رحلة إلى الجزائر (4)
رحلة إلى الجزائر (4)
د. عثمان قدري مكانسي
إلى ورقله وغرداية
أعلنت ثانوية ابن سينا عن رحلة إلى الجنوب الجزائري في العطلة الشتوية فقررت وزوجتي المدرِّسَةُ فيها أن نغتنم هذه الفرصة فنتعرف عليه، وهكذا كان.. انطلقنا أول أيام الإجازة إلى مدينة "الواد" فوصلنا إليها عصر ذلك اليوم والواد مدينة صحراوية هواؤها جاف منعش تقع على الحدود الليبيّة، سكانها بسطاء يحبـون الضيف، ويتكلمون العربية أفصح من أهل الغرب، ولعل سبب ذلك قربهم من البداوة، وبعُدهُمْ عن التأثر بالفرنسيّة. زرنا أسواقها، وواحتها الظليلة، وكان ماؤها عذباً خفيفاً كأنَّهُ ماء الفيجة في دمشق الشام.. وقضينا الليل في مدرسة داخلية سافر طلابها المقيمون فيها إلى أهلهم يقضون العطلة معهم. كنتَ ترى الليبيين يذهبون ويجيئون بتجارتهم، واشترينا من السوق "ملوخيّة" فنحن نحبها ناعمة.. هكذا تعوّدنا في حلب وهكذا كانت، فأكثرنا منها.
ثم انطلقنا غرباً فتوقفنا قليلاً بباتنه وبسكرة ثم انعطفنا جنوباً إلى ورقلة.. كانت المسافة طويلة تقارب ألف كيلو متر فوجدناها عاصمة الجنوب، صحراويةً، بعض شوارعها مرصوف بالإسفلت، والبعض الآخر رملي مضغوط.. استقبلنا هناك مدير المعهد التكنولوجي وزوجته ولعلهما صديقان لمديرة ابن سينا الثانوية، واللقاء يصحبه المصافحة والعناق.. هكذا سلم بعضُهم على بعض، وهكذا سلمتُ على الرجل، لكنني اعتذرت للمرأة حين مدّتْ يدها، وصافَحتْ زوجتي زوجتهُ واعتذرت عن مصافحة الرجل، فظهر الانزعاج والامتعاض عليهما، ولا أغالي إن قلت إن المثقفين الجزائريين الذين بلغوا العشرين حين خرجت فرنسا من الجزائر عام اثنين وستين كانوا متفرنسين في حديثهم وعاداتهم، إلا مَنْ رحم الله..
فما كان من المديرة إلا أن وصفتنا بـ"المسلمين الأرثوذوكس" أي نحن ملتزمان أصوليان، فلما عرفا ذلك تغاضيا، ولم يكن مجال لتفهيم هؤلاء "المثقفين" أن ما نفعله من الإسلام..
هذا يذكرني أوّل ما بدأنا نعمل في بجاية أنني قبضت الراتب الأوّل، ولم تقبضه زوجتي، ولم ندر لماذا؟.. إلا أن القدر ساق إليَّ رجلاً وزوجته فسلما عليَّ وأنا ذاهب إلى المدرسة يوماً فصافحت الرجل، وأعرضت عن زوجته فسأل: هل هذا من اللياقة والأدب؟
قلت: هذا من الدين والأخلاق.
قال: محتداً ومن أين جئت بهذا ولم أسمع به في حياتي؟
قلت: عدم سماعك بحرمته يدل على جهل به، لا على حِلّه
قال: إن أساتذة التربية في معهدنا -فهو أستاذ في المعهد التكنولوجي في بجاية- لا يرون حرجاً في مصافحة المرأة وهم رجال الدين.
قلت: ليس في ديننا من يمثله. كلنا رجال الدين، في النصرانية خوارنة وقساوسة يشرِّعون ويمثلون دينهم.. أما نحن معشر المسلمين، فعلى كل واحد أن يكون مسلماً ملتزماً، وأساتذتك الذين ذكرتهم لا يمثلون إلا أنفسهم، وليسوا قدوة لنا إنما قدوتنا الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم.
قال: وأين دليلك من القرآن والسنّة؟
ذكرت له ذلك، ووضّحتُ الأمر.. فاقتنع وكانت زوجته إلى جانبه تسمع ولا تشارك، فهي متبرجة متزينة، فسألتها أتصلين؟ سكتت... أتقرئين القرآن جيداً؟.. سكتت.. سبرت غورها فوجدتها لا تفقه شيئاً..
قال الرجل متأسفاً: حدَّثني مقتصدُ ثانوية ابن سينا أن مُدّرِسَةً جديدةً جاءتهم، فمدَّ يده ليصافحها، فامتنعت، فأقسم ليؤخِّرَنَّ راتبها ما استطاع جزاء ما استهانت به.. والمقتصدُ محاسب المدرسة.
قلت له: يا صاحبي هذه زوجتي.. كان الأجدر به أن يسألها سبب امتناعها عن مصافحته، لا أن يمنعها حقها، فقد وقع في خطأ مركّب، إذ كان جاهلاً في دينه وظالماً لغيره. قال: سأجمعك به قريباً
قلت: سأزوره غداً إن شاء الله لأذبل الالتباس، وأتعَّرف عليه.. قابلته وكان رجلاً لطيفاً..
أهل ورقلة فيهم العرب والبربر من الطوارق إلا أن الملثمين منهم أهل "تمنراست" في الجنوب الأعمق من الجزائر على الحدود السفلى.. وفيهم بعض ذوي البشرة السوداء الفاتحة.. والداكنة. وللطوارق الملثمين لغة خاصة يتحدثون بها فيما بينهم لكنّ الوجه العام للمدينة "ورقلة" العربية والعروبة، ويقع قريباً منها آبار البترول، فقد كانت سماؤها حمراء، والليل فيها واضحاً جلياً وقد كان ضائفونا كراماً حيث أقاموا حفلة رائعة وسهرة ماتعة..
وفي اليوم التالي انطلقت بنا الحافلات إلى غرب ورقلة مسيرة ساعتين إلى منطقة الواحات.. فزرنا بلدة "غرداية" وهي واحة تقع في وادٍ ليس بالعميق فيه بساتين خضراء كثيرة ونخيلٌ مشهور.. لكنَّ الأشهَرَ أن أهله كلهم رجالاً ونساءً أهل دين وتقوى، هذا ما بدا لي..
رجالهم يلبسون القمصان، تحتها السراويلات العربية، وعلى رأسهم القلنسوات البيضاء المزركشة، وملتحون، ومن الخطأ أن يحلق الرجل لحيته.. ذكرني منظرهم بأهل حماة في الخمسينات من القرن الماضي -العشرين- وحارات حلب الشعبية.. أما نساؤهم فحجابهنّ سابغ لا ترى منهنّ شيئاً وبراقعهنّ على وجوههن.. قضينا ليلتنا في غرداية، والتقينا بعضهم.. ولغتهم العربية فصيحة أما لغتهم الأصلية فهي البربرية لأنهم من الأمازيغ الجنوبيين، ومذهبهم الإباضيّة، ومدارسهم الدينية مشهورة، فيها يتخرج علماؤهم وعلماء سلطنة عمان وبعض الليبيين، وقد ذكرت أن الدكتور شريفي بلحاج المدرس للغة العربية في جامعة الجزائر عضو المجلس الأعلى الإسلامي من غرداية..
أنست لهم وارتحت لزيارتهم، فأعدت الكرَّة في السنة التالية مع بعض أصحابنا لكنّ الملل قد يعتريك إذا مكثت أكثر من يومين فليس في هذا الوادي من وسائل الحضارة المادية ما في الشمال والغرب، لكنك تشعر بالطهارة والتدين وراحة النفس وهدوء القلب.. ولن يملَّ الإنسان إذا كان من طلبة هذه الأمور.. سيما إذا كان عمله في هذه الأماكن، وتعرف إلى أهلها، فخبرهم، وخبروه، وتوطدت الآصرة بينهم، فالمؤمن آلفٌ مألوف.
عشاء في الأغواط
سكان الجزائر عام ثمانين وتسع مئة وألف عشرون مليوناً، ونسبة الغرباء أمثالنا إليهم خمسة بالمئة – فلا يتجاوز عددنا عرباً وأوربيين وغير ذلك المليون، وهذه النسبة "5%" تجعلهم- إلى كرمهم ولطفهم- يعاملوننا معاملة الضيف، فيقدموننا على أنفسهم في الحافلة، والبقالة والبيع والشراء فنتجه إليهم شاكرين، ولأفضالهم حامدين، بينما تجد الأمر في الخليج معكوساً، ولعلّ هذا ناتج عن أمور كثيرة، سيأتي ذكرها حين نصل في رحلتنا هذه إلى بلادهم- إن شاء الله.
ففي الكافتيريا إذ يراك صاحبها مدرساً غريباً، ولم لم يكن له أولاد أو أقارب في المدرسة يأبى أن يأخذ ثمن كأس الشاي أو فنجان القهوة، إلا أن تدفع أولاً وقبل أن تتسلّم منه ما طلبته، وإذا عرفوا أنك تؤم بهم في المسجد أو تحاضرهم أو تعظهم ازدادوا احتراماً لك، ولعلَّ أحدهم يمتنع أن يأخذ أجرة تصليح السيارة أو العجلة.. فتشعر بالإحراج الشديد، وتتمنى أن تتسوّق في مدينة أخرى كي لا يضيع ثواب الآخرة في حدود الحياة الدنيا، وكنتُ شاباً.. والشابُّ أكثر تصلباً، فهو إن فعل خيراً رغب أن يثاب في الآخرة فقط! ولعله يظنُّ أن تكريمه في الدنيا يخفض من أجر الآخرة..
لكن.. لا علينا أن أبُثَّ بعض مكنونات نفسي على الرغم أن المقدمة لا تمت لزيارتنا الأغواط بصلة إلا تلميحاً، ومن بعيد، فقد وصلنا في إحدى السياحات الداخلية عن طريق بسكرة وغرادية حين انحرفنا للشمال الغربي إلى المدينة الهادئة "الأغواط" في عودتنا إلى الجزائر العاصمة.. وصلت وصاحباي الحلبيان، صالح الزعتري وماجد الدندشي وأُسرُنا في سيارتين كنت أسوق إحداهما قبيل الغروب وكنا جائعين فوجدنا الأسواق مغلقة والمطاعم مقفلة.. لعل القارئ يقول: لماذا لا تشترون الطعام من الاستراحات على الطريق بين المدن؟ وأراني أضحك من هذا السؤال، لأن القارئ يظنّ أن هذه الخدمة يجب أن تكون كما هي في سورية –مثلا – حيث يجد المسافر الاستراحات والمطاعم والمساجد وورشات تصليح السيارات والأسواق ومحطات البنزين حيثما التفت!!.. أذكر أنني سافرت من بجاية إلى الجزائر العاصمة، فوقفنا قرب "البويرة" على كافتيريا فدخلت لأشتري لفافة "سندويشة" أسدُّ بها رمقي.. أتدري قارئي العزيز ما كان حَشْوَها؟ "قرن فليفلة مسلوق مملّح" نظرت إليها وقلت رحم الله أيام "سندويشة الفلافل" في "النبك" وهي بلدة قرب دمشق على الطريق دمشق – حمص – يُقَشّر الرغيفُ فيُدْهنُ بمعجون الحمص، وتُهرس فيه قطع الفلافل، ثم يُبسط فوقها سلطة الخيار والبندورة أو الخس، ويُرش عليها شراب الطحينة الممزوج بالحمض، فتأكل أصابعك وراءها.. وتطلب غيرها.. ونسيت أن أقول يقدم معها البصلُ الأخضر أو الخيار المخلل أو اللفتُ المخلل.. حين وجدنا الأسواق في "الأغواط" مقفلة أيقنا أن لا عشاء اليوم.. ثم لمعت في أذهاننا أن نقصد الفندق الصحراوي الضخم، وأجرةُ الليلة فيه غالية 100/ مئة دينار وهذا يعني أننا سنجد ما نقتات به.. بل سنأكل كل ما لذّ وطاب.. وهكذا كان.. فما إن دخل كلٌّ منا إلى غرفته- وكانت فخمة – واغتسلنا من وعثاء السفر، ولبسنا ثياباً تليق بفندق فخم. ثم خرجنا نولّي وجوهنا شطر المطعم حتى صدق علينا المثل القائل: "أمل إبليس في الجنة" فالساعة الآن الثامنة والنصف مساءً والمطعم يغلق أبوابه في الثامنة.. حاولنا أن نناقش و.. ولكن لا حياة لمن تنادي..
نزلنا بسيارتينا إلى المدينة نتجوّل فيها، علنا نجد دكاناً خرق النظام وأعلن العصيان، فشرّع أبوابه للضعفاء أمثالنا.. ولكن هيهات، هيهات.. فالناس يحبون النظام ويكرهون خلافه.. ولكن جاء الفرج فقد دخلنا شارعاً ضيقاً –نوعاً ما – وسمعنا من إحدى الشقق – اللهم صلِّ على محمد، يا رب صل عليه وسلم.. أهو ذكرٌ أو مولدٌ أو حفلة دينية؟ أيا ما كان ففي نهايته العشاء... وقفنا على الباب نسأل ما هذه الحفلة؟ وكأننا إخوان أشعب الطفيليّ المشهور.
قالوا: "ميلود" مولد.. عقيقة..
قلت: نحن من سورية ونحب حفلة المولد.. أتسمحون بالدخول؟
قالوا: على الرحب والسعة شرّفتم.. أهلاً وسهلاً..
دخل الرجال على الرجال، والنساء على النساء..
كانوا جالسين على الأرض فوق سجادة كبيرة، يذكرون الله تعالى، ويصلون على النبي الكريم، ويميلون نحو اليمين والشمال بحركة خفيفة مقبولة، ليس فيها شطط، ولا يجاوزون هذا.. شاركناهم من قلوبنا المحبة ذكر الله والصلاة على نبيّه، ونسينا الجوع مؤقتاً، فهناك ما هو أهمّ.. فلما سكتوا قليلاً.. استأذنتهم فحدثتهم بإيجاز عن العقيقة وأحكامها، وواجب الوالدين نحو أبنائهم من ولادتهم إلى أن يشبّوا.. ثم بدأت أنشد
طلـع البدر علينا مـن ثـنيات الوداع
وجب الشكر علينا مـا دعـا للـه داع
أيهـا المبعوث فينا جئت بالأمر المطاع
جئت شرفت المدينة مرحباً يـا خير داع..
ورأيت القوم يشاركوني الأنشودة، وقد أخذهم الوجد، واشتد ميلانهم، وأشرقَتْ وجوههم، وكانت دقائق رائعة.. ولا أنسى أن أقول لقد كان صوتي فيه قدرٌ مقبول من الجمال يمتاز بالبُحّة.. هكذا يقولون.. وما زال هذا الجمال فيه إلى اليوم، ولكن نسبته أقلّ.. فليست الكهولة كالشباب.
ثم تباعد الناس، واقترب الفتيان فمدّوا الخوان على الأرض ثم جاءوا بالطعام وتوابعه.. ثم طُلِب إلى شيخهم ومنشدهم أن يبدأ أولاً.. وهكذا مددت يدي بعد التسمية، وغابت الملاعق في الأطباق والصحون، فما كنت تسمع همساً ولا نبساً.. حتى لم يبق مكان للفاكهة والشراب.. وكان صاحباي فارسين مجِلّيَيْن، أطبقا على ما وقع تحت أيديهما بجرأة وبسالة ونشاط..
ثم ودعناهم شاكرين فضلهم بعد أن وعدناهم أن نزورهم إن جئنا الأغواط مرة أخرى..
وانطلقنا سعداء إلى الفندق، كنا نودُّ السهر، لكنّ النوم غلبنا والأكل دفعنا إلى السرير..
لقد كان عشاء دسماً لذيذاً زاد من لذته الجوعُ الذي كنا نعانيه... بالله عليك قارئي العزيز.. ألسنا نستحقُ هذا العشاء بعد الذي أبليناه في الدرس والإنشاد؟..
الأيام الأخيرة..
بدأت مجلة "النذير" تصلني تباعاً من فرنسا.. وفيها أخبار سورية.. إضراب الشعب، ومسيرات النقابات بأنواعها تملأ المدن السورية احتجاجاً على النظام الحزبي البعثي الجائر الذي تربع على سدّته طائفيون، حاقدون على الإسلام والمسلمين، إذ رأوا في الحركة الإسلامية المتنامية في مختلف قطاعات الشعب خطراً على نفوذهم، فقال الظلمة –نتغدى بالإسلاميين قبل أن يتعشوا بنا.. ولو أعملوا الفكر الحرَّ، والتزموا المنطق، وأعطوا الحقوق لأصحابها.. ولم يبطشوا بالناس، ولم يسرقوا مال الأمة.. لعلموا أن الإسلاميين هم قلب الأمة النابض، وعقلها المفكر الرصين، وأنه ليس في منهاجهم استلاب السلطة كما يفعل غيرهم من اللصوص الذين يقومون بانقلاب على النظم الديموقراطية ثم يسمون الانقلاب ثورة، وتصحيحاً، والدموية تطهيراً، والقتل والتصفية الجسدية وطنيّة وتقدماً..
فإذا باللص وطنياً، والمجرم مجاهداً، والفاسق العربيد حضارياً، والخائن العميل مثقفاً متحرراً...
في أواخر عام تسعة وسبعين نقلوا الآلاف من المدرسين الإسلاميين إلى وظائف إدارية في وزارات غير وزارة التربية ليحرموا شباب الأمة من معين الدين والأخلاق، وفي الأشهر الأولى من عام ثمانين أحالوا آلافاً أخرى إلى البطالة والتسريح، وكنت من هؤلاء الذين سرِّحوا من التدريس وأنا مُعارُ إلى الجزائر..!!
فلما انتفض الشعب من الجنوب إلى الشمال ومن الشرق إلى الغرب، ومادت الأرض تحت أقدام المغتصبين للسلطة قتلوا الآلاف وسجنوا عشرات الآلاف في حلب، وحماة وهدّموا المساجد ودفعوا بالجيش الذي مهمته الدفاع عن الوطن والأمّة على الحدود ضد اليهود.. إلى صدور الآباء والأمهات والاخوة والأخوات، فما من مدينة أو قرية أو حي إلا ودنسوا حُرُماته بحثاً عن الشرفاء.. ثم قام مجلس شعبهم بإصدار قانون العار /49/ تسعة وأربعين يقضي بالإعدام لكل مسلم ملتزم ينتمي إلى الإخوان المسلمين أو يناصرهم.. وبدأت المجازر في كل بقعة من سورية...
في أيار مايو من عام ثمانين ذهبت إلى السفارة لأستبدل الجواز القديم الذي ينتهي بعد ثلاثة أشهر بواحد جديد.. وقدّمت الطلب في الساعة الثانية عشرة ظهراً، فقيل لي انتظر إلى الثانية.. وانتظرت.. وشعرت حين قاربت الواحدة ظهراً ودخل رجل يحمل البريد من سورية أن غُمامة سوداء دخلت معه.. وانقبضت نفسي.. فاستعذت بالله من كل سوء.. ولجأت إليه أن يزيل الهمَّ والغمَّ عني.. وجاءت الساعة الثانية... وأخذت جواز سنوي وانطلقت إلى بجاية. حامداً الله تعالى، فهو أهل الحمد والشكر..
قلب المؤمن دليله، فقد كان في البريد ما يخصني، فالبريد يوزّع في اليوم التالي وفيه استدعاء لي للتنصل من حركة الإخوان المسلمين. والعودة إلى سورية ليزج بي في غياهب المعتقلات، عذاب، وإهانات، وقتل... كما فعل بعشرات الآلاف من مثقفي الأمة وعقلائها ومفكريها..
أرسل في اليوم نفسه طلب المثول في السفارة أمام ضابط الأمن فيها.. فوصل الخطاب في اليوم التالي.. واستلمته.. وما زال في حقيبتي حتى الآن.. عام /2004/ أرأيتم فضل الله تعالى على عبده عثمان؟ لو تأخرت يوماً واحداً لما صُرف لي جواز السفر.. ويمكرون ويمكر الله، والله خير الماكرين"
بعد أيام أغلقت المدارس أبوابها وبدأت العطلة الصيفية، بجاية مصيف جميل وهادئ ورائع، ولكنّ البقاء مع عيون النظام يحصون علينا الحركات والسكنات أمر غير مرغوب فيه، والاحتكاك معهم في أيام عصيبة كهذه ليس من مصلحة الأهل في سورية، إن الجبان حين لا يدرك أربه من غريمه يصبُّ أذاه على أهله المساكين في قبضة المجرمين.
وكان قريب لنا يعمل مدرساً في الصحراء أراد قضاء الصيف في البليدة والأربعاء لأنهما هادئتان معتدلتا الجو فرغبت أن نكون معه، فهو لطيف المعشر، والبليدة والأربعاء مدينتان صغيرتان تقعان في الجنوب الغربي من العاصمة الجزائر على بعد ثلاثين كيلو متر، معروفتان بأنهما مدينتا الزهور والورود، فشوارعهما وبيوتهما عامرة بأنواع رائعة من الأزاهير تفوح رائحتها فتملأ كل زاوية وكل ساحة وأهلهما حضاريون مهذّبون، أغلب أبنيتهما من الآجرّ ذوات الدور الواحد الذي تحيط به من كل جانب الحدائق والأشجار.. فيعتدل الجو وتبرد النسمات، يعمل غالب أهلهما في العاصمة ثم يعودون إليهما.
كنا في رمضان نستروح بركاته وخيراته فنعيش نوراً على نور وسعادة على سعادة إلا أن شيئاً من عدم الاستقرار يراودنا بين الفترة والأخرى.. إلى أن جاءنا أن الحكومة السورية طلبت من الجزائر تسليمها ثمانية وعشرين "مطلوباً" لأجهزة أمنها بحجة أنهم إرهابيون مجرمون.. خطرون على المجتمع وكنت -لحسن حظي- واحداً منهم.. وتذكرت قول الله تعالى
"وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد الذي له ملك السماوات والأرض والله على كل شيء شهيد"
نصحني الأحبة أن أخرج من الجزائر، لأن الحكومة إن استجابت لطلب سورية فلن يمنعها أحد..
واستخرنا الله تعالى وبعنا السيارة والأثاث القليل الذي صنعته بيديّ من الخشب فقط –حيث اكتشفت أنني نجار لكن غير ماهر- فما صنعته كان بدائياً فالسرير وحده يحتاج إلى أربعة كي يحملوه.. إلا أنه والحقّ يقال يتحمل دبابة لو سارت عليه.. ونصحني الأخ المرحوم أحمد حلمي خوجة الذي اعتقله المجرمون بعد ذلك بثلاثة أشهر في حلب عام ثمانين، ثم دفعوه إلى أهله عام أربعة وتسعين جثة هامدة.. ثم مضت عشر سنوات أخرى (2004) لم تعلن الحكومة عن وفاته رحمه الله.. وهذا إن دلّ على شيء فإنه ينبئ عن عظيم رحمة هؤلاء الظلمة بالأمة ورأفتهم، ونبل أخلاقهم!! و... حسبنا الله ونعم الوكيل. وأخبرني المرحوم أنني سأجد إن جئت الأردن بعض إخواننا الذين نجوا بأنفسهم وأسرهم من الجلاوزة وأزلام السلطة الجائرين، لعلّ الله سبحانه وتعالى يجمعنا بهم..
ركبنا الطائرة الإيطالية إلى روما ومنها إلى عمان حرسها الله. بعض الإخوة قرروا البقاء في الجزائر.. وقد استسلموا لما تجري به المقادير، ووطنوا أنفسهم على الرضا بكل شيء.. وحفظهم الله تعالى بفضله ورعاهم بعنايته، فقد أبى الرئيس الشاذلي بن جديد أن يعتبر هؤلاء مجرمين. وأجاب: إنهم معارضون سياسيون، لا تنطبق عليهم معاهدة تسليم المجرمين الفارين، مما أغضب النظام، وكان عوناً عليه، فساعد الجنرال خالد نزار على إسقاط ابن جديد بعد سنوات.
لقد كان هذا الرئيس ، رائعاً في توجهاته، ديمقراطياً في تعامله مع شعبه، نهض ببلاده بعد ابن مدين نهضة رائعة، وكانت شخصيته مستقلة.. ومؤثرة وهذا يعتبر في قاموس المتخاذلين نشازاً واستثناءً ينبغي إسقاطه، فتكالبوا عليه حتى أسقطوه عام اثنين وتسعين وتسع مئة وألف.. لكنّ التاريخ يشهد أنهم هم الساقطون!!
انتهى