ذات النطاقين رضي الله عنها، المجاهدة السخيّة الحكيمة
إنها الصحابية التي جمعت كل خصال المجد، فهي البنت الطاهرة والأم الرؤوم. أبوها الصدّيق أفضل البشر بعد الأنبياء، وأختها الصغرى عائشة أم المؤمنين، وزوجها الزبير بن العوام، أحد العشرة المبشّرين بالجنة، حواريّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وابنها عبد الله بن الزبير أول مولود للمهاجرين في المدينة المنورة.
وهي من السابقين إلى الإسلام، فقد أسلمت بعد سبعة عشر إنساناً.
حين هاجر النبي صلى الله عليه وسلم ومعه أبوها الصدّيق، قامت بمهمّة عظيمة تعرّضها بمشقة الطريق، ومخاطر اكتشاف أمرها لقريش، فكانت هذه الفتاة الجريئة تمضي في جوف الليل، تقطع نحو ثلاثة أميال، متخفّية مترقّبة، فتوافي رسول الله صلى الله عليه وسلم ووالدها بالزاد والأخبار. مهمّة يعجز عنها أولو العزم من الرجال. ظلّت تفعل ذلك ثلاث ليال سويّاً. وفي الليلة الثالثة حيث أزمع المهاجران على الانطلاق إلى يثرب، جلبت لهما زاد السفر والسقاء، وشقّت نطاقها لتربط بواحد من الشقّين المِزْوَد، وبالآخر السقاء، فأبدلها الله بنطاقها هذا نطاقين في الجنة. هكذا دعا لها النبي صلى الله عليه وسلم.
ولئن سَلِمَتْ من أعين الرقباء، فقد أتاها إلى بيتها نفرٌ من مجرمي أهل الشرك، فيهم أبو جهل، فقالوا: أين أبوك؟ فأنكرتْ أمرَه، وتجاهلت خبره، فما زالوا يلحّون عليها حتى لطمها عدوّ الله أبو جهل النذل لطمةً وقع منها قِرْطُها... وما زادها ذلك إلا إيماناً وتسليماً وثباتاً.
وكان أبو بكر قد حمل معه ماله كله، بضعة آلاف درهم، فدخل عليها جدّها أبو قحافة، وقد ذهب بصره، ولم يكن قد أسلم بعد، فقال لها: والله إني لأراه قد فجعكم بماله مع نفسه. قالت: فأخذتُ أحجاراً فوضعتها في كوّة البيت، حيث كان أبو بكر يضع ماله، ثم وضعتُ عليها ثوباً، ثم أخذت بيد أبي قحافة فقلت: يا أبتِ ضع يدك على هذا المال. فوضع يده عليه فقال: إذا ترك لكم هذا فقد أحسن.
تزوّجت أسماء بالزبير بن العوام فكانت نعم الزوجة الصالحة، تخدم زوجها وتسُوس له فرسه، وتخرز له الدلو، وتعجن له العجين، وتنقل النوى على رأسها.
وحين هاجرت كانت قد أتمّت حملها بابنها عبد الله، فلما بلغتْ قباء وضعتْ به فكان أول مولود للمهاجرين بالمدينة.
وشهدتْ معركة اليرموك وأبلتْ بلاءً حسناً، وكانت تحمل قِرَب الماء للمجاهدين.
وورثت صفة الجود والكرم عن أبيها، ومَن كأبي بكر؟! وزادَها النبي صلى الله عليه وسلم في هذا فقد مرّ عليها مرةً وهي تُحصي شيئاً وتكيلُه فقال لها: "يا أسماء، لا تُحصي فيُحصي الله عليك". قالت: فما أحصيتُ شيئاً بعدها، خرج من عندي أو دخل عليّ، وما نفد عندي من رزقٍ إلا أخلفه الله.
وكانت، وأختها عائشة، أجود امرأتين. رضي الله عنهما.
كما كانت من عالمات الصحابة وفقيهاتهم، وراويات أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم.
وقد روى البخاري أن أسماء قالت: يا رسول الله، إنّ أمي قدِمَتْ وهي راغبةٌ أفأصِلُها؟ [أي زارتها ولم تُسلِم بعد، فهل تُكرمها؟]. قال صلى الله عليه وسلم: "نعم، صِلِي أمّك".
وقد حفظ الله عز وجل أسماء وأكرمها، إذ بلغت مئة سنة، ولم يسقط لها سنّ، ولم ينكَر من عقلها شيء.
وحدث أن ابنها عبد الله أعلن نفسه أميراً للمؤمنين ودانت له العراق والحجاز واليمن ثماني سنين، ثم أخذ عبد الملك بن مروان يقارعه، فأخذ منه العراق ثم نظر إلى أشرس قادته فلم يجد أشدّ من الحجاج بن يوسف فأوكل إليه أمر ابن الزبير فأخذ يقتطع منه البلاد حتى انتهى إلى مكة فطوّقها ونصب المجانيق وأهوى بالحجارة على الكعبة حيث يعتصم ابن الزبير. وفي الوقت نفسه يرسل إليه الكتب يغريه بأن يدع ما هو عليه، ويبايع بني أمية ويصبح أميراً لديهم.
في هذه الأثناء تلتقي أسماء ابنها عبد الله وهو لقاء الوداع، مثّلت فيه أعلى مستوى في رجاحة العقل، ورباطة الجأش وشدة الحزم وقوة الإيمان. فقُبيل مقتله بسويعات جاء ليُودّع أمه العجوز التي بلغت المئة من عمرها. وليستشيرها في محنته.
سألت ابنها عن سبب مجيئه قائلة: ما الذي أقدمكَ هذه الساعة ومنجنيقات الحجاج تهز دور مكة هزّاً وهو يلقي بها على جنودك في الحرم؟ فقال: جئت لأستشيرك. قالت: في ماذا؟ فقال: لقد خذلني الناس وانحازوا عني... ولم يبقَ معي إلا نفر قليل من رجالي... وبنو أمية يفاوضونني على أن يعطوني ما شئتُ من الدنيا... فما تَرَيْن؟ فأجابت وهي تمسح عينيها المنطفئتين: إن كنتَ تعلم أنك على حق وإليه تدعو فامضِ يا بنيّ، فقد قُتل عليه أصحابك. ولا تُسْلِم نفسك للحجاج مختاراً فيُلهِب برأسك غلمان بني أمية، وإن كنتَ تريد الدنيا فبئس العبد أنت.
فقال عبد الله: هذا رأيي يا أماه. أخاف أن يمثلوا بي.
قالت: إن الشاة المذبوحة لا يؤلمها السلخ.
فأشرقت أسارير وجهه ودنا منها وقبلته، ووقعت يدها على درعه فأمرته أن ينزعه. ثم بدأت تَشُمّ ابنها وهي تشعر أنه اللقاء الأخير.
فارقها عبد الله وهي تدعو له قائلة: "اللهم ارحم طول قيامه وشدة نحيبه في سواد الليل والناس نيام، اللهم ارحم جوعه وظمأه في هواجر المدينة ومكة وهو صائم، اللهم ارحم برَّه بأبيه وأمه، اللهم إني سلّمته لأمرك ورضيتُ بما قضيتَ له فأثبْني عليه ثواب الصابرين".
قاتل عبد الله حتى قُتل. فأمر الحجاج بجثته أن تُصلب وألا تنزل عن خشبتها حتى تشفع فيه أسماء. ولكن الجثة بقيت معلّقة والأم الثكلى رفضت أن تتشفع أو أن تكلم الحجاج ببنت شفة.
ودخل عليها الحجاج فقال: كيف رأيتِني صنعتُ بابنك؟! فقالت: أفسدتَ عليه دنياه، وأفسدَ عليكَ آخرتك. وقد أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن في ثَقيف مبيراً وكذّاباً، فأما الكذاب فرأيناه [يعني المختار الثقفي]، وأما المبير فلا إخالك إلا إياه. رواه مسلم.
وكان عبد الله بن الزبير قد بلغ الثانية والسبعين من عمره، وأمه أسماء قد بلغت المئة.
رضي الله عنها وأرضاها. ومثلُها فلتكن النساء.
وسوم: العدد 791