أربعة أيام في استكهولم (1)
أربعة أيام في استكهولم
نوال السباعي/ مدريد (1)
عندما وصلنا استكهولم ليلة عيد الميلاد كانت الثلوج تغطي المدينة والصمت يلفها كعادة الأوربيين في هذه الليلة العظيمة عندهم , والتي يكون الاحتفال فيها دينيا تقليدا عائليا ,وذلك على الرغم من المفاجأة التي صدمتنا في الاختلاف بين طريقة احتفال القوم في السويد عنها عند قومنا في اسبانية, نزلنا الفندق الذي أعدته الرابطة الاسلامية في السويد لضيوف مؤتمرها الرابع والعشرين , وبتنا بانتظار بدء فعاليات ذلك المؤتمر الذي كان واحدا من أهم وأنجح المؤتمرات التي حضرتها.
ومع أن العنوان الرئيسي للمؤتمر كان " خطابنا الاسلامي ..في عصر العولمة" , إلا أن القضية الفلسطينية احتلت لحمة المؤتمر وسدته , وكانت هتافات "بالروح بالدم نفديك ياأقصى" تهز قاعات المؤتمر وأروقته حتى ليخيل للواحد منا أن هذا المؤتمر إنما يعقد في احدى العواصم العربية الصامدة والمتحدية وليس في استكهولم أرض الثلج والنأي والآخر الذي أصبح يتيح للعرب أن يعبروا عن مافي صدورهم أكثر مما تفعل عواصم العرب مجتمعة !!.
وكانت "فرقة الاعتصام" للانشاد القادمة من أكناف بيت المقدس الشريف روحاً من الحب والود والتواصل بين الحضور الذين تجاوز عددهم الألفي شخص وبين الشعب الفلسطيني الصابر المرابط السجين الرهين في أرضه .. الأرض العربية المقدسة التي احتلت عام ثمانية وأربعين .
وعلى الرغم من اهتمام جميع المحاضرين بقضية اعادة صياغة الخطاب الاسلامي في عصر العولمة الا أن كثيرين منهم اضطربوا وتخبطوا لدى الحديث عن قضية الارهاب والعنف , حتى أن أحد الأساتذة المحاضرين صنف العنف الى عنف سلبي وآخر مشروع! ولولا أن الدكتور عزام التميمي – ضمن آخرين- بطريقته الخطابية الملفتة قام بوضع بعض النقاط على الحروف لخرج المؤتمر مبتور الفكر غير ملبٍ لتوجهات معظم الحضور .
فالارهاب – من وجهة نظري على الأقل - مسألة نسبية , ولعل من أكبر سقطات الاسلاميين ومفكرييهم شأنهم في ذلك شأن معظم رجالات الأمة اليوم هو الوقوع في فخ تعريف الارهاب ودفع تهمته أو الانسياق وراء موجة الادانة غير الموفقة له , مع الاغفال شبه التام للأسباب الحقيقية التي دعت الشباب العربي والمسلم وخلال خمسين عاما على الاقل وفي مسلسل ٍفي حلقات متتالية في الزمان والمكان والمعاناة والمحن والفجائع , الى التفكير في التغيير عن طريق فوهات البنادق وحسب!.
الأستاذ الكبير أحد مربي الأجيال , وأحد المحركات الرئيسية لجيل الصحوة التي نشهدها في طول العالم وعرضه – من استكهولم وموسكو الى الخرطوم وموريتانيا والصومال - , الأستاذ "راشد الغنوشي" كانت له محاضراته المتميزة جدا وقد استولى على القلوب والعقول بتواضعه الجم والنكتة الذكية التي لم تفارق حديثه , وعلى الرغم من أن هذه هي المرة الأولى التي ألتقي فيها بالأستاذ والداعية والمفكر الكبير الغنوشي فقد استطعت أن أميز فيه أحد الرجال الكبار جدا والذي طالما اختلف فيه الناس بسبب علو قامته وتميز فكره , وذلك على الرغم من اختلافي معه في مسألة حديثه حول العنف والارهاب – ضمن غاية الاحترام له ولفكره - .
من أهم المحاضرات التي ألقيت في المؤتمر كانت محاضرة الدكتور الكويتي المتألق بامتياز استثنائي "بدر الماص" , والتي امتازت ليس بفكر نقدي علمي ثاقب فحسب , بل بأسلوب حديث جذاب وخطاب غير مسبوق استحوذ على انتباه الحضور وحقق المعادلة التي كان يرمي اليها المؤتمر وهي استعمال خطاب اسلامي حداثي متطور في عصر لم يعد يسمح لنا بالمراوحة في أماكننا لامن حيث الفكرة التي دأبنا على استعمالها خلال الأعوام الخمسين المنصرمة ولامن حيث الأساليب الاعلامية .
لقد أتيحت لي أثناء هذه الأيام الخمسة التي قضيتها في استكهولم فرصة التعرف على شخصيتين اسلاميتين في غاية من التميز والحضور الاعلامي من حيث تمكنهما من لغة الحوار والخطاب مع الجمهور بشكل عام ومع الشباب منه بشكل خاص , وهما الشيخ عبد الرحمن أبو الهيجا القادم إلينا من فلسطين الثمانية والأربعين , والدكتور الشيخ الامام عبد الله علي بصفر السعودي الأمين العام للهيئة العالمية لتحفيظ القرآن,
فأما أبو الهيجا وعلى الرغم من صغر سنه فقد استطاع أن يفرض نفسه على الجمهور ليس كداعية وإمام فحسب , بل وكرجل مجاهد مقاوم من الطراز الذي نحتاجه اليوم , ذلك أنه قد أتى هذا المؤتمر برسالة واضحة يريد حملها وإبلاغها الى الأمة عن طريق ايصالها الى هذه المجموعة المتميزة من المفكرين وأصحاب الرأي الذين ضمتهم استكهولم هذه الأيام الأربعة ضمن احتضانها لمؤتمر الرابطة الاسلامية في السويد, وقد استطاع -ومعه فرقة الاعتصام باهرة الأداء- أن يصل الى العقول والقلوب , وأن ينقلوا الينا رسائل ضرورية عن أهلنا المصابرين في الأرض المقدسة المنكوبة عام الثمانية والأربعين , وعن الشعب الممتحن المحاصر في أرضه , والذي يعامل معاملة المهاجرين غير القانونيين النازحين الى أوربة ..وهو في عقر داره!!, إلا أن الرسالة الأخطر التي نقلها وفي ايجاز وبلاغة ووضوحِ من يعرف وبالضبط قيمة الدقائق القليلة التي يستطيع أن يتوجه فيها الى جمهور من السفراء الذين سوف ينداحون في الأرض حاملين الكلمة الى من يهمه الأمر , كانت رسالة عن الشيخ الأسير رائد صلاح , الذي حمل همّ الأقصى وأطلق صيحته الشهيرة عبر قناة اقرأ الى العالمين العربي والاسلامي مذكرا اياهما بأن الأقصى في خطر , هذا الشيخ المهندس الذي تحمل خطوط الألم في تعابير وجهه ونظراته همّ أمة وجرح وجودها , والذي يقبع اليوم في سجون الاحتلال بسب هذا الجرم الهائل الذي ارتكبه وهو تذكير العرب بأقصاهم الجريح الذي مافتئت النيران تلتهمه منذ خمسة وثلاثين عاما وهم يتفرجون!.
أما الشيخ عبد الله علي بصفر ..فهو أستاذ يحمل درجة الدكتوراه, وكمعظم الجيل الجديد من الدعاة السعوديين الذين يتميزون بصغر سنهم وتمكنهم من العلم وقدرتهم الفائقة غير المسبوقة سعودياً على التواصل مع الناس وعدم التقوقع في أبراج الإمامة والتنظير للأمة عن بعد , لقد كان " بصفر " أحد نجوم هذا المؤتمر التي التف حولها الشباب بشكل خاص ليسمعوا منه قال الله وقال رسوله ولكن بأسلوب جذاب حي سلس يجد القبول والرضى بسبب من التواضع الجم الذي ميز الرجل ومن الرغبة في التحقق بخطاب اسلامي نرجوه وننتظره منذ أمد بعيد .
ولقد كانت الجلسة الختامية للمؤتمر بين فرقة الاعتصام التي غنت لجنين الصامدة بأسلوب موسيقي أدائي مذهل , وأحيت فرحتنا بالقدس بخطاب لم أسمع بمثله يتحدث عن يوم التحرير وكأنه ماثل أمام ناظري الأمة في أمل وثقة وثبات عجيبيبن لايليقان اليوم إلا بأهل القدس الصابرين المرابطين سواء داخل الخط الأخضر أم خارج هذا الخط المزعوم المفروض على شعب ينفى أبناؤه من بلدهم الى بلدهم وتقطع أواصر أرحامهم رغم أنوفهم ويحرمون من الصلاة في مسجدهم الحبيب وهم يرونه رأي العين ويشمون عطره المقدس ولايستطيعون التمرغ في ترابه الذي يرويه اخوانهم بدمائهم الزكية ليلا ونهارا منذ ستين عاما دون أن يكلوا أو يملوا... لقد اختتم المؤتمر بين فرقة الاعتصام وبين الشيخ الدكتور بصفر , اختتم بجلسة أقل مايمكن أن يقال فيها إنها من الجلسات القليلة التي يمكن للواحد منا أن يشكر الله على أن وهبه الحياة ليحضر مثلها.
-يتبع-