الشيخ محمود عمر المشوّح "أبو طريف"
في الذكرى الرابعة لوفاة العالم الخطيب المفكر الشيخ محمود مشوّح رحمه الله تعالى رحمة واسعة، نقدّم ما وصل إلينا عن هذا العالم الجليل الذي ظُلم حيّاً، وظُلم ميتاً".
بقلوب يملؤها الحزن والأسى، ونفوس راضية بقضاء الله تعالى وقدره، نعى المسلمون في سورية، والجاليات السورية في الأقطار العربية الأخرى فضيلة الشيخ الجليل مفتي منطقة "الميادين" في سورية محمود عمر المشوح، الذي توفاه الله تعالى في مدينة الميادين شرق سورية مساء يوم السبت 23 من شوال 1420هـ الموافق 29 كانون الثاني 2000م عن عمر يناهز السبعين عاماً..
رحم الله الفقيد، وأجزل له المثوبة والرضوان، وللمسلمين وإخوانه وعشيرته وآل بيته وجميع محبيه العزاء والصبر الجميل، وإنا لله وإنا إليه راجعون.
وُلد الفقيد الشيخ محمود عمر المشوّح في مدينة الميادين شرق سورية عام 1929، وتلقى علومه الابتدائية في مدارسها، ثم أخذ طرفاً من العلوم الشرعية على يد والده، الشيخ عمر المشوح الذي كان مفتياً للمنطقة قبله وعالماً من علمائها، حيث انتقل الشيخ محمود بعدها إلى دمشق عاصمة سورية لدراسة العلوم الشرعية في مدارسها المختصة، وقبل إكمال دراسته المتوسطة توفي والده الشيخ عمر رحمه الله عام 1945، فاضطر إلى ترك الدراسة النظامية، وقفل راجعاً إلى بلده حيث استلم منصب الإفتاء في المنطقة، ولما يبلغ السن الرسمي للوظيفة، فأصبح مفتي المنطقة وعالمها الأول بعد أن انكبّ على تحصيل العلم بجهده الشخصي، ومتابعته الخاصة، ومثابرته المستمرة الدؤوب، وكان له من ذكائه المشهور، وحبه للعلم، ونهمه للمطالعة، ما أعانه على تحصيل ما فاته من علم المعاهد والجامعات، حيث تبحر في كثير من مجالاته الشرعية، واللغوية، والفكرية المختلفة، وظهر ذلك جلياً في خطبه العامة والخاصة، حيث كان من ألمع الخطباء ليس في منطقته فحسب بل في سورية كلها، وما سمع به أحد ممن يهتمون بالعلم وأهله، والبلاغة وأساليبها، والحديث وبيانه وطلاوته، إلا قصده وأحب سماع تلك الخطب والأحاديث، التي ترك منها تراثاً طيباً من الأشرطة المسجلة يشرح بها أفكاره وآراءه في مناحي الإسلام المختلفة، وشعاب الفكر المتعددة.
كما كان رحمه الله مرجع الفتيا في المنطقة بشكل عام وبلده بشكل خاص، وكثير من الناس لا يطمئن في هذا الأمر إلا إلى فتواه، حيث العلم الواسع، والرأس القاطع، والحجة الناهضة، وقلما تدخل إلى بيته إلا وتجد مجموعة من الناس تسأل عن شأن من شؤون دينها، أو تحتكم إليه في أمر شجر بين أفرادها، أو تطلب منه رأياً في قضية من قضاياها.
كان بيته –رحمه الله تعالى- مقصد الشباب، على الخصوص من جميع الأنحاء في المنطقة وغيرها من المحافظات السورية لحضور خطبه، وسماع آرائه، والاستزادة من علمه، ولقد شغله همُّ المسلمين وواقعهم المؤلم عن الجلوس للكتابة، وتأليف الأسفار والكتب، فكان دائم الحديث في هذا الهمّ، ومن الحق أن نقول: إن هذا الأمر وما يتطلبه من كلام وتحليل وتفكير مستمر طغى على ملكة الكتابة عنده حتى بدا وكأنه يجد صعوبة في التأليف والتصنيف، كان يلاحق الأخبار والأنباء التي تتحدث عن مستقبل الأمة ونهضتها، وعن واقعها وتطلعاتها، ويجري في ذلك التحليلات المسهبة، ويعطي الآراء الناضجة لفحوى هذه الأخبار، ودلالات أحداثها من أجل الخروج من هذه الحالة البائسة التي وقعت فيها الأمة، وشقيت بها شعوبها، حيث كانت تأخذ منه الكثير من وقته وجسمه وجهده فلا عجب أن تراه مريض الجسم، منهك القوى، وقد لحقت به أشد الأدواء والآلام.
اهتم الفقيد بتاريخ الأمة الإسلامية، وتراثها الباذخ، وحضارتها الزاخرة، كما شغف بلغتها العربية الشريفة، فحفظ كثيراً من دواوين الشعر العربي كما استظهر الكثير من النثر البليغ لعلماء العربية وخطبائها وبلغائها، هذا علاوة على تمكنه من قضايا الفقه والأصول وعلوم الدين، حيث كان يراجع هذه المدونات الطويلة والأسفار الكبيرة في كل سنة من سني عمره قبل أن يقعده المرض عن ذلك وكان يتحدث في مسائل التراث هذه على اختلاف علومها، وضروب مواضيعها كأحسن المختصين فيها، أو المهتمين في واحدة من علومها، كما درس الفكر الغربي ومدارسه المختلفة دراسة واسعة وعميقة، حيث كان يشرح مسائلها، ويفصل في قضاياها وكأنه واحد من أصحاب تلك المدارس أو منظر من منظريها، ولذا تراه لا يطرح مسألة إلا ويضع لها كل الأسس التي انطلقت منها، والقواعد التي قامت عليها، بحيث لا تجد في بحثه في تلك الأمور أي ثغرة أو استدراك، وتصور معي كيف ترى لوامع الفكر مع جوامع الكلم، وبلاغة الحديث في طلاوة وبيان..
لقد اهتم شيخنا رحمه الله كثيراً في شرح القرآن الكريم، وفصَّل في مقاصده وأسهب في تفسيره وكشف عن كثير من لطائفه بخطب طوال قضى بها ردحاً كبيراً من أيام حياته، وله سلسلة من الخطب في موضوع القرآن الكريم على حسب ترتيب السور في المصحف ثم أتبعها بسلسلة ثانية في التفسير بحسب نزول الآي الكريم، لكن ليس له من المطبوعات سوى تعليقات قليلة على هامش القرآن الكريم وهو مطبوع ومعروض في الأسواق.
كان رحمه الله تعالى أبيّ النفس، عالي الهمة، شديد الاعتزاز بالكرامة، مهيب الشخصية، سريع البديهة، واسع الثقافة، كثير المطالعة، حاد الذكاء، حاولت السلطة استمالته كثيراً لكنه أبى عليها وقضى الفترة الأخيرة حبيس بيته، ورهين منزله، لا يقابل إلا من جاء قاصداً متعمداً بحاجة، أو سؤال شرعي، هذا بالإضافة إلى زوّاره من الشباب الظامئ للمعرفة والعلم، حيث تكون لقاءاتهم به على شكل ندوات يديرها بنفسه وليس لهم فيها إلا السؤال والاستفسار وهو يتحدث في الشؤون العامة وما يهم المسلمين من أمر دينهم ودنياهم.
كان تطلعه إلى المستقبل دائماً، ونظرته إلى الغد المرتقب يملؤها الأمل، ويرى أن مستقبل البشرية في هذا الدين، وليس لها من طريق إلا ما تركه محمد وأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، ويحمل مسؤولية هذا المستقبل على المسلمين من أجل فهمه وتبليغه للناس بالوسيلة التي تلائم العصر، وتحقق الغاية، وله من الجرأة في أفكاره، والإحاطة في معارفه، والعمق في تفكيره، ما يعينه على تحديد الهدف بشكل واضح وقاطع ومحدد حتى أصبح بيته في الآونة الأخيرة محجة لأولئك الشباب يوجههم إلى أساليب الدعوة الناجعة، ووسائلها الناجحة، وطرائقها المناسبة في العمل الإسلامي.. وفي هذا المجال لا بد لنا أن نذكر بأن الشيخ الجليل رحمه الله قدم للحركة الإسلامية أكثر من دراسة ومشروع للعمل الإسلامي يعرفها إخوانه القريبون منه، والمتصلون به وكثير من قادة الحركة الإسلامية، ولا ينسى هؤلاء وأولئك مسودة المشروع المعروف "منهاج الثورة الإسلامية في سورية" الذي أرسله في بداية الثمانينيات ومع بوادر الحركة ونشاطاتها في تلك المرحلة، حيث ظهرت نسخة المنهاج بطبعته المعروفة والمعروضة لدى الإخوان.
قضى الشيخ الجليل السنوات الأخيرة لا يخرج من بيته، وقد جثم المرض على صدره في السنتين الأخيرتين شديد الوطأة ثقيل الألم.
وفي يوم وفاته –رحمه الله رحمة واسعة وجعل مأواه الجنة- كان هادئ البال، رضي النفس طلق الوجه قد اختفت كثير من ظواهر الألم والأوجاع عن محياه فأخبر أولاده وهو يودعهم أن الأمر قد انتهى وأنه يسلم روحه لله تعالى راضياً مرضياً، فقال أحدهم:
- توكل بالله.
قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله.
ثم اضطجع ضجعة النائم وخرجت روحه إلى بارئها راضية مرضية – عليه من الله الرحمة والرضوان – وذكر مشاهدو حالته هذه أنهم رأوا وجهاً مطمئناً وبسمة راضية لم يروها على وجهه في سنوات المرض الأخير. (سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار).
دفن الشيخ الجليل في بلده وقد ذكر الحاضرون لموكب جنازته أن المنطقة لم تشهد مثل هذه الجنازة في تاريخها كله فلقد بكاه بألم وحسرة كل من عرفه أو سمع به، أو سمع له جزاه الله خيراً وعوض المسلمين عنه خير العوض وإنا لله وإنا إليه راجعون ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
وسوم: العدد 848