شذرات ذهبية من حياة فقيد الإسلام الشيخ محمد الحامد
الحمد لله الموفق من أحبهم إلى الاعتصام بحبله المتين، والاستمساك بسنة خاتم المرسلين عليه وعليهم أفضل الصلاة والتسليم.
وبعد فماذا يذكر الإنسان وماذا يدع من القول من حياة فقيدنا الغالي وشيخنا الراحل الشيخ محمد الحامد تغمده الله برحمته ورضوانه، وكل حركة من حركاته وسكنة من سكناته تستحق الذكر ؛ لأنها كلها لله تعالى وفي سبيل الله ومرضاته، لا يسره إلا ما يرضي مولاه ويوافق شرعه وهداه.
لقد كان رحمه الله تعالى نسيج وحده في هذه الأيام التي طغت فيها المادة على الروح، وكان للإسلام ورضاء الله تعالى المنزلة العليا عنده رحمه الله تعالى.
وقد رأيت ذكر بعض الخطرات المتفرقة مما أعلم عنه لتكون للناس عبرة ونموذجاً يستدلون بها على غيرها، مثلاً:
- دخل مرة فندقاً في دمشق فوجد جماعة من الحمويين قد حضروا لجمع تبرعات لجامع الحميدية وهم يأكلون خبزاً وجبناً وعنباً، فدعوه للأكل معهم وألحوا فأكل رغيفاً ثم خطرت له مهمتهم فسألهم: ممن ثمن هذا الطعام؟ فأخبروه أن المفتي أفتاهم بجواز أن تكون نفقة سفرهم هذا مما يجمعون من التبرعات، فقال: هذا إن حل لكم فإنه لا يحل لي وأخرج نصف ليرة ودفعها لهم تعويضاً عما أكل، قالوا :إن ثمن ما أكلته دون ما تدفع فأبى وأضاف لهم ربع ليرة آخر وأصر عليهم أن يأخذوها.
- ودعاه رئيس الدولة اللواء أمين الحافظ للغداء مرة في حمص وأخرى في حماة فامتنع ولكن ذلك لم يمنعه عن توجيه النصح له بصراحة وبيان حكم الإسلام بجرأة في الحق لم يجرؤ غيره على مثلها، وبذلك أبرأ ذمَّة العلماء بقيامه بهذا الواجب جزاه الله عنا خيراً.
وكم بكى يوم فتنة حماة رحمة بالمعتقلين وأقاربهم، فخرج يومئذ عن اعتزاله الحكام وظل يسعى حتى تم العفو عن المحكومين ثم عاد إلى الابتعاد عن الحكام ما استطاع.
- عرض عليه حين تخرج من الأزهر أن يكون قاضياً في دمشق أو حماة فامتنع خوفاً من الله تعالى.
- طلب إليه مرات أن يكون عضواً في بعثات الحج فامتنع مع شدة شوقه للحج، كما عرض عليه أن يكون عضواً في الوفد إلى المؤتمر الإسلامي الذي ينعقد في أندونيسيا فاعتذر، وكُلف أن يكون مفتياً لحماه فأبى بينما غيره لا يتورعون عن سبيل يوصلهم إلى ذلك، وبقي هذا المنصب شاغراً حتى توفي لعله يقبل.
- اشترى رحمه الله تعالى الله تعالى من باب البلد وهو لا يبعد أكثر من مائة متر عن بيته، عشر ليترات من زيت الكاز (بترول) وكيلوين حليباً ، ونادى حمالاً أعطاه ربع ليرة لإيصال الزيت إلى البيت وحمل ابن الشيخ الحليب، ولاحت من الشيخ رحمه الله تعالى التفاتة فرأى الحمال قد حمل الحليب من ولده فصرخ عليه فأسرع الحمال مستفسراً فقال له: إني لم أشارطك على حمل الحليب فكم تريد أجرته؟ قال الحمال : لا أريد شيئاً، قال: بلى فهل يرضيك عشرة قروش؟ قال: نعم فدفعها إليه.
- كان يوصي محاسب المدرسة - أيام كان طلاب التجهيز يدفعون أقساطاً – أن يدفع له راتبه من أقساط التلاميذ لا مما يحضره من الأموال من المصرف.
- اشترى من بائع جبناً وأرسله إلى البيت ولما أراد دفع الثمن لاحت منه التفاته فرأى عند البائع (باكيتات دخان) فقال له :هل تبيع دخاناً؟ قال نعم. قال: سأرد لك الآن الجبن، ورده فعلاً إليه لأنه رأى أن مال هذا البائع يمازجه مال خبيث (وهو ثمن الدخان).
- استحق المرحوم مائة ليرة سورية عن نقابة المعلمين بمناسبة إحالته للتقاعد فرفض تناولها لأنه لا يستطيبها.
- أرسل المرحوم مع حمال علبة لبن فلما أوصلها إلى البيت كلفت زوجة الشيخ الحمال بوضعها في الطابق الثاني منه، ثم حضر رحمه الله تعالى من السوق وعلم ذلك فخرج يفتش عن الحمال ودفع له أجرة حملها إلى الطابق الثاني قائلاً له: إنما كنت شارطتك لباب الدار.
- كان رحمه الله تعالى إذا ضرب تلميذاً أو عنفه يستسمح منه في الفرصة ويعطيه بعض السكاكر خوفاً من أن يكون جاوز الحد الشرعي في العقاب.
وقد غضب مرة على طالب فضربه على ظهره بجمع يده ثم ندم فأخذ حطبه وقال للطالب: اضربني بها كما ضربتك!
وقد لقي بعد سبع سنين أحد طلابه فقال له: تعال وشد أذني فقد كنت شددت أذنك، ولما امتنع التلميذ أصر عليه فأمسك هذا أذن الشيخ برفق، فقال له رحمه الله تعالى: أوجع فقد كنت أوجعتك.
- في طريقه من غرفة الدرس إلى محل استراحته في الفرصة سمع تلميذاً ينطق بمكفر فضربه ثم قيل له: إنه نصراني فأسرع إلى ذلك التلميذ وأعطاه ليرتين سوريتين وقال: هذا مقابل ضربي إياك فسامحني.
- وكان يتدرب في (المقاومة الشعبية) وفي يوم الرمي أخطأ الهدف بطلقاته الخمس فأتاه المدرب بخمس غيرها، فسأله: من أين هذه الطلقات؟ وكان المدرب لبقاً، فقال له: نحن نعطي هكذا لمن لا يصيب الهدف لنعلمه، فقال له: إذن فعلى مسؤوليتك وفي عنقك، قال: نعم. وأرشد الشيخ حتى رمى وأصاب، وسرَّ رحمه الله تعالى بذلك كثيراً، وكان يثني على المدرب كلما يراه.
- كان رحمه الله تعالى يتشوق كثيراً للحج ثانية ولكنه يرى أنه يضر بذلك الطلاب، ويضيع حقهم فيمتنع ويقول: لعلي أتمكن من الحج بعد التقاعد من الوظيفة.
- من رحمته بالمسلمين قام يجمع بنشاط عظيم تبرعات لإخواننا اللاجئين أول النكبة، ثم خطر له إنه قد يكون بعضهم تبرع حياء منه فعاد يسأل كل من أخذ منهم ويطلب منهم السماح، ومن ذلك اليوم لم يعد يقبل الاشتراك بجمع أي تبرعات.
- أتته رسالة من أحد محبيه في مرضه الأخير فأوصى ولده بالإجابة عليها وسافر إلى بيروت، ومنها سأل ولده في حماه بالهاتف: هل أجاب عليها ؟ (لأنه يرى أن الإجابة على الرسالة واجب كرد السلام).
- زرته قبيل سفره إلى بيروت، وتوهم أن في السجادة شيئاً من البلل وهو لا يظنها طاهرة، وكنت ألبس خفين، فأرسل ولده إلى بيتي يأمرني بتطهير نعليهما (قياماً بواجب النصيحة) وبعدما ودعته حين سافر إلى بيروت رافقه ابن أختي على دراجة نارية إلى ضاحية حماه حيث ودعه، وهنا تذكر الشيخ رحمه الله تعالى فقال: لقد أوصيت إلى خالك ليغسل خفيه فهل فعل؟ فقال له: نعم، وحينئذ اطمأن بال المرحوم.
- في عهد اللواء سامي الحناوي أعطي للمرأة حق الانتخاب، وأجمع العلماء في حماة على شجب ذلك في خطبة الجمعة، ولكن المحافظ أبلغهم قبل صلاة الجمعة أن ذلك ممنوع، ولم يكن هناك وقت للتداعي والاجتماع والتشاور فتخاذلنا كلنا، أما فقيدنا رحمه الله تعالى فقد وطن نفسه على قول الحق وأداء النصيحة للمؤمنين فاستعد للذهاب إلى السجن بما يلزم من الثياب وأخذ مصحفه في جيبه ليتلو فيه القرآن إن سجن، وألقى في إنكار ذلك خطبة نارية أشد مما كان هيأ قبل تبليغه المنع.
- كان رحمه الله تعالى يرى بحق أن على العلماء الدفاع عن الإسلام، ورد كل شبهة أو إشكال يعرض للناس قياماً بواجب النصيحة وأداء للتبليغ فإذا بلغه شيء يحتاج لإيضاح أو بيان يهتم بالرد والتصحيح وتعريف العامة ذلك، فكانوا كلما أشكل على أحدهم شيء أو رأى في صحيفة أو مجلة شيئاً يعرضه عليه فينبري لتقويم المعوج ودفع الشبه وإيضاح الغامض حتى أنهكه كثرة العمل وأورثته هذا الداء في كبده من شدة الإجهاد، وهو لا يرحم نفسه لأنه باعها لله، ورغم نصائح الأطباء له بترك العمل العقلي والعلمي فإنه كان لا يترك ذلك، ولقد رزته قبيل سفره إلى بيروت، وكان قبل الزيارة بيومين في حالة الخطر فوجدته يقلب في كتاب فعتبت عليه وقلت له: أهذا وقت البحث العلمي؟ فقال: إن هذا موضوع قد طرأ الآن.
- وإن أنس فلن أنسى إذ زرته في بيروت بعد العملية الجراحية بخمسة أيام ورأيته مسجى على سريره مغمض العينين خاوي الجسم، فسلمت عليه ففتح عينيه لمحة ثم أغمضهما، وفي الصباح كان قد بدأ يجيب بضعف شديد وحركة ضعيفة وبطء زائد في كلامه وقد استرد وعيه قليلاً بعد تلك الأيام الستة التي كان فيها فاقد الوعي منذ العملية. وفي الضحى جاء لزيارته فضيلة الشيخ عبد الله القلقيلي مفتي الأردن مع جمع من الفضلاء فدخلت معهم ولما رأهم شيخنا رحمه الله تعالى استمد من غيرته على الإسلام قوة وانطلق يقول للأستاذ القلقيلي: لقد كنت موفقاً جداً يا أستاذ في بحثك عن الضمان (والسوكرتاه) لقد قرأته فوجدته مستوفياً، ولقد طرق غيرك هذا الموضوع فلم يوفه مثلك حقه، وإن الواجب يفضي أن تطبع هذا البحث ليعم نفعه المسلمين، وقد قال ابن عابدين...الخ، وكان كل هنيهة يسكت ليسترد أنفاسه المتقطعة، وهكذا ظل يتكلم نحو ربع ساعة، وكان لهذا الجهد أثره السيء عليه ذلك اليوم.
هذه خطرات من حياة فقيد الإسلام العظيم الشيخ محمد الحامد رحمه الله تعالى عنَّت لي فسجلتها ولو أردت التوسع والاستقصاء لما كفت المجلدات، نسأله تعالى أن يجعله في أعالي فراديس الجنان مع حبيبه الأعظم صلى الله عليه وسلم، وأن يعوضنا به خيراً، وأن يوفقنا للاعتصام بالشرع الحنيف، وخدمة الإسلام والحمد لله رب العالمين.
االمصدر: جريدة الشهاب اللبنانية، العدد الثاني من السنة الثالثة:( 1389هـ - 1969م)
وسوم: العدد 772