علماء و أدباء في ذاكرتي (إبراهيم عاصي)
كنت أرمقه و أنا في المرحلة الابتدائية يدخل المدرسة المتوسطة المجاورة، فيلفت نظري أكثر من غيره من المعلمين بأناقته ، و احترام الطلاب له ، ثم انتقلت إلى المتوسطة لأسعد به مدرسا للغة العربية التي حببها إلينا التزامه بهاو فصاحته و سيرورتها على لسانه . ذلكم هو الأستاذ إبراهيم عاصي أو الشيخ إبراهيم ، كما كان أهل بلدتنا يطلقون عليه ، مع أنه لم يكن معتَمّا ولا مجلببا !
لم يكن آنذاك قد أنهى دراسته الجامعية بعد أن تخرج من دار المعلمين و مع ذلك كان أحد الأربعة الذي يشار إليهم بالتدين والالتزام والجرأة و الخطابة ، فقد كان سابقهم مفتي المدينة القاضي محمد الأهدلي الذي استمرت صحبته و صداقته له حتى وفاته أوائل السبعينيات، و صديق عمره الأديب محمد الحسناوي الذي توفي سنة2007 في عمّان و صديقه الداعية محمد بشير حلوي مدرس التربية الإسلامية الذي كان جنديا في خندق المواجهة مع الباطنية بعد أن أسفرت عن وجههاالقبيح و توفي في مدينة الرياض 2010 م و قد حيل بينه و بين الرجوع إلى وطنه؟!!
ثم سعدت بالتتلمذ عليه في الصف الأول الثانوي مدرسا ً للغة العربية، و كان لموضوعات التعبير التي يطرحها على الطلاب تميز و جِـدة؟!!
فقد كان رحمه الله ينمّي لدى تلاميذه دقة الملاحظة و نقد الخطأ و التدريب على تقويم الاعوجاج ، و التكلم بالفصحى .
و ما زلت أذكر عدداً من طلابه تخرجوا في فروع علمية جامعية سمعت لبعضهم خطباً و كلمات لا يكادون يلحنون فيها ؟!
.....
كان من قدري في وقت مبكر أن أُعتقل مع عدد من الطلاب في حملة اعتقالات جرت 1963 م ، بعد تصفية الوحدويين ، و توجه السلطة آنذاك لأصحاب الاتجاه الإسلامي ، بتهمة حضور دروسه - و هو شرف لم أكن أستحقه يومذاك - ففوجئنا به و قد حضر إلى دائرة المحافظة شخصياً، و واجه المسؤول الأمني معترضاً على اعتقال طلاب ليس هناك ما يدينهم! و قد أكبرت فيه هذا الحضور و تلك الجرأة ؛ فاقتربت منه أكثر ، و قد ظهرت لدي رغبة في الكتابة الأدبية.
و من جميل الموافقات أنه تم افتتاح فرع للغة العربية في جامعة حلب 1966 م ، فانتسبت إليها ، و بدأت أعرض عليه ما أكتبه. و أذكر هنا أنني كتبت قصيدة بعنوان : نداء الأم ، أخاطب فيها أمي ، و أذكر فضلها و ألتمس رضاها ، فزرت أستاذنا و أسمعتها له ، فرأيت عينيه تدمعان ، و قد ذكر أمه التي رحلت بعد أن هدها العجز و المرض ، و لم يكن يجد لبرها ما يتصور أنه حق لها عليه
...
كانت شخصيته على ما تبدو للناس جادة و صارمة ، و لكنها كانت تخفي خلفها قلباً رقيقاً ، و نفسا ً وادعة ، و إحساساً مرهفاً !
و قد شهدت له مواقف ثلاثا ً ، غلبه فيها الدمع إلى حد أنه أجهش بالبكاء ؟!!
مرة حين تأخر نزول المطر ، و خرج الناس لصلاة الاستسقاء إلى شرقي نهر العاصي ،و حين انتهى الشيخ نور الدين الخطيب -رحمه الله- من الصلاة ، التفت و قال : ادع لنا - يا أبا عمار - فانطلق رحمه الله ، و قد سبقه الدمع ، و هو يلهج بالدعاء ، فكان أن بكى و أبكى !
و مرة ثانية بعد صلاة الفجر في مسجد المغربي ، و قد أشرف رمضان على الرحيل ، و توقف الدرس الذي كان يلقيه لحلول العيد ، فكانت لحظات خاشعة و هو يختم حديثه بأن مدرسة الثلاثين يوماً قد أزف وداعها ، فكان الوداع بالدمع و نشيج الحاضرين !
و مرة ثالثة حين وقف يرثي أستاذنا أحمد عاصي رئيس جمعية البر و الخدمات الاجتماعية ، في جمع كبير ، وَفَدَ من شتى المحافظات و المدن المجاورة ، فذكر بكلمات دامعة جهاده يوم كان الجهاد تضحية لا كلاماً و خطباً ، و إقدامه و مواجهته للفرنسيين يوم كان ذلك يكلف الإنسان حياته و أهله !
...
كان -رحمه الله - ملء عين إخوانه و أهله و سكان منطقته على اختلاف توجهاتهم و أديانهم ، و أذكر وقد كنت مدرساً في إعدادية قرية(القُنَيّة) و هي قرية مسيحية، أذكر كلمات مدير الابتدائية لي و هو مواطن مسيحي : إنهم ينقلون الأستاذ إبراهيم من مكان إلى آخر ، إنهم بهذا النقل يضرون أبناءنا المحتاجين إلى علمه ! نحن نعرف فضل الرجل و مقدرته ؟!!
.......
كان -رحمه الله- يملك من الجرأة و الحجة ما يجعل من يخاصمه أو يحبه في تقديره على حد سواء ، ففي عام 1973 م و في احتفال ضخم بذكرى المولد النبوي ، وقف عريف الحفل الذي كان حزبيا آنذاك و زميلا لأستاذنا و قدمه قائلاً : و الآن مع كلمة حق ، من رجل حق ، و لا أبالغ إذا قلت إنه لا يتحرى إلا الحق !! فكانت كلمة ضافية بليغة تناقلها الناس في أشرطة التسجيل وقد سَمَت بهم إلى آفاق السيرة العطرة ، و رحابة الإسلام العظيم و طهارته
....
و مما حدثني به الأخ الدكتور محمد ناجي صافي أنهما التقيا بمدير التربية و كان زميلاً سابقاً للأستاذ إبراهيم ، و قد نقله الحزب إلى ثانوية للبنات بعيداً عن مكان إقامته ، فقال له مدير التربية: كيف حالك يا أستاذ إبراهيم ؟ فقال له : الحمد لله ، فقد انتهينا من توجيه الشباب ، و نشكركم على تحويلنا إلى ثانوية البنات، فهن َّ بحاجة إلى سماع ما قلناه لإخوانهن.
فنقلوه إلى ثانوية للذكور تبعد عن محل إقامته في جسر الشغور 20 كم ، و من ثم إلى السجل العقاري في إدلب .
.......
في عام 1975 م دعاه المركز الثقافي لإلقاء محاضرة ، فضاق المركز بالحاضرين ، و كانت بعنوان: للأزواج فقط ، تحدث فيها بوضوح عن جريمة الخيانة الزوجية و أسبابها ، و عن الموانع التي تحول دونها ، و قد طبعت في كتاب يحمل عنوان المحاضرة مع مقالات اجتماعية و نقدية .
و في بداية المحاضرة بيـَّن أهمية الحوار و الاستماع للآخر ، فقال :
إنه ما لم يحصل هذا الانفتاح ، فيقارع الرأيُ الرأيَ ، و ينازل الفكرُ الفكرَ منازلة علنية تحت ضوء الشمس ، حرة متكافئة بلا كبت و لا قهر و لا إبعاد .. إنه ما لم يحصل ذلك فإن الحقيقة تظل غائبة ضائعة و لا تتمحص ، و هذا ليس من مصلحة الإنسان في شيء ؟!!
ثم عاد القوم إلى ماهم عليه ، فنكسوا على رؤوسهم ، ففي أثناء احتفالية جامع الأنصار ، و قد تجمهر المئات ، في المسجد و الشوارع المحيطة به لتستمع إلى كلمة الأستاذ - طيب الله ثراه ..
أطفئت الأنوار عن الحي كله ، فردد قوله تعالى : (( يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم ..)) و أردف : ما هكذا تحارب المبادئ و تصادر الأفكار ، و ليس من صالحكم أن تعمقوا الهوة بينكم و بين عباد الله المؤمنين ، و لكن كانت المفاجأة الجميلة أن أحد تجار المدينة كان أحضر مصابيح غازية و مولدة للكهرباء و ضعها بعيداً عن المسجد، فأضاء المسجد مرة أخرى ، و هدّأ الأستاذ النفوس قائلا : فليكن عطلاً فنياً و عملاً غير مقصود ، علماً بأنهم سبق لهم فعل ذلك في الجامع الكبير من قبل .
و استمر - رحمه الله - في درسه الأسبوعي يوم الثلاثاء في تفسير القرآن الكريم ، معتمداً على أصح الروايات ، و معمقاً معاني الإيمان و الفضيلة في نفوس الحاضرين على مختلف مستوياتهم الثقافية في جامع الأنصار ، بحضور ما يزيد على خمسمائة شخص من المدينة و القرى المجاورة ؟!
و كان من قدر الله عز و جل في هذا الرجل المبارك أن أمضى ثلاثة أشهر أو يزيد ، و هو يفسر سورة يوسف عليه السلام فكانت له وقفات عند السجن و البراءة ، حتى إذا انتهت منها ألقي القبض عليه في اليوم التالي 1979/4/28 م و لم يكن - رحمه الله - ليتوقع ذلك ، فهو لم يختف ، و لم يغادر البلاد و قد بدأت الأحداث التي كان النظام قد اختلق كثيراً منها بدءاً من التسريحات بالجملة و الاستفزازات ، و الاعتقالات العشوائية و صرف المدرسين و المدرسات من الخدمة أو نقلهم لدوائر لا علاقة لها باختصاصاتهم
...............
و ها قد مضى على اعتقاله أكثرأربعين عاماً ، و قد انقطعت أخباره إلا من بعض الكتابات في بداية سنوات سجنه يُـَسرِّ بها بعض المقدرين لفكره و أدبه ، و منها مقالته الرائعة : ( شيء من النيران ) التي يتحدث فيها عن السجن ، و عن انهيار كثير من ذوي المبادئ الأرضية ، حتى وصل الأمر إلى أن يكسروا المصابيح و يمصون زجاجها هرباً من الضيق !؟ و رسالة بعث بها إلى ابنه الشهيد عمار ، و قد اغتالته السلطة الغاشمة مع الأستاذ صالح حسناوي في شباط 1982 م .
يقول - رحمه الله - في رسالته إلى ابنه الشهيد عمار :
(( يبدو - يا بني - أن الله سبحانه و تعالى لا يريد أن يمتحنني وحدي بالبعد عنكم ، ليعلم مدى صبري على هذا الامتحان - و هو العليم الخبير - و لكنه يريد أن يمتحنكم أنتم كذلك ، و أنت بالذات ، ليعجم عودكم و يمحصكم !
أتصبرون أم تضجرون ؟! أترضون بقضاء الله أم لا ؟ و تسخطون ؟! و أرجو ؛ بل أنا على يقين من أنكم صابرون متجملون في صبركم ، و أعظِم بأجر الصابرين من أجر !
و أكرم بمرتبة الصابرين من مرتبة عند الله العلي العظيم الذي من أسمائه الحسنى (الصبور) .
الأمور مرهونة بأوقاتها ، فلا تبتئس - يا بني - و لكل أجل كتاب .
ولدي الحبيب : لعلكم تعيشون في الآونة الأخيرة دوامة من الإشاعات ، مؤداها أن هناك إفراجات قريبة ، و إن نصيحتي إليكم أن تكونوا بمشاعركم خارج الدوامة هذه، أي لا تعيشوا الآمال المفرطة بحيث إنكم تتوقعون وصولي إليكم بين يوم و آخر .. لا ؛ لأننا - يا بني - بين يدي خصم باطني ماكر لا يُـعرف له وجه من قفا ، و لا ظهر من بطن ؟!
و المقاليد - مع ذلك - كلها بيد الله ، علّـقوا آمالكم عليه وحده دون لهف و لا يأس ، فإنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون )).
رحمك الله - أبا عمار - و جعل منزلتك في عليين ، و لكن لا نقول إلا ما يرضي ربنا : إنا لله و إنا إليه راجعون ...
و إن كانت أحزاننا عليك و على إخوانك لا تنقضي حتى تنقضي أعمارنا !
وسوم: العدد 783