إمام العربية والتفسير في شبه القارة الهندية العلامة عبدالحميد الفراهي الهندي
يعتبر العلامة عبدالحميد الفراهي الهندي أحد مخضرمي القرنين الثالث عشر والرابع عشر الهجريين ، حيث ولد رحمه الله سنة 1280 هـ في قرية فريها – من قرى مديرية أعظم كره بالهند – وكان ابن خال علامة الشرق ومؤرخ الإسلام الشيخ شبلي النعماني- تغمده الله برحمته - . وتوفي سنة 1349 هـ الموافق 1930 م .
ومن المؤسف أن يكون مثل هذا العلم العظيم مجهولا إلى حد كبير في الأوساط العلمية والثقافية في العالمين العربي والإسلامي، على الرغم من كتبه ومؤلفاته التي تدل على عبقرية فذة ، وعقلية مبدعة ، والتي لابد أن يكون لها أثر بارز في حاضر ومستقبل العلوم العربية والإسلامية
اشتغل الفراهي منذ يفاعته بطلب العلم ، فحفظ القرآن ، وقرأ – كدأب أبناء العائلات الشريفة في الهند – اللغة الفارسية وبرع فيها ، ثم انصرف إلى طلب العربية ، فاستظل بعطف أخيه الشيخ شبلي النعماني – وكان أكبر منه بست سنين – فأخذ منه العلوم العربية كلها من صرفها ونحوها ، ولغتها وأدبها ، ومنطقها وفلسفتها ، ثم سافر إلى لكنو – مدينة العلم في الهند – وجلس في حلقة الفقيه المحدث الإمام الشيخ أبي الحسنات عبد الحي اللكنوي _ صاحب التعاليق المشهورة _ ثم ارتحل إلى لاهور وأخذ الأدب العربي من إمام اللغة العربية وشاعرها المفلق في ذلك العصر الشيخ الأديب فيض الحسن السهارنفوري – شارح الحماسة وأستاذ اللغة العربية في كلية العلوم الشرقية بلاهور – فبرع في الآداب العربية ، وفاق أقرانه في الشعر والإنشاء . قرأ دواوين الجاهلية كلها ، وحل عقد معضلاتها ، وقنص شواردها فكان يقرض القصائد على منوال الجاهليين ، ويكتب الرسائل على سبك بلغاء العرب وفصائحهم .
ثم عرج على اللغة الانجليزية – وهو ابن عشرين سنة – ودخل في كلية عليكره الإسلامية ، ونال بعد سنين شهادة B A من جامعة الله أباد ، وامتاز في الفلسفة الحديثة ، أخذها من الأستاذ الدكتور توماس أرنولد الإنكليزي الأستاذ بكلية علي كره الإسلامية يومئذ - ... كان الفراهي عالماً بالعلوم العربية والدينية ، وفاضلا في العلوم العصرية والإنكليزية ، ثم عين معلماً للعلوم العربية بمدرسة الإسلام بكراتشي عاصمة السند ، فدرس فيها سنين ، وكتب وألف وقرض وأنشد ، ثم انقطع إلى تدبر القرآن ودرسه ، والنظر فيه من كل جهة، وجمع علومه من كل مكان ، فقضى فيه أكثر عمره ، ومات وهو مكب على أخذ ما فات العلماء، ولف ما نشروه ، ولم ِّما شتتوه ، وتحقيق ما لم يحققوه ، فكان لسانه ينبع علما بالقرآن ، وصدره يتدفق بحثاً عن مشكلاته ، وقلمه يجري كشفا عن معضلاته ...
أما المناصب التي شغلها : فقد عين أستاذ للغة العربية بكلية علي كره الإسلامية ، وكان بها يومئذ أستاذ اللغة العربية المستشرق الألماني الشهير يوسف هارويز ، الذي استكمل العربية من الفراهي ، وقرأ عليه الفراهي العبرية ، ثم عين أستاذاً بجامعة الله أباد ، وبقي فيها أعواما حتى انتقل منها إلى حيدر أباد الدكن رئيسا لمدرسة دار العلوم النظامية ، التي كانت تخرج قضاة البلاد وولاتها. وهو الذي عمل على تأسيس الجامعة العثمانية ، والتي كانت من أحدث جامعات العالم سنا ، وأعجبها نظاما . ثم استقال ولزم بيته ، وانقطع إلى العلم ، وكان قد أسس قرب قريته مدرسة عربية دينية ، سميت " مدرسة الإصلاح " فكان ينظر في شؤونها ، وكان من أعظم مقاصدها وأهدافها تحسين طريق تعليم العربية وإيجاز قائمة دروسها المتعبة العقيمة ، وإلغاء العلوم البالية القديمة ، والعكوف على طلب علوم القرآن والبحث عن معانيه ونظمه ، وأحكامه وحكمه .
كما كان رئيسا للجنة المديرين "لدار المصنفين " التي كان أحد مؤسسيها ... (1).
هذه لمحة خاطفة عن حياة الفراهي . وأما كتبه ومؤلفاته فكثيرة متعددة ، ومعظمها باللغة العربية التي شغف بها المؤلف ، وآثرها على لغته الأصلية ، وحينما سئل عن سبب كتابته بالعربية مع حاجة قومه إلى الكتابة بالأردية قال : " أردت لكتبي الخلود " وسنتكلم عن كتبه وما أضافته من جديد إلى عالم المعرفة في بعض الأعداد القادمة ، ونورد في هذا العدد بعض ما قاله في العرب ولغتهم ، حيث رافقهم في شعرهم الجاهلي ، وعاش حياتهم ، وتنقل في بواديهم وحواضرهم ، وعرف أخلاقهم ومثلهم، وقال فيهم ما لم يحسن أن يقولوا مثله في أنفسهم ، يقول الفراهي في العرب وفي صفة كلامهم :
" وكانت العرب على غاية قصوى في تأثرهم بالكلام ، وهذا لقوة قلوبهم ، وشدة تأثير أقوالهم ، فكأن كلامهم يحمل روحا منهم ، وكأن السامع يتأثر له من وجهين : من قوة المتكلم ، ومن اعتيادهم التأثر ، وقد قيل : القول إذا خرج من القلب وقع في القلب .
وسذاجتهم وصدقهم ، نفت عنهم الخواطر وتشتت البال . وصرف القول عن نهجه الصادق ، فكان قولهم وسمعهم من القوة والإصابة كضربة سيف مرهف ، ولولا أن كلامهم جماع همتهم ما ارتجلوا قصائد طويلة دامغة ، وكانوا أصدق الناس وأنطقهم " .
ويقول أيضا في أخلاق العرب التي رشحتهم لحمل رسالة الإسلام :
" زعموا أن الله تعالى أعطى العرب كتابه ، وأرسل إليهم الرسول لما بلغ كفرهم وسوء أعمالهم منتهاه ، هذا حق . ولكن لابد فيه من زيادة : إن الله تعالى بعث رسولا منهم ، واصطفاهم لصدقهم ، وأمانتهم ومكارم أخلاقهم ، وكانوا أرغب في خلال الخير ( وهذا بحث طويل ، ودلائله في تاريخهم و "الحديث").
ويقول أيضاً :" خلتان فضلت بهما العرب على سائر الناس : الصدق . والجود .
فالصدق بناء العبادات . والجود بناء المعاملات . ويعبر عن الأصلين بالصلاة والزكاة . ألا ترى كيف كانوا يمدحون بهاتين الصفتين ؟
_______________________________________
(1) عن الترجمة الملحقة بكتاب "امعان في أقسام القرآن " للمؤلف – بتصرف واختصار.
قال صخر أخو الخنساء يرثي أخا له :
وطيَّبَ نفسي أنني لم أقل له كذبت ولم أبخل عليه بماليا
وبلغ من حب الفراهي للعرب ما جعله يعتبر سيئاتهم إنما نبعت من الحسنات . وفي ذلك يقول :
"وإنما كان القرآن معجزاً للعرب لما أنهم تأثروا له ، فإن العرب على علاتها كانت على سذاجة الفطرة ، وحب المعالي : من الجود ، وصلة الرحم ، والغيرة ، والشكر ، لاسيما شرفائهم وخيارهم ، حتى إن سيئاتهم نبعت من الخيرات ، فمعاقرتهم الخمر ، ومقامرتهم الميسر جاءت من الجود ، وحروبهم من أداء حق المقتول ، والغضب للقسط ، وظلمهم من إباء النفس عن الدنية، ولذلك رحموا الضعفاء ، والأرامل ولم يقتلوا في الحرب الإماء ولا الأطفال ، ولم يرهقوا المنهزمين .
ويرى الفراهي أن سبب تأثر العرب بالقرآن ، يرجع أولا وقبل كل شي لدعوته إلى مكارم الأخلاق التي كانوا يجدون صداها في نفوسهم ، والتي كانوا يشعرون بها بفطرتهم . وفي ذلك يقول :
" والقرآن دعاهم أولا إلى هذه المكارم التي قد عرفوها ، فتأثر له ذوو النهى منهم ، لصدقه في الدعوه إلى المعالي ، حتى إذا دانت له جماجمهم ، بين لهم أن هذا الكلام لا يكون إلا صدقا وهو كونه قدسيا ، وهدى ونورا، فلا يقدر عليه كاذب، بل يكون إيحاءً من جانب القدس، ولذلك لم يجيء التحدي به في أول الدعوة حتى علموا أثره .
وكونه أهدى ، هو أثره الذي أحيا أمة تشتت أركانها، وتهدم بنيانها، وبعدت عن المدنية لشدة إبائها وحميتها ، وصعوبة قيادها ، كأن القرآن أخرج أمة متمدنة من الأسود الضواري ،
قال تعالى :" لو أنفقت مافي الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم إنه عزيز حكيم"(1)
1- سورة الأنفال : آية 63 .
والعرب قد جربوا ذلك، وعرفوه في أنفسهم - وأئمتهم وذوو العقول والتدبير ، وأولو الأمر والنهى منهم ، أعلمهم بعجزهم عن تحويل العرب إلى التمدن - وقد أعجزوا الأمراء إلا الشيخين ، وعادوا بعد مدة قصيرة إلى بغيهم ، وتطاول بعضهم على بعض ، وهم إلى الآن على حالهم قانعين بفقرهم وبؤسهم ، مفتخرين بحريتهم القديمة ، إلا الذين شربوا من التمدن الحديث الذي هو هلاك بني آدم ..." (1).
ويرى الفراهي في فضيلة الصبر التي كان يتحلى بها العرب مرشحا قويا لهم لحمل رسالة الاسلام ، ذلك أن بناء الإسلام إنما قام على الصبر ، وفي ذلك يقول الفراهي :
"لعل اختيار أمة العرب ، هو الصبر المحض ، وهو جماع الفضائل ، وهو أحسن وراثة إبراهيم عليه السلام . وأرض العرب أصلح لتربية هذه الفضيلة حتى ترى حيواناتها وأشجارها أصبر من بني نوعها في سائر الأرض .
ولما كان بناء الإسلام على الصبر ، كان الإسلام أصلح لفطرة العرب ، ولما كانت أرض العرب صالحة لطبائع أهلها ، فإذا خرجوا منها أسرع الفساد إلى طبائعهم.
فكان الترف هلاكهم ، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم ما معناه:
" إنه يخاف عليهم كثرة المال" (2).
ويقول أيضا في صفة كلام العرب وتفضيله على كل كلام آخر: "اعلم أن كلام العرب كله نمط أعلى من كلام الأمم التي اعتادت عليه ، لأن العرب مولعون برزانة القول ، وتهذيبه عن السخف ، فهم يجردون كلامهم من كل رابطة ، ولو ذكروا الروابط لكان عارا على السامع ، الذي يفهم الروابط بذكائه ، فلذلك كثر في كلامهم الحذف . ألا ترى قولهم :
" أنا ذاهب" كلمتان . - وفي أكثر اللغات : ثلاث كلمات - .
فخف عليهم بهذا الايجاز ، إعمال المنطق ، كأن كلامهم قد وضع حسب اقتضاء الفكر والفهم . فترى كلامهم مربوطا برابطة عقلية .
وعليك أن تميز بين الروابط من كل قسم ، فإنهم لا يصرحون بها ...
ثم إن الحذف في كلامهم ، يجعل كلامهم شبيها بالوثبات - والقرآن كمطر السحاب من وجوه مختلفة – وهذه الوثبة ، من بعض وجوه المطر.
قال امرؤ القيس في صفة السحاب ومطره :
لها وثبات كوثب الظباء فواد خطاء وواد مطر
____________
(1) القائد إلى عيون العقائد : 181 – 183 مع شي من التصرف.
(2) دلائل النظام : 37 .
فالكلام الذي لا حذف فيه ، لامحل فيه للعقل والنظر ، وهو كدبيب النمل ، والعرب لا تستجيده ، ولا تتأثر به ، لذكائهم وسرعة فهمهم ، وتنفرهم عن الفضول - وإن كان ضرورياً عند غيرهم -..."(1)
ويتحدث الفراهي عن ميزة الحذف هذه في كلام العرب في مكان آخر فيقول :
ومن أساليبهم : الحذف – وهو: إسقاط الفضول عن القول – والفضول : ما يفهم الكلام بدونه ، ويتأثر منه السامع . فإن الغرض من الحديث ليس إلا الإفهام والتأثير. فكلما زاد على هذين أذهل وأبعد وأثقل .
ولما كان المستمعون على مراتب متفاوتة من الذكاء والتأثر. فقد اختلفت الألسنة في مقدار الحذف فيها :
أما العرب : فلذكائهم ، وتوقد أذهانهم ، فقد كان أنجح الأقوال عندهم ماقل وكفى . فإن الكلام إذا لم يهذب عما لا فائدة فيه ، ولا يغني شيئا . سقط عندهم ، ومجته أسماعهم . وذلك لاعتقادهم أن المسهب في الكلام :
- - إما أنه أحمق . - أو يحمق المستمع .
- وعلى هذا كان أمر الحذف في كلامهم ، من بعض سجاياهم ، وكأنهم طبعوا عليه ، فلذلك تراهم يخالفون ألسنة الأمم بأمور:
- لم يشكلوا كلامهم إلا لأجل العجم – وكذلك العبرانيون إخوانهم-.
- جردوا الكلام عن الروابط : كالإضافة ، والخبر ، والتمييز ، والظرفية ، وغيرها. وهذه درجة عالية من ارتقاء اللسان – والبحث المشبع عليه في باب على حدة -.
- وأخلصوا الكلام عما دلت عليه القرينة من الفعل والجواب للشرط، والقسم.
- واستقصاء ذلك في النحو-.
- أسقطوا من القصة ، والحجة ، أجزاء وقضايا ، لا يكاد يحذفها غيرهم . فلذلك صعب على العجم درك حديثهم - كما لا يدرك حسير القوم شأو حثيثهم –والبحث عنه في باب الإيجاز وفيه فوائد جمة ...
- أسقطوا - في كلامهم المركب - من هيآت الحروف : أكثرها .
فسبقوا كل أمة بخطهم البديع التركيب" . (2)
ويشرح الفراهي بعض ما أوجزه هنا - في مكان آخر من كتابه "أساليب القرآن" - حيث يتحدث عن خصائص لسان العرب وخطهم فيقول :
__________________________
(1) دلائل النظام :65 – 68 بقليل من التصرف.
(2) أساليب القرآن : 25 – 26 مع شيء من التصرف.
خصائص لسان العرب وخطهم
منها كثرة الحذف . اعتمادا على فهم السامع . فإنهم لذكائهم كانوا يعدون الإطناب عياً . حتى إن لسان العرب ، قد بني على الإيجاز- خلاف سائر اللغات –
فأنواع الكلم مصوغة من المواد . وليست مركبة من السوابق واللواحق ، مثلا كلمة " فاعل " - ليس مثل "كارنده" (الفارسي) . وميكر Maker (الإنكليزي)
ومافي العربية من الحروف الزوائد في مثل :
- يفعل ، ومفعل ، وفاعلة ، وفاعلون.- فليس في شيء من السوابق واللواحق - .
إنما هو من أنحاء أوضاع الزوائد؛ فإنها توضع في أمكنة مختلفة.
وكذلك هذب كلامهم عن فضول الروابط - فلا تجد فيه رابط النسبة الخبرية ، ولا الإضافية - . وكذلك عن روابط الخيال : فترى في كلامهم - لتعودك بالعجمي - انقطاعا ورتقا . ولكن العربي يراه متصلا - وهذا من أقوى الدلائل على حدة فكر المتكلم ، والكاتب - وأرى ذلك في كلام حكماء الهند . - وأشكل على علماء أوربا فهمه ، لتعودهم على الإطناب -.
قد علمنا أن اللسان حمولة الخيال ، وكذلك الخط حمولة اللسان . وقد علمنا ما في الخيال من السرعة ، ثم ما في اللسان . فمهما كان اللسان أبطأ ، كان قيدا وثقلا على الخيال .
وهكذا الخط إذا كان بطيا كان قيدا على الكلام النفسي ، فيتبلد الخيال . فلذلك كلما كان اللسان والخط أوجز ، كان أحسن وأعون .
ولذلك في هذا الزمان احتاجوا إلى الخط السريع ، لضبط الخطب. والعرب لسرعة فكرهم ، لم يرضوا بالخط البطيء - الذي لم يترق منه قوم إلى الآن - والمتعود بالخط العربي ، يحقر سائر الخطوط ، ويحسبه خط الجهلاء والحمقاء - لا أثر عليه من الصنعة والعقل .
فالفكر الذي وضع لهم لسانا مهذبا عن الفضول ، أعطاهم خطاً على غاية من الصنعة وجودة التركيب .
وكما أن خطهم يساعد الكاتب فيلقى خياله بسرعة التخيل والكلام النفسي، كذلك هذا الخط يساعد المتعلم ، وذلك لأن الألفاظ فيه صورة واحدة ، ترتسم بلحظة واحدة في الخيال ، وتبقى كصور الأشخاص، وأنت تعلم أن البصر لشدة تمرنه ، يقدر على حفظ الصور أكثر من سائر الحواس- فإنك لا تزال ترى - حتى في النوم - . ولا تسمع ، ولا تشم ، ولا تطعم ، ولا تمس ، إلا بعض الأوقات-
، فإذا رأيت ألفاظا مثل : شمس ؛ قمر ، نجم : أسد ، نخل ، رجل ، فكأنما رأيت صور أشخاص .
وأما سائر الخطوط - من خطوط النصارى والهنود- ففيها كل حرف صورة على حدتها ، وفي كل كلمة تحتاج إلى حفظ الصور المختلفة الطويلة العريضة ، وزاد على ذلك رسم الحركات .
ثم في الخط الأوروبي : الحركات ربما تربو على الحروف . مثل : فائط فإنه عندهم : ف – ي – ج – ص – ط ، أعني Fight .
فالخط الذي وضعته العرب أسهل لتعلم الألسنة . ولذلك ترى الفرس ، والترك ، والأفغان ، وأكثر الأمم المسلمة - مع حفظهم ألسنتهم - تركت خطوطها ....
ويتحدث في مكان آخر عن عدم تغير اللسان العربي ، وثباته واستمراره فيقول :
إنا نرى اللسان يتغير بالزمان ، إذا لم يكن له وازع عن التغير . ولكنك ترى اللسان يسلم عن التغير إذا شاع التعليم، واتخذوا كتبا خاصة ، فكل صبي ينشأ ويتربى على لسان واحد - كما نرى الفارسية ، والعربية ، في الهند لم تتغير - فإن القرآن صار كالمركز لكل ما تعلموا في العربية -وكتاب السعدي والحافظ وأمثالهما ، حفظوا اللسان في فارس والهند- -
والسبب القوي للتغير: هو تبدل الحكم من قوم ، إلى قوم مختلفين في لغاتهم - بخلاف لسان فارس والهند- والآن نرى أثر لسان الإنكليز في الهند. وهذان أمران ظاهران .
فإذا توجهنا إلى حال لسان العرب قبل الإسلام : علمنا أنهم حفظوا لسانهم لأجل الرواية ، وجمعهم في مواسمهم وأسواقهم ، وتخالطهم لكثرة الترحال ، فكانت أشعارهم أسفارهم ، ومواسمهم مدارسهم . فلا نرى في قديم كلامهم وجديده تفاوتا .
فإذا جاء القرآن ودونت لغتهم ، استقر لسانهم ، ولكن العامة نبذوا العلم ، فتغير لسانهم .
ومع ذلك إذا رجعوا إلى التعليم : رجع لسانهم إلى أصله - كما ترى اليوم المصريين والشاميين راجعين إلى العربي الصحيح ....- " (1)
هذه بعض أقوال الفراهي في العرب والعربية ، وهي إن دلت على شيء فإنما تدل على عظمة الإسلام الذي جعل رجلا مثل الفراهي يعيش في أقصى الهند بعيدا عن العرب والعروبة ، يتقن لغتهم ، ويتعمق في دراستها ، ويخوض لأجل ذلك مفاوز الشعر الجاهلي ، ويستنبط منه أخلاق العرب وأحوالهم ، ويتحدث عن خصالهم ومحاسنهم حديث المحب العاشق ..
لقد فعل الفراهي كل ذلك بسبب عقيدته الإسلامية ، ومن أجل فهم القرآن الكريم الذي نزل بلغة العرب ، وقد أدرك الفراهي أنه لا يمكنه تذوق القرآن ، واستكشاف كنوزه إلا من خلال العربية ، فانطلق يتعلمها بحماس منقطع النظير، وبتعمق قل أن يوجد مثله في أهل العربية ، بل لقد سجل الفراهي على علماء العربية بعض الأخطاء والهفوات ، وتكلم على بعض خصائص العربية التي
_______________
(1) أساليب القرآن : 4 - 5
لم يذكرها أحد غيره ، وكانت له ملاحظات واستدراكات في علوم النحو والبلاغة وغيرها ، كما كانت له نظرات صائبة في ما ينبغي أن تكون عليه علوم اللغة والشريعة ..
هكذا فعل القرآن بالفراهي ، وهكذا يفعل بكل مسلم غيور ، فأين موقف الفراهي هذا من مواقف كثير من العرب المعاصرين الذين ينتسبون إلى العروبة اسما ، ولكن يولون وجوههم شطر الغرب ، فيستقبلون قبلته ، ويدورون في فلكه ، بعد أن أداروا ظهورهم للعربية والقرآن ، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا ، ألم يقرأوا قول الله تعالى في قرآنهم العربي :
"لقد أنزلنا إليكم كتبا فيه ذكركم أفلا تعقلون " (1) .
وقوله تعالى :
" وإنه لذكر لك ولقومك وسوف تسئلون" (2) ؟!!
__________________
الأنبياء الزخرف : 44
العدد/13- شهر-4—1989 مجلة الشريعة والدراسات الإسلامية
رئيس التحرير د. أحمد حسن فرحات
وسوم: العدد 816