعراق ، التونسية و المغربية والمصرية والسورية والروسية والإيطالية والألبانية والبوسنية واليونانية ... ولكل منهن قصة ...فالأخوات السوريات كان لهن فضل في أخذي من البيت إلى المسجد والعكس صحيح ، وبهن رغبة شديدة إلى التزود بكل كلمة ومعنى ،وقد طلبن مني تفسير سورتي النور والحجرات وحفظهما . .. والأخوات المغربيات الشابات كن يحرصن على الحضور على الرغم من عملهن – مربيات أطفال – ودراستهن ، فإحداهن في السنة الأخيرة من كلية الطب ، وأخرى في السنة الأخيرة من كلية الصيدلة ، وثالثة تدرس التاريخ ورابعة تدرس اللغات .. ولكل واحدة قصة ..... ولكل من الإيطاليات الحبيبات قصة كذلك ، فإحداهنّ أسلمت وانفصلت عن زوجها وابنتها اللذين ازورّا عنها ، وبقي معها ابنها الشاب المصاب بسرطان الدم، وكانت تحثه على الإسلام وتدفعه إليه برفق ولين ، إلى أن سألها مرة إن كان يستطيع الذهاب بدراجته إلى المسجد فأجابته أن بالإمكان ذلك لكن عليه أن يتركها خارجه فللمصلى قدسيته ، لكنه قال لها يوم وفاته وهو يهذي : أماه لقد جاءني رجل يلبس ثوباً أبيض وألبسني ثوباً أبيض مثل ثوبه وركبت دراجتي ودخلت بها إلى المسجد ولم يعترضني أحد .! فكيف تقولين : لا يمكنني ذلك ؟!... عرفت الأم الثكلى أن ابنها يودع ، فابتسمت له وطلبت إليه برفق أن يردد وراءها الشهادتين ، ففعل ثم أسلم الروح إلى بارئها .لقد قالها يا أم حسان ، قال : لا إله إلا الله محمد رسول الله . وبكت الأم ، كانت كلما قرأت القرآن أرسلت دمعها ودعت لولدها وسألت الله تعالى أن يجمعها به في مستقر رحمته .
أما الأخت اليونانية فقد تزوجها أخ مغربي منذ أكثر من خمس و عشرين سنة ، ثم أسلمت حين رأت في زوجها مثال الرجل الصالح – وهكذا الرجال – ولها منه أولاد طيبون ، وقد تزوجت ابنتها الوحيدة من أخ فلسطيني ، عاش في إيطاليا سنوات ثم عاد بزوجته إلى الأردن وقد تعرفتُ على البنت في زيارتها أمها في أواخر رمضان ... هذه الأم الواعية تعتبر أما للإيطاليات اللواتي أسلمن ، فهي تحتويهن بحسن أخلاقها وعطفها عليهنّ ومساعدتهن ، وتعمل صيدلانية ...
أما الأخت التركمانية فلسانها طليق بالقرآن ولغته ، ونطقها للعربية فصيح فقد تعلمت العربية على أيد مدرسين عرب في بلادها قبل هجرتها إلى إيطاليا .
أما إيمان .. وما أدراك من إيمان ؟! شابة روسية درست في بلادها إضافة إلى الروسية الإيطالية والإنجليزية ، فهي تجيدهما بطلاقة ، عملت في روسيا بأجر شهري زهيد يعادل "عشرين يورو " في الشهر ، ثم غادرت إلى بولونيا الإيطالية لتعمل وتؤسس حياة جيدة فعملت خادمة عند عجوز إيطالية وتعرفت في بيتها إلى شاب مغربي يسكن عندها – في البيت نفسه – فعرفها بالإسلام ، فأسلمت إذ كانت معاملته إياها لطيفة فأحبته ووعدها بالزواج ، وسافر إلى المغرب ليقضي هذا الشهر بين أهله ، ويستشيرهم في أمر زواجه منها . وحباً به وبدينه لزمت المسجد حيث تعرفت عليها فيه وواظبت على دروسه التي تسمعها من الإمام وتترجم لها أو من دروسي ، يبدو على الفتاة الذكاء والنجابة ، فقد بدأت تقرأ القرآن وتتعلم العربية ، ولم تمر أيام حتى أجادت الحروف ثم استسهلت الكلمات ، فإذا أخطأت رغبت أن تعيد الكلمة دون أن يردها أحد ليثبت فهمها . وبدأت تقرأ قراءة مقبولة بالإضافة إلى الجمل العربية التي استحضرتها في ذاكرتها وبدأت تعود لسانها على النطق بها مثل : الحمد لله ، وجزاك الله خيرا ، وما شابه ذلك ... شعرت أنها ابنتي وأشعرتهاأنني أمها ، فتوثقت العلاقة بيننا على الرغم من حاجز اللغة الذي يقف عائقا بيننا إلا أننا تجاوزنا ذلك بالحديث بالإنجليزية التي تحسنها هي وأكاد أجيدها أنا ... وتعاطفت معها خائفة عليها من أن يكون عدم زواجها من المغربي سبباً في ارتدادها – لا سمح الله – عن الإسلام ، فأخبرت الإخوة بأمرها علهم يجدون لها سبباً للثبات على دينها وعقيدتها الجديدة في حالة عدم زواجها من هذا الشاب ، وقد ذكرت لي معارضة أمه لزواجه منها وأنه يريد الاستماع لرأي أمه ، بينما لم يستمع لرأي هذه الأم عندما نبهته إلى حرمةعلاقته بها قبل إسلامها .
خلال تفسيري لسورة النور ، وحديثي عن الزنا وحرمته بكت إحدى الحاضرات بكاء شديداً كاد يقطع نياط قلبي. ثم أسرت لي أنها تعمل في حمام للرجال ، وأحياناً يتعرى الرجال أمامها تماماً وهي تنظف أو تغسل .!! فقلت لها: اتركي العمل ، والله الرازق يعوضك خيرا منه .... جاءتني بعد صلاة العيد يتلألأ وجهها إشراقاً تقول : لقد تركت العمل، وكانت ابنتها – في السابعة من عمرها – معها وقالت : تركته لتنشأ ابنتي لطيفة هذه نشأة صالحة ، .. الله هو الغني... الله هو الرزاق ... سيرزقني بحوله وفضله مالاً حلالاً.... نفوس طاهرة بريئة تشعرك أنها بحاجة إلى من يرشدها إلى الطريق الصحيح ، وأنها سرعان ما تلتزم به ...
وأخت شابة إيطالية أسلمت وبقيت تعيش مع أسرتها ، ولكنها لا تجلس معهم إلى مائدة الطعام .وقالت : إن أهلها اعتبروها بذلك متكبرة عليهم ، فالإسلام يدعو إلى التكبر على زعمهم . قلت لها : جالسيهم وآكليهم طعامهم إلا الخمر والخنزير وما حرم الله ، فأنت بتقربك إليهم تدعينهم إلى الإسلام عامليهم باللطف والحب ، وسترين بعد مدة ليست بالطويلة أنهم قريبون إليك وأن إسلامهم – إن شاء الله – على يديك . ألا تريدين ذلك ؟ ترقرقت الدموع في عينيها . كيف لا تريدهم في الجنة معها ؟!! إنهم أهلها وأحبابها ... وذكرت لها قصة سعد بن أبي وقاص مع أمه المشركة ، فقد أوصاه الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم أن يحسن معاملتها ويطيعها إلا فيما يغضب الله تعالى .
وأخرى .. وأخرى .. رمضان في الغرب مميز فعلاً .. أرجو الله تعالى أن يتقبل عملي خالصاً لوجهه الكريم .. وأن يتقبل منكم أيضا أعمالكم الصالحة .