(ابن تيمية) المفترى عليه
محمد عبد الشافي القوصي
يقول الشيخ/ حسنين مخلوف –مفتي الديار المصرية الأسبق- في تقريظه ل"رسالة المسترشدين" لشيخ الإسلام: "إنَّ ابن تيمية الذي قضى حياته كلها مكافحاً ومناضلاً في سبيل تنقية عقائد المسلمين مما علق بها من بدع وأوهام وخرافات، ليس من المعقول أنْ يرفض التصوف النقي أيْ التصوف السنِّي، من الشوائب الذي لمْ يخالطه زيغٌ ولا شطط ولا جهل ولا ابتداع، وهو تصوف العلماء والنسَّاك العارفين بالله تعالى، القائمين على حدوده، المتمسكين بشريعته، وجعلهم من السلف الصالح، وأئمة الهدى وعلماء الدين، بلْ إنَّ ابن تيمية لا يقل شيئاً عن الصوفي الأصيل، الذي يُعبِّر عن وجده وشطحاته، بعبارات غامضة غريبة، فنجده يتذوق مباعث جذبه وهيامه، بلْ إنَّ روح ابن تيمية أكثر بهجةً وضياءً –من كلام بعض كبار الصوفية- لأنه يخاطبنا بلغة القرآن الكريم، الذي ظلت له القلوب خاشعة، فيقول: (وقد يشاهد كثير من المؤمنين من جلال الله وعظمته وجماله أموراً عظيمة، تصادف قلوباً رقيقة، فتحدِثُ غشياً وإغماءً، ومنها ما يُوجِب الموتَ، ومنها ما يُخلُّ بالعقل)! بلْ إنَّ ابن تيمية الذي تطلَّع إلى المحبة الإلهية، وكابد الشوق نحو معرفة الله تعالى، لمْ يخلُ قلبه من تأثيرات الحب الإلهي، ولكنه أمام العداء الشديد للإسلام، عن طريق التتار، والغزو الثقافي الذي حاول طمس المعالم الأساسية للدين الإسلامي الحنيف، تمسَّك بالمنهج السلفي؛ لكيْ يواجه كل ذلك؛ فكان عنيفاً صارماً في مواجهة خصومه الكثيرين"!
* * *
من هنا نعلم؛ أن ابن تيمية كان متصوفاً تصوفاً حقيقياً، بخلاف ما يشيعه عنه المغفَّلون من الأعراب، وغلمان الوهابية! لذا نراه يقسِّم الصوفية إلى ثلاثة: صوفية الحقائق، وصوفية الأرزاق، وصوفية الرسم:
(صوفية الحقائق) فهم من تفرغ للعبادة والزهد في الدنيا، وهم الذين يرون أن الصوفي من صفا من الكدر، وامتلأ من الفكر، واستوى عنده الذهب والحجر. وهذا الصنف من الصوفية هو الذي ارتضاه ابن تيمية وسار عليه. يقول عن هذا الصوفي في كتابه (الصوفية والفقراء): "هو في الحقيقة نوعٌ من الصدِّيقين، فهو الصدِّيق الذي اختُصَّ بالزهد والعبادة على الوجه الذي اجتهد فيه، فكان الصدِّيق من أهل هذه الطريقة: صِدِّيقو العلماء، وصديقو الأمراء، فهو أخص من الصدِّيق المطلق، دون الصدِّيق الكامل الصدِّيقية من الصحابة والتابعين وتابعيهم، فإذا قيل عن هؤلاء الزهاد والعبَّاد من البصريين: إنهم صدِّيقون، فهو كما يقال عن أئمة الفقهاء من أهل الكوفة، إنهم صديقون أيضاً، كلٌّ بحسب الطريق الذي سلكه من طاعة الله ورسوله، بحسب اجتهاده. فهم من أكمل صدِّيقي زمانهم، وأن الصدِّيق في العصر الأول أكمل منهم".
ويشترط (ابن تيمية) في صوفية الحقائق ثلاثة شروط، هي:
أولاً: العدالة الشرعية، بحيث يؤدون الفرائض، ويجتنبون المحارم، أيْ التزام التقوى.
ثانياً: التأدب بأدب أهل الطريق، وهي الآداب الشرعية في غالب الأوقات، وأمَّا الآداب البدعية الوضعية، فلا يلتف إليها، وهذا يعني أنه يجب على الصوفي أن يكون متحلياً بمكارم الأخلاق، متخلِّقاً بأخلاق رسول الله، متأدباً بأخلاق القرآن.
ثالثا: أن يكون زاهداً في الدنيا، بألاَّ يتمسك بفضولها، فأمَّا من كان جامعاً للمال، أوْ كان غير متخلِّق بالأخلاق المحمودة، ولا متأدب بالآداب الشرعية، أوْ كان فاسقاً، فإنه لا يستحق ذلك!
(صوفية الأرزاق) هم الذين وقفتْ عليهم الوقوف كالخوانق والتكايا، فلا يشترط في هؤلاء أن يكونوا من أهل الحقائق، فإن هذا عزيز!
(صوفية الرسم) هم المقتصرون على الرسم، فهمهم اللباس والآداب الوضعية ونحو ذلك. فهو في الصوفية بمنزلة الذي يقتصر على زيّ أهل العلم وأهل الجهاد، ونوع ما من أقوالهم وأفعالهم، بحيث يظن الجاهل حقيقة أمره، أنه منهم، وليس منهم!
* * *
وفي مرحلة أخرى من حياة (ابن تيمية) قسِّم الصوفية تقسيماً آخر، أدق مما سبق، فهم:
1- صوفية أهل السنَّة الأوائل؛ ممن لا تشوب مصنفاتهم بِدعٌ، أو عناصر أجنبية دخيلة.
2- صوفية أهل السنَّة اللاحقين؛ ممن خلط التصوف بآراء كلامية، ولمْ يتأثروا بالفلسفة.
3- صوفية الفلاسفة المتأخرين، فيقول عن هؤلاء جميعاً: "والشيوخ الأكابر الذين ذكرهم عبد الرحمن السُلَمي في (طبقات الصوفية) والقشيري في (الرسالة) كانوا على مذهب أهل السنَّة والجماعة، ومذهب أهل الحديث، كالفضيل بن عياض، والجنيْد بن محمد، وسهل التستُّري، وعمر بن عثمان المكي، وغيرهم. وكلامهم موجود في السُّنَّة، وصنفوا فيها كتباً، لكن بعض المتأخرين منهم كان على طريق أهل الكلام في بعض فروع العقائد، ولم يكن فيهم أحد على مذهب الفلاسفة، وإنما ظهر التفلسف في المتصوفة المنحرفة المتأخرين؛ فصارت المتطرفة تارة على مذهب صوفية أهل الحديث، وهم خيارهم وأعلامهم، وتارة على اعتقاد صوفية أهل الكلام، فهم دونهم، وتارةً على صوفية الفلاسفة، وهم المنحرفون عن الطريق الصوفي السليم"!
خلاصة رأي ابن تيمية في الصوفية: "أنهم مجتهدون في طاعة الله عزَّ وجل، كما اجتهد غيرهم من أهل الطاعة، ففيهم السابق المُقرَّب بحسب اجتهاده، وفيهم المقتصِد الذي هو من أهل اليمين، وفي كلٍّ من الصنفيْن من قد يجتهد فيخطئ، وفيهم من يذنِب فيتوب أوْ لا يتوب، ومن المنتسبين إليهم مَن هو ظالمٌ لنفسه، عاصٍ لربه"!
الصراع بين الصوفية وخصومهم
يرى ابن تيمية أنه قد نشبتْ معركة حامية الوطيس بين الصوفية من جانب، وبين الرافضين لهم من جانب آخر، وأنَّ كلاً منهما قد غالى في موقفه، فحدث تباغض بينهما، ففريق (المتفلسفة وأهل الكلام) اقتصروا على العلم النظري، فقستْ قلوبهم وتحجرت، وأهملوا الجانب الروحي في الدين، فأنكروا التصوف برمته!
وفريق(المتصوفة) قابل هذا الغلوّ بغلوٍّ مشابه له في الحِدَّة، ومضاد له في الاتجاه، فهؤلاء يقولون: ليس هؤلاء على شيء! وأولئك يقولون: هؤلاء ليسوا على شيء! فصار بين الفريقيْن نوع من التباغض يشبه من بعض الوجوه التباغض بين أهل المِلَل!!
لكن بعض الباحثين؛ يرى أنَّ هناك عداوة بين ابن تيمية ومشايخ الصوفية!
وفي تقديرنا أنَّ هذه الشائعات ليست مبنية على أساس من البحث، فالمدقِّق في تراث (ابن تيمية) يجده يثني على شيوخ الصوفية الملتزمين في أقوالهم وأفعالهم بالكتاب والسنَّة، فيجعل من كلامهم حجةً يدعم بها مبادئه وآراءه، ويجعل شيوخ الصوفية الأوائل من الأئمة الذين دافعوا عن العقيدة، في ردهم على سائر الفِرق الضالة، كذلك فإنَّ الذي يتذوق ما كتبه (ابن تيمية) في السلوك والحياة الأخلاقية والروحية عن التصوف والصوفية، يلمس فيه الوفاء والثناء والتقدير لمشايخ الصوفية الأخيار أمثال: الجُنيْد، وسهل التستُّري، والفضيل بن عياض، وغيرهم!
يقول ابن تيمية عن هؤلاء: (ولا تجد إماماً في العلم والدِّين كمالك، والأوزاعي، والثوري، وأبي حنيفة، والشافعي، وأحمد بن حنبل، والفضيل بن عياض، ومعروف الكرخي، وأمثالهم، إلاَّ وهم مصرِّحون بأنَّ أفضل علمهم ما كانوا فيه مقتدين بعمل الصحابة)!
بلْ إنَّ ابن تيمية نفسه قد أفرد عدة رسائل وقواعد تناولت دراسة جوانب التصوف، فاعتمد في دراساته لهذه الجوانب على أقوال الصوفية الأوائل، مثل: (قاعدة المحبة، وقاعدة الاستقامة، وقواعد أخرى في الشكر والصبر والرضا).
ولابن تيمية ثمانية كتب في التصوف- ناقشتها في كتابي "ابن تيمية في الميزان"- تجعله على رأس مشايخ الصوفية الذين اهتدوا بنور القرآن الكريم والسنَّة النبوية الشريفة، وأقوال الصحابة، والتابعين، وأقوال مشايخ الصوفية، فقال عن الأحوال والمقامات: "كلمات مختصرة في أعمال القلوب، التي تسمَّى المقامات والأحوال، وهي من أصول الإيمان، وقواعد الدِّين، مثل: محبة الله ورسوله، والتوكل على الله، وإخلاص الدين والشكر له، والصبر على حكمه، والخوف منه، والرجاء له، وما يتبع ذلك".
ولعلَّ من أشهر كتبه في التصوف: (الاستقامة والتصوف) وفيه تحدث عن كثير من قضايا التصوف، وكتاب(الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان). و"رسالة في أمراض القلوب وشفائها". والتحفية العراقية في الأعمال القلبية" التي يدرس فيها المقامات والأحوال ويطريها، وكتابه في السلوك ضمن مجموعة فتاويه. كما أبدى في كتبه الأخرى مثل "درء تعارض العقل والنقل"، و"منهاج السُّنة النبوية" وغيرهما عناية كبيرة بإسهامات أكابر الصوفية، لترسيخ التوحيد ودعم أسس العقيدة، من أمثال: الفضيل بن عياض، ويوسف بن أسباط، وسهل التستُّري، وبِشر الحافي، والجيلاني، وعبد الله بن خفيف، وأبي نعيم الأصبهاني، ومعمر بن زياد الأصفهاني، وأحمد بن أبي الحواري، وعمرو بن عثمان المكي، والحارث المحاسبي، وعدَّهم من أئمة السلف.
لمْ يكتفِ (ابن تيمية) بالعكوف على التراث العلمي الصوفي الضخم يدرسه وينشره، بلْ إنه تذوق التجربة الصوفية التي يمر بها السالك نحو الله تعالى، فعرف أسرارها، فنراه يقول: "وهذه الأمور لها أسرار وحقائق، لا يشهدها إلاَّ أهل البصائر الإيمانية".
بلْ إنه يعترف بأنه كان يحضر مجالس الصوفية، وحلقات ذِكرهم، فيقول في كتابه (مجموع الفتاوى): "كنتُ في أول عمري أحضر مع جماعة من أهل الزهد والعبادة والإرادة، فكانوا من خيار هذه الطبقة". ويقول أيضاً عن اجتماعه بالصوفية: "بتنا في مكان، وأرادوا أن يقيموا سماعاً، وأنا أحضر معهم، فامتنعتُ من ذلك، فجعلوا لي مكاناً منفرداً، قعدتُ فيه".
وهذا يدلُّ بالقطع على أن (ابن تيمية) لا يمتنع عن حضور مجالس الصوفية، ولا المشاركة فيها، خِلافاً لِما أُشيع عنه زوراً وبهتاناً في هذا المجال!
هذا؛ وقد تحدث (ابن تيمية) في موضوع كرامات الأولياء، ففي كتابه (الرسائل والمسائل) يقرّ بأنَّ الكرامة يعطيها الله –سبحانه وتعالى- للذين اصطفاهم من الناس، فتجري على أيديهم خوارق للعادات، هذه الخوارق تكون للأنبياء وغيرهم. وقد قسَّم الخوارق إلى معجزات: وهي ما يكون على أيدي النبيِّين من آيات باهرة مقرونة بالتحدِّي، وهذه الخوارق لا تكون إلاَّ للخير ونفع الناس، لأنها لإثبات رسالة الرسول، وتكلُّمه عن الله تعالى.
وذكر من الخوارق ما يكون كشفاً، وهو من باب خوارق العلم، وذلك بأن يسمع العبد ما لا يسمعه غيره، وتارة يرى ما لا يراه غيره يقظةً ومناماً، وتارةً يعلم ما لا يعلم غيره وحياً وإلهاماً، أوْ إنزال علم ضروري، أو فراسة صادقة، ويسمَّى كشفاً ومشاهدات ومكاشفات ومخاطبات، فالسماع مخاطبات، والرؤية مشاهدات، والعلم مكاشفة، ويُسمّى ذلك كله كشفاً ومكاشفة، أيْ كُشِفَ له عنه.
* * *
من هنا نعلم؛ أنَّ (ابن تيمية) لمْ يهاجم التصوف، وإنما هاجم ما أُلصِقَ بالتصوف من انحرافات. وفي موقفه هذا؛ كان شبيهاً بموقف كبار الصوفية أنفسهم؛ الذين خطَّأوا الانحرافات التي دخلت فيه، كالإمام/ السرَّاج، والسلمي، والجنيد، وغيرهم.
فابن تيمية كان صوفياً حقيقياً، وقد دافع عن حقيقة التصوف ومعانيه الرفيعة، ومراميه البعيدة، أكثر ممن عرفوا بالتصوف، أوْ يحسبون أنهم صوفية!
ولِمَ لا؟ وقد نشأ –رحمه الله- نشأة المتصوف الزاهد في ملبسه ومأكله، وكان في شبابه الباكر يغشى مجالس الصوفية؛ كما أنه أثنى على كثير من مشايخهم ك(الواسطي) الذي قال عن ابن تيمية: إنه لمْ يرَ مثيلاً له، عِلماً وعملاً، حالاً وخُلُقاً، اتباعاً وكرماً وحلماً، وطلب من تلاميذه الصوفيين أن يلزموا دروس ابن تيمية، عسى الله أن يرزقهم قسطاً من نصيبه المحمدي معهم.
لقد عاب –رحمه الله- على بعض الصوفية أنهم انتسب لهم طوائف من الزنادقة والأدعياء. فاعتقد البعض أنه هاجم التصوف برمَّته، وهذا غير صحيح، فالتصوف قد حظي منه بالعديد من الدراسات، والرسائل، بلْ إنه أوصى بأنْ يُدفَنَ بمقابر الصوفية، وليس بمقابر السلفيين!
ويعرض (ابن تيمية) لكلمة (الصوفية) ويرجِّح أنَّ (الصوفي) منسوب إلى اللبسة؛ أيْ لبس الصوف، لأنها ظاهر حالهم، ويبين الخلاف في الحكم عليهم، فطائفة ذمَّتْ الصوفية والتصوف، وقالوا هم مبتدعون خارجون عن السنَّة، وطائفة غَلَتْ فجعلت طريقهم أفضل الطرق، والصواب أنهم يجتهدون في طاعة الله، فمنهم المذنب، ومنهم التقيّ.
ويقول(ابن تيمية) عن المقامات والأحوال: إنها إذا كانت في إطار الدين، دون تجاوز ولا مبالغة، فهي أعمال القلوب، ومن أصول الإيمان، ومثلها مثل محبة الله ورسوله، والتوكل على الله، والإخلاص والشكر له، ويُخطِّئ من يدّعي أنها احتكار للخاصة، ويقرر أنها فرض على الأعيان باتفاق أهل الإيمان. وينكر ما ينسبه الصوفية إلى الخضر، والقطب الغوث من أوصاف وأفعال خارقة. ويصف بالكفر ادعاءهم أن الغوث هو القطب الجامع في الوجود، بمعنى أنه مدد الخلائق في رزقهم ونصر لهم، ومدد الملائكة! وكذلك قول البعض: إن الأرزاق تنزل من السماء باسم غوث الوقت؛ الذي يُدعى الخضر! فهذا كله باطل، ولا أصل له في كتاب الله، ولا في سُنَّة رسول الله، ولا قاله أحد من السلف، ولا الأئمة، ولا مشايخ الصوفية المقتدَى بهم! ومن رأيْ ابن تيمية أنَّ الخضر قد مات، وليس للمسلمين من حاجة إليه، لأنهم أخذوا دينهم عن النبيّe، وأن عامة ما يُحكى عنه إمَّا كذِب أوْ مبنيّ على ظن! ويدمغ ابن تيمية بالكفر قول القائلين: عن علم القطب من علم الله تعالى، وأن قدرته من قدرته!
* * *
رضي الله عن (ابن تيمية) الذي نقد الصوفية نقداً علمياً موضوعياً، وأنصف التصوف أيما إنصاف، وألَّفَ فيه روائع الكتب التي تتقاصر دونها العزائم! بلْ إنَّ هذه الكتب؛ كفيلة بأنْ تجعله من أقطاب التصوف! وتؤهِّله لأنْ يكون نقيباً للصوفية! ولوْ أنَّ القوم أنصفوه كما أنصفهم؛ لاتخذوه إماماً لهم، وشيخاً لطريقتهم، ومحجَّة لسلوكهم ... ولكن أكثرهم لا يعلمون!