رجل ظلمه التاريخ، وشوّه سمعته أديب حاقد، (قراقوش)
قراقوش المفترى عليه ...
قراقوش اسم تركي يعني النسر الاسود هو أحد قادة جيش صلاح الدين الأيوبي كان من أخلص أعوانه وأقربهم إليه وكان مهندسًا حربيًّا منقطع النظير.
وكان أعجوبة في أمانته، لما أحس الفاطميون بقرب زوال ملكهم شرعوا يعبثون بنفائس القصر، ويحملون منها ما يخف حمله ويغلو ثمنه، وكان القصر مدينة صغيرة كدَّس فيها الخلفاء الفاطميون خلال قرون من التحف والكنوز والنفائس .
فوكل صلاح الدين قراقوش بحفظ القصر، فنظر فإذا أمامه من عقود الجواهر والحلي النادرة والكؤوس والثريات والبسط المنسوجة بخيوط الذهب ما لا مثيل له في الدنيا، هذا فضلاً عن العرش الفاطمي الذي كان من أرطال الذهب، ومن نوادر اليواقيت والجواهر، ومن الصنعة العجيبة ما لا يقوّم بثمن ،
وكان في القصر فوق ذلك من ألوان الجمال في المئات والمئات من الجواري المنحدرات من كل أمم الأرض، ما يفتن العابد..
فلا فتنه الجمال، ولا أغواه المال، ووفَّى الأمانة حقها.
وهو الذي أقام أعظم المنشآت الحربية التي تمت في عهد صلاح الدين، وإذا ذهبتم إلى مصر وزرتم القلعة المتربعة على المقطم المطلة على المدينة، فاعلموا أن هذه القلعة، بل هذه المدينة العسكرية، أثر من آثار قراقوش.
وإذا رأيتم سور القاهرة الذي بقي من آثاره إلى اليوم ما يدهش الناظر، فاعلموا أن الذي بَنَى السور وأقام فيه الجامع وحفر البئر العجيبة في القلعة هو قراقوش.
ولما وقع الخلاف بين ورثة صلاح الدين وكادت تقع بينهم الحرب، ما كفَّهم ولا أصلح بينهم إلا قراقوش. ولما مات العزيز الأيوبي وأوصى بالملك لابنه المنصور وكان صبيًّا في التاسعة، جعل الوصي عليه والمدبر لأمره قراقوش، فكان الحاكم العادل، والأمير الحازم، أصلح البلاد، وأرضى العباد.
هذا قراقوش، فمن أين جاءت تلك الوصمة التي وُصم بها؟! ومن الذي شوَّه هذه الصورة السويَّة؟!
إنها جريمة الأدب يا سادة.
وأساء ابن مماتي إلى قراقوش، فألبسه وجهًا غير وجهه الحقيقي. ولم يعرف الناس إلا هذا الوجه المعار كوجوه الورق الذي يلبسها الصبيان أيام العيد.
وابن مماتي هذا كاتب بارع وأديب طويل اللسان، كان موظفًا في ديوان صلاح الدين، وكان الرؤساء يخشونه ويتحامونه، ويتملقونه بالود حينًا وبالعطاء حينًا. ولكن قراقوش وهو الرجل العسكري الذي لا يعرف الملق ولا المداراة لم يعبأ به، ولم يخش شره، ولم يدرِ أن سن القلم أقوى من سنان الرمح..
فألَّف ابن مماتي رسالة صغيرة سمَّاها "الفافوش في أحكام قراقوش"، ووضع هذه الحكايات التي تحكي عن حاكم ظالم ونسبها إليه. وصدَّقها الناس، ونسوا التاريخ.
فيا أيها الناس لا تنخدعوا بتزييف الأدباء.
من كتاب رجال من التاريخ
الشيخ علي الطنطاوي. رحمه الله
وسوم: العدد 791