الأصولي الفقيه.. الشيخ عبد الرزاق عفيفي
(1323 – 1415هــ / 1904 – 1994م)
مولده ونشأته
هـو الشيـخ عبد الرزاق بن عفيفي بن عطيـة، ولـد في بلدة (شنشور) التابعـة لمركز (أشمون) في محافظة (المنوفية) بمصر سنة 1323هـ / 1904م.. درس المرحلة التعليمية الابتدائيـة ثم المرحلة الثانوية ثم القسم العالي في الجامع الأزهر، وحصل على الشهادة العالمية سنة 1351هـ، ثم درس مرحلة التخصص في شعبـة الفقـه وأصوله، ونال شهـادة التخصص وكان رئيسًا لجماعة أنصـار السُنَّة المحمدية بعد رحيل مؤسسهـا الشيخ محمد حامـد الـفقي، وكـان من أبـرز كتّاب مجلتها (الهدي النبوي) التي صـدر أول عدد منها في شهر ربيع الآخر سنة 1356هـ، وعيَّن مدرسًا بالمعاهد العلمية التابعة للأزهر.
مسيرته العلمية والعملية
انتُدب للتدريس بالمملكة العربية السعودية بترشيح من الشيخ محمد بن مانع، فعمل مدرسًا في وزارة المعارف السعودية سنة 1368هـ / 1949م، ثم عيّن مدرسًا بمدرسة دار التوحيد بالطائف، ثم بمعهد عنيزة بالقصيم سنة 1370هـ، ثم في الرياض للتدريس بالمعاهد العلمية، ثم نقل للتدريس بكلية الشريعة، وكلية اللغة العربية، ثم كان مديرًا للمعهد العالي للقضاء سنة 1385هـ، ثم نقل إلى الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد سنة 1391هـ، وعين نائبًا لرئيس اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء، كما كان عضوًا في هيئة كبار العلماء، وساهم في وضع المناهج.
وقد تولى الإشراف العلمي على عدد من الرسائل العلمية العالية كالماجستير والدكتوراه، وكانت له حلقات علمية في تفسير كتاب الله، يلقيها في مسجد الشيخ محمد بن إبراهيم في الرياض، وقد انتفع بعلمه خلق كثير، وتخرج على يديه الكثير من العلماء.
عني بعلوم اللغة والتفسير والأصول والعقائد والسنة والفقه، حتى إنه إذا تحدث في علم من هذه العلوم، ظن السامع أنه تخصصه الذي شغل فيه كامل وقته، وقد كانت له عناية خاصة بدراسة أحوال الفرق.
صفاته
كان الشيخ عبد الرزاق عفيفي (رحمه الله) غني النفس، بعيدًا عن حب الظهور، وكان ينفق راتبه أول كل شهر على الفقراء من المسلمين، ولقد أسكن في بيته رجلاً منهم لمدة خمسة وعشرين عامًا دون أن يتقاضى منه أجرًا.
وكان له أيام الملك عبد العزيز درس كل يوم أربعاء، ويحضره الملك عبد العزيز نفسه.
وعلى الرغم من كبر سن الشيخ عفيفي، فقد كان منظمًا في عمله، محافظًا على وقته بين الدرس والتدريس، وكان قوي الحافظة والملاحظة، محكم الرأي، مناظرًا قوي الحجة، واسع الصدر، حسن المناقشة، زاهدًا في متاع الدنيا، فكان ممن طال عمره وحسن عمله، وكان يرى أن لا ضرورة للتأليف في زماننا هذا إلا للضرورة القصوى؛ لأن العمل في نشر المؤلفات القديمة بإتقان وعناية، يغني عن هذا التخبط الذي نراه.
ابتلاؤه
وقد ابتلاه الله ببلايا عظيمة، فكان صابرًا محتسبًا، من ذلك أن ولده أحمد مات في حرب رمضان ضد العدو الصهيوني، ثم مات ولده عبد الرحمن في حادث سيارة بالسعودية، ثم مات ولده عبد الله، كل ذلك والشيخ صابر محتسب، ولقد أصيب بمرض لازمه أكثر من ربع قرن، واشتد به المرض في السنوات الأخيرة من عمره، ولم يمنعه ذلك من ممارسة عمله، وانتقاله إلى مقر عمله ومكتبه في دار الإفتاء والبحوث، بل والصلاة مع الجماعة في المساجد.
ولقد وصفه من عايشه وخالطه بأنه موسوعي المعرفة، متنوع المدارك، متفنن في سائر العلوم، محارب للبدع والخرافات.
تلامذته
تتلمذ على يديه الكثير من طلبة العلم الذين صاروا من كبار العلماء والقضاة والمستشارين والدكاترة والمدرسين، ومنهم على سبيل المثال لا الحصر:
- الشيخ عبد الله الجبرين.
- الشيخ عبد الله البسام.
- الشيخ عبد الله بن قعود.
- الشيخ صالح الفوزان.
- الشيخ عبدالله بن منيع.
- الشيخ عبدالله الغديان.
- الشيخ محمد بن جبير.
- الشيخ عبد الله التركي.
- الشيخ صالح الحصين.
- الشيخ راشد بن خنين.
- الشيخ صالح سعود آل علي.
- الشيخ صالح عبد الرحمن الأطرم.
وغيرهم كثيرون ممن لا يحصون من العلماء والمشايخ.
أهم مؤلفاته
- الإحكام في أصول الأحكام للآمدي «تعليق».
- عقيدة أهل السنة والفرقة الناجية لابن تيمية «تعليق».
- مذكرة التوحيد.
- رسائل ودراسات في منهج أهل السنَّة.
- شبهات حول السُّنَّة.
- تفسير الجلالين (تعليق).
بالإضافة للكثير من الكتب والرسائل التي أشرف عليها، أو قدمها، أو علق عليها.
وكان أحب الكتب إليه كتاب (المستصفى) للغزالي، وكتاب «الموافقات» للشاطبي، وكتاب «القاموس المحيط» للفيروزابادي.
قالوا عنه
يقول عنه الشيخ الألباني:
«إن الشيخ عبد الرزاق عفيفي من أفاضل العلماء، ومن القلائل الذين نرى منهم سمت أهل العلم وأدبهم، ولطفهم وأناتهم، وفقههم.
وقد التقيته غير مرة في مواسم الحج، وكنت أستمع أحيانًا إلى إجاباته العلمية على استفتاءات الحجاج المتنوعة، وكانت محكمة تدل على فقه دقيق، واتباع ظاهر لمنهج السلف».
ويقول د. عبد الله بن عبدالمحسن التركي:
«لقد عرفت الشيخ عبد الرزاق عفيفي منذ نحو ثمانية وأربعين عامًا، وتوطدت صلتي به في أثناء طلب العلم والدراسة في كلية الشريعة في الرياض، ثم في المعهد العالي للقضاء، ثم في حلقات المساجد والمحاضرات في الجامعات، ومناقشة الرسائل الجامعية، وازدادت معرفتي به حينما لازمته فترة إعداد بحثي في الماجستير حيث كان مشرفًا عليه، فكان نعم الموجه والناصح يبذل وقته وجهده، ويحرص على إفادة طالب العلم.
ولا أبالغ إذا قلت: إن غالب منسوبي جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية من طلابه، أو طلاب طلابه، بل إن هذا الوصف ينطبق على غالب العلماء في المملكة العربية السعودية سواء أكانوا في القضاء أم التدريس أم الإفتاء والدعوة، لقد عاصر جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية منذ سنواتها الأولى، واستمر عطاؤه لها إلى أن توفاه الله، وكان من أبرز الذين أفادوا الجامعة في كلياتها ومعاهدها، واستمر عطاؤه في تلك الكليات والمعاهد بعد وفاة سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم، ثم في مجال الإفتاء والدعوة في رئاسة البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد، وكان فيهـا من المقربين لسماحة والدنا وشيخنا الشيخ عبد العزيز بن باز (رحمه الله) في نشر العلم، والدعوة إلى الله، والدفاع عن دينه.
إن فضيلة الشيخ عبد الرزاق عفيفي يتصف بصفات يندر أن تجتمع في شخص، غزارة العلم، ورجاحة العقل، والزهد في الدنيا ومظاهرها، وحب الخير للآخرين، وبذل جاهه وماله في ذلك، ولقد امتاز عن غالب زملائه وأقرانه الذين درسوا في الأزهر وفي غيره من المؤسسات العلمية، بشدة متابعته لسلف الأمة الصالح، وتركيزه في آرائه وتدريسه على العقيدة الإسلامية الصافية المرتبطة بكتاب الله وسنَّة رسوله (صلى الله عليه وسلم).
وكان يقوّم كل بحث أو رأي في ضوء الأسس والأصول الصحيحة التي التزمها السلف الصالح والأئمة الكبار، حينما واجهوا الفلسفات المادية، والاختلافات في الأصول والفروع».
ويقول الدكتور صالح آل علي:
«كان الشيخ عبد الرزاق عفيفي من ضمن مجموعة العلماء الذين عملوا في دار التوحيد، كما كان من أوائل من جاء للتدريس في المعاهد العلمية، وكان مع الشيخ محمد بن إبراهيم مفتي الديار السعودية آنذاك، ومع الشيخ عبد اللطيف بن إبراهيم خير معين على السير بهذه المعاهد والكليات من بعد ذلك، نحو تحقيق الرسالة المنوطة بها، لقد كان ذا باع طويل في علوم الشريعة، وله القدح المعلّى في التفسير وعلوم القرآن، وقل أن يوجد له نظير في التوحيد وعلم العقائد والمذاهب والملل والنحل، أما في علم أصول الفقه فهو علم من أعلامه، له في ميدانه اليد الطولى، أما الفقه فإليه فيه المنتهى، وقد شرفتُ أن أكون أحد تلاميذه، في كلية الشريعة، ثم في المعهد العالي للقضاء، وخبرته من قرب، ورأيت فيه ما كنت أقرأ عن علماء السلف من العلم الجمّ، والفقه في الدين، والتحلي بمبادئ هذا الدين، من تواضع، وتقى، وزهد، وورع، وصبر، وحب لهذه الأمة، وحرص على أن تظل كما هو مؤمّل منها، منارة هدى، ومصدر إشعاع، وموئل عز للإسلام والمسلمين».
ويقول الشيخ عبد الله الجبرين:
«إن الشيخ عبد الرزاق عفيفي عطية من علماء الأزهر الشريف قديمًا، أدرك الشيخ محمد عبده، والشيخ محمد رشيد رضا، ونحوهما، وكانت دراسته في العلوم الشرعية كالحديث واللغة والتفسير والأحكام، حتى تفوّق على زملائه وبعض مشايخه، وكان من زملائه الشيخ عبد الله بن يابس، وكان بينهما من المحبة والصحبة وقوة الأخوة ما لا يوجد مثله إلا نادرًا، فكان زواجهما متقاربًا في مصر من زوجتين صالحتين كالأختين، واستمر الودّ بينهما متصلاً حتى الوفاة.
أما علم الشيخ عبد الرزاق عفيفي فهو بحر لا ساحل له في أغلب العلوم التي يتناولها بالبحث والشرح.
ويضيف الشيخ عبد الله:
لقد عرفته لأول مرة في العام 1374هـ كان يزور بعض المشايخ كالشيخ عبد العزيز محمد الشتري، ونقرأ عليه في المجلس حديثًا من صحيح البخاري، فيشرحه شرحًا موسعًا، بحيث يستغرق شرح الحديث الواحد أكثر الجلسة.
وشهـدتُه في أحـد الأعوام يفسـر سورة (سبأ) فـي مسجـد الشيـخ محـمد بـن إبراهيم، فكان يبقى في تفسير الآيتين نحو ساعة أو أكثر، ويستنبط من الآيات فوائـد وأحكامـًا وأقـوالاً وترجيحات يظهر منها عظمـة القـرآن الكريم وما فيهـا من الاحتمـالات والـفوائد، مما يدل على توسـع الشيخ، وسعة اطلاعه، وكثرة معلوماته.
أما أخلاقـه فقد عُرف عنه لين الجانب، وطلاقـة الوجه، وحسن الملاحظة، فهو أمام الزوار والتلاميذ يظهر دائـمًا الفـرح والسرور والانبساط في الكلام، والإجابة عن الأسئلـة، دون غضب أو ملل أو تبرم أو رد شديد للسائل، فجليسه يلقى منه كل المؤانسة والتبسم بحيث لا يمل».
ويقول الدكتور صالح الأطرم:
«صفات الشيخ عبد الرزاق عفيفي صفات العلماء الأفذاذ الذين مضوا وسجَّل لهم التاريخ ما يبقى من المحاسن إلى يوم القيامة، والشيخ عبد الرزاق جمع العلم والعقل، وقد اشتهر بحبه للنفع، وبذله للنصح، فهو المستشار الناصح لكل من استشاره من مسؤول أو من سائر الأفراد، وكان ثاقب النظر، عارفًا بطلابه واتجاهاتهم، من يصلح للقضاء أو للتدريس في حقول التعليم أو الوظائف الإدارية، وكان حريصًا على تأهيل من يتولون المسؤوليات من قضاء وتدريس وأعمال إدارية، وكان سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم يعتمد رأيه في المناهج وفي الكتب المقررة».
معرفتي به
كانت أول معرفتي به سنة 1375هـ عن طريق الشيخ مناع القطان الذي كان من تلامذته، ومن قريته في مصر، فقد التقيناه في موسم الحج لذلك العام، وكنت مع زملائي مدرسي مدرسة النجاة الأهلية في الزبير في بعثة الحج، ولقد أثنى الشيخ مناع على أستاذه الثناء العاطر، وذكر الكثير من مواقفه في نصرة الحق وأهله، والتزامه المنهج السلفي المستقى من الكتاب والسنَّة وما أجمع عليه سلف الأمة.
ثم تكررت اللقاءات معه كلما قدمت من الكويت لزيارة الرياض، سواء في منزله أو منزل الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ، أو منزل الشيخ عبد العزيز بن باز، أو في مكتبه في الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد، أو اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء، وهيئة كبار العلماء، أو في مواسم الحج بمكة المكرمة.
وكنت أوصي ابني الكبير مصطفى الذي يدرس بجامعة الرياض بزيارة الشيخ والتردد عليه وإبلاغه سلامي وتحياتي، وكان الشيخ يحمّله السلام إليَّ، ويدعو لي بالخير ويقول له: «إن أباك على ثغرة من ثغور الإسلام».
وحين استقر بي المقام بالرياض ومكة المكرمة، كنت أحرص على زيارته والاستفادة من علمه وتوجيهاته، فقد كان بركة من بركات العصر في العلم والصلاح والتقوى والزهد والصبر والقناعة.
وكنت أسمع منه الثناء الحسن على الدعاة بمصر، وثباتهم على الحق، وعدم الركون إلى الظالمين من الطغاة، وكان يحب الشيخ مناع القطان ويثني عليه ويعلم صلتي به.
وفاته
كانت وفاته يوم الخميس 25/3/1415هـ الموافق 1/9/1994م، وقد صُلي عليه بعد صلاة الجمعة في الجامع الكبير بمدينة الرياض، وأمّ المصلين سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز، ودُفن في مقابر الرياض.
رحم الله أستاذنا الشيخ رحمة واسعة، وأسكنه فسيح جناته، مع النبيين، والصديقين، والشهداء، والصالحين، وحسن أولئك رفيقًا، والحمد لله رب العالمين.
وسوم: العدد 821