ذكرياتي مع الرجل الذي عرفته من خلال، دعوة الإخوان المسلمين في سورية
هل الأخ أبو عامر – عدنان سعد الدين – هو الوحيد الذي عرفته من خلال هذه الجماعة، أم أن لهذه المعرفة لوناً خاصاً، وطعماً متميزاً، ونكهة مختلفة.. هي حالة تحدث، لكنها ليست على سعة وشمول، وهي تمرُّ في حياة الناس قليلاً أو كثيراً... لكنها لا تبقى مسجلة نابضة بالحياة كما يمكن أن يعيشها صاحبها بمشاعر خاصة، سداها ولحمتها، شوق إيمان، وتطلعُ آمال، ورؤى مستقبل معشوشب بالمنى، باسم بالوعود، مشدودٍ بعرىً تتجاوز الفانية إلى ما بعدها.. لم أكن في تلك الحالة الطرف الوحيد، وما كانت هذه المعرفة لتكون بهذا المعنى لو كانت من طرف واحد، ولا هي معلقة في الفراغ، ولا هي سائبة من غير مقابل يُتم الصورة على الوجه الأكمل، بل كان للأخ الكريم - أبي عامر - فيها النصيب الأوفى من الذكريات، والحظ الأوفر من التذكير والاستعادة.. فلطالما - وهو صاحب الذاكرة الحادة والحافظة الواعية - يردد من خلال المناسبة وفي ثنايا الأحاديث وعلى حواشي اللقاءات عن جلسة كذا التي حصلت في وقت كذا، ومقابلة فلان الذي مرَّ ذكره مع فلان الآخر، وهذا الشأن من الحديث الذي جرى وقيل فيه ما قيل وتلك الواقعة من الموضوع، وكانت حقيقتها على هذا النحو أو ذاك..
هذه ذكريات تستحق التسجيل، وقد جاء وقتها بقدر محكم، لم أقدر فيه نية ولا تدبيراً، فقد فاجأني الأخ – أبو حسان شاهين – حين زفَّ إلي خبر عزمه على وضع كتاب في الأخ الكريم أبي عامر – عدنان سعد الدين - والأخ أبو حسان من أولي العزم في هذا الميدان، وأشهد له بعلو الهمة، وحسن المثابرة، وجميل الصبر على الكتابة والجمع والتأليف، وباستعمال الوسائل الحديثة ببراعة متميزة، وجمع المعلومات من مظانها حتى تبلغ مراجع جامعة، وأسفار واسعة بل معاجم مستوعبة لكل دقيق وجليل...
وما هي إلا فترة من الزمن عابرة، وأيام ذوات عدد.. حتى وضع بين يدي مسودة ذلك الكتاب الموعود، وصفحاته – التي بتُّ أقلبها – أغنت عن الشهود .. وقد حوت معلومات جمة، وأفكاراً بديعة، ونمطاً من التأليف يدل على اطلاع المؤلف، وجمال تنسيقه وبراعة تدبيره، حيث قدم المترجم عنه بشخصيته الواضحة، وفكره الصريح وآرائه المفصلة، من خلال مؤلفاته المنشورة، وأعماله المطبوعة.. إلى جانب أحاديثه الواسعة، ومقولاته التي يرددها في المناسبات العابرة، والمعروفة عنه في مجالات شتى.. ولا يترجم عن المرء شيء أبلغ من أسلوبه الذي هو قطعة منه أو هو نفسه، ولا عن فكره الذي يقدم شخصيته، أصدق من قلمه الذي يفصح عن مكنونه.. ومن هنا كان أنصف النقد وأوفاه، ذلك الذي تناول أعمال الكاتب، ويحاور افكاره التي خطها بيده وصدر عنها من ذاته، تعبيراً عما يدور بخلده وإعراباً عن معتقداته وما يلتزم به.. ولعل مثل هذه الذكريات التي أسطرها بطلب من الأخ أبي حسان، وبرغبة طارئة من نفسي، واستجابة منقادة لواجبي، تساهم في إضافة نافعة، وإضاءة مفيدة، لما نقدمه من رأي في هذا الكتاب...
أما الأخ الكريم أبو عامر، فله رأيٌ مختلف في الكتاب الذي يتحدث عنه، ويترجم عن شخصه، ويعرض لفكره وقلمه.. فأقلّ ما نقول فيه إنه الزهد في مثل هذا العمل، وقد صرح بذلك في مجلس مشهود، أنه لا يرغب بذلك في حياته - مدَّ الله في عمره وباركه – وأنه يضيق بمثل هذه الأعمال التي غالباً ما تحمل المدح والثناء، مما يجرح حساسية المسلم، وبخاصة أن الكاتب مهماً بالغ في الحياد، وطلب الحقيقة عارية، فلا بد له من خيال يقدم جمال الصورة، وبلاغة العبارة وحسن الأحدوثة.. وقد يعني هذا قدراً من المدح يسمعه الممدوح ويراه، وهو مالا يرتاح له مؤمن ولا يطمئن له تقي، ونحسب الأخ أبا عامر كذلك، ولا نزكي على الله أحداً لذلك اعترض - حفظه الله - بشدة وحزم، على مسودة الكتاب الأولى وعمل على تصحيح بعض المبالغات التي وردت في مخطوطة الأخ أبي حسان والتي لم تستند الى وقائع قائمة أو روايات صحيحة أو حقائق موثقة.. بل رأى أن الكتاب تجاوز بعض الأحداث المهمة التي غابت عن الأخ أبي حسان، وكان ذلك في جلسات ولقاءات استدرك بها أبو عامر على الأخ ما وقع منه من زلل وما أصابه من أخطاء فكان للأخ أبي عامر ما أراد من إعادة الحق إلى نصابه، والسيف الى قرابه، كما كان للأخ أبي حسان من سعة الصدر، وقبول النصح، وتقويم الاعوجاج، ما جعله لا يقف عند هذا الحد من تحري الحقيقة، وإغناء الكتاب بالمعلومات الوثيقة و إثرائه بالمعارف والأحداث التي لا يعرفها إلا من شهدها، أو تعامل معها، فاقترح أن يستكتب من الإخوان من له معرفة بالأخ أبي عامر ممن شاركه مسيرة العمل، أو في جزء منها، أو التقى به ضمن هذا المضمار في وقت مبكر، أو كان له من اللقاءات والاتصالات ما يضيء جوانب لم يعرفها الآخرون وغابت عن الشهود، فوقع اختياره على كاتب هذه السطور...
وأعترف؛ بأنني لم أكن أتوقع من الأخ الكريم - الذي أحسن بي الظن - ذلك رغم معرفته بأنني أعيش حالة من جفاف المداد، ونضوب القريحة، وانكفاء الأفكار، وانحسار النشاط في هذا المجال، مرَّ عليها سنوات بعد حراك مشهود سجلت فيه مجموعة من المقالات نشرت على موقع قريب من أفكارنا التي نحملها وندعو إليها، وكنا نتمنى لو شاركنا الإخوان فيها حواراً وفهماً ومعالجة، من أجل غد أفضل جماعتنا، ونجاح أكمل لمسيرتنا، ويمن وبركة في دعوتنا.. يومها كان الحماس يشتعل على تلك الصفحات، طرحاً للمشاكل، وتشخيصاً للعلل، وطباً للأدواء، وسلامة للهدف والوسيلة والمصير.. لكن فريقاً من قومنا واجهنا بالصدود والاستنكار وصل إلى حد خطير.. كان لطف الله تعالى حائلاً دون حدوثه، وبقدر ما كان ذلك مؤلماً إلى حد البكاء، جارحاً إلى حد الأسف والحسرة والرثاء، كان اهمال الفريق الأقرب، رغم الإعجاب والتظاهر بالتشجيع، بلا مشاركة فاعلة، أو استفادة إيجابية.. محبطاً ومفجعاً.. المواجهة الشرسة من الفريق الأول، والإهمال والعجز من الفريق الثاني، تلاقيا على أمر واحد من الإحباط والألم والانكفاء، لم يكن بوسعي احتماله، أو التغاضي عن حدوثه، أو تجاوز تأثيراته، إذا كان قاسياً من غير رحمة، شديداً بكل معنى من المعاني، فقررت من ذلك اليوم أن أهجر القلم، وأمزق الطرس، وأسفح بعيداً عني المداد، وأردد مع الشاعر:
شيعت أحلامي بقلب باكي... ولن أكمل البيت... لأنني مزقت الشباك منذ زمن... وطريق الملاح غير طريقي ...
لقد ترددت طويلاً في الكتابة، بسبب من ذلك الذي ذكرت، رغم رغبة الأخ أبي حسان وطلبه الملح.. لكني راجعت نفسي بعد ذلك، ووقفت متأملاً لماذا لا أعود إلى كتابة شيء من هذا اللون من الأدب الذي يحمل عطر الذكريات، وأريج الأماني الواعدات، وعبق الماضي الجميل الذي تقضى على مُنىً عذاب، وأحلام ورغاب، وأهدافٍ ترتفع عن هذا الواقع المؤلم إلى آفاق رحاب...
منى إن تكن حقاً تكن أصدق المنى وإلا فقد عشنا بها زمناً رغداً
وهي في هذا الاتجاه تخرجني من إحباط مقعد، ولا تحرجني في أمور تثير المشكلات وتعكر صفو العلاقات، وليس ورائها من طائل يستحق العناء، وقد عفت عليها الأيام وتجاوزها الزمن بما أحدث، وبما هو منتظر من حادثات... ثم إن الأخ أبا عامر له في عنق عارفيه وصدور محبيه، ممن عمل معه في مجالات واسعة، ومناشط جمة، أيادٍ لا تنكر وحسناتٌ لا تجحد، وأفضال ماثلة في جلسات لا يزال صداها يوقظ في النفس عزمات، وفي المشاعر تطلعات، وفي لقاءات ما فتئت مستمرة تجدد الرجاء، وتحمل الأمل، وتبعث على الثقة والاطمئنان..
ففي يوم صيفي لاهب، قدم علينا الأخ أبو عامر بزيارة مفاجئة الى الميادين – بلدنا الذي يستلقي في حضن الفرات، يتكأ على كتف بادية الشام جنوباً، ويغسل قدميه في النهر شمالاً، في سكون يخفي تحته حركة نشاطنا الدائبة تستقبل القادمين يحملون بشائر الأمل، من أخبار هذه الأمة، وآمالها وأنباء الدعوة وخططها، ويأخذون عنا إنجازات تضطرم داخل تلك المنطقة المترامية الأطراف وفي آفاقها الرحيبة الواسعة - يومها أقبل علينا الأخ الكريم بتلك الزيارة المباركة التي أصبحت يتيمة بحكم ما تلاها من ظروف وأحداث.. كنت آنذاك في صيدليتي المعروفة باسمي الصريح في الشارع العام من البلد.. وبحرارته المعهودة، وعزيمته الناهضة، وحسمه الجاد المثابر، طلب لقاء الأخوة وكنت في - موضع المسؤولية - حيث استجبت للطلب بسرعة وحماس، فجمعت نفراً طيباً من أولئك الصحب ممن عرفت فيهم الصدق والجد والالتزام..
وكان منظراً لا ينسى، كلهم يلبس - في يوم قائظ شديد الحرارة - تلك الدشاديش البيضاء، وعليه من الوقار سمت لا يغيب، ومن الجد صرامة لا تخطئها العين، ومن الانتظار تلهف يكاد ينفك من الوجوه.. ليقع بين يدي الزائر الكريم..
كان ذلك في الثلث الأخير من عقد السبعينيات من القرن الميلادي المنصرم كنا في تلك الفترة، المضطرمة بالنشاط كالمرجل المتقد حرارة، الثائرة بالأحداث كصدر المشوق.. حركته الذكرى.. نعيش مع الإخوان جميع أحلامنا بلا حدود، وآمالنا المتحركة بلا يأس أو قنوط.. والواعدات من الأماني ترسم لنا لوحة الغد المشرق على الأفق البعيد..
كانت جلسة الأخ الكريم وقوداً أجج جمر الأماني، وأرياحاً ألهبت مُنى التوثبات، وفيوضات أفعمت النفوس بجميل الأحلام العذاب، تلك الجلسة هي الأولى لنا مع أبي عامر التي عرفنا فيها الأخ الكريم بمسؤولياته الجديدة وأعبائه الجسيمة، ونشاطاته التي شهدناها فيما بعد.
حيث انطلقت تلك المعرفة بنا إلى آفاقها الرحيبة التي ما تزال حتى كتابة هذه الكلمات وتدوين تلك الذكريات ونسأل الله القدير أن يديمها أخوة صادقة ننعم بها في ظلال الرحمن مع المصطفين الأخيار والصالحين الأبرار...
لقد كان لكلمات الأخ الكريم أبي عامر، على نفوس الأخوة تأثيرٌ واضحٌ بدا على الوجوه، وترقرقت منه في العيون الدموع، وظهرت المشاعر تكاد تنفلت من الألسنة، وتتحرك الأبدان لوقعها حمية ورجاء وشوقاً.. وكان من تعليقه - حفظه الله - من أين لكم هذه العواطف الجياشة، ومن أين جئتم بهذه المشاعر الرقيقة، وأنتم أبناء صحراء جافية - كما كان يظن - وتربية منطقة شديدة قاسية تجافي مثل هذه الأحاسيس.. وكان يقول هذا مازحاً ومداعباً - فيما كنا نحسب - ونحن نجيبه مازحين هازلين، أننا في الميادين لسنا كأهل دير الزور.. فأولئك هم أصحاب تلك الصفات التي ظننتها بنا...
لقد كان ذلك اللقاء الأول - مع الأخ الكريم - معلماً من معالم ذكرياتنا التي يثيرها الحديث عن رجل تسلم قيادة الجماعة في تلك الفترة الحرجة، ونهض بالعبء، في مرحلة شاقة، تكتنفها الصعوبات من كل جانب، فإذا كان الخطر المسيطر على البلاد يشكل المواجهة الأعنف والجهاد الأوضح، فإن الانقسام الداخلي، والتمزق الذاتي الذي كانت تعانيه جماعتنا، كان هو الخطر الأدهى والمهمة الأشق.. فكيف يسير المسؤول آنذاك في طريقه إلى النجاح ويبشر إخوانه بالمستقبل، وهو ينهض من خلال أخلاط من الأمراض المزمنة المستعصية، والأهواء المشرئبة المتغلغلة والحساسيات القاتلة الفاتكة! لكن الأخ أبا عامر خلف كل تلك الركام وراءه، فأقدم في جولاته على إخوانه الذين التفوا حوله بنفس مستبشرة، وقلب مفتوح، وأمل واعد، وتحدث عن خطط واتصالات ومناهج ومقررات وبرامج واضحة تحيي في نفوس الإخوان رجاء، وتبعث في القلوب حياة، وتشق لهذه الجماعة طريقاً قويماً.. ومن هذه الأحاديث وما تلاها من عمل دائب ومنهج مدروس وخطط مرحلية، ولقاءات شدت العزائم، وحفرت الهمم، وتجاوزت نُعرات الماضي، وأخطاء القيادات وعثرات الطريق.. فكان لزاماً على من يؤرخ لتلك الفترة، ويسجل أحداثها ممن شارك فيها، أو سمع بها، أو درس عنها أن يعتبرها المرحلة الذهبية في حياة الجماعة، والحلقة الأنصع في تاريخها.. في ذلك اليوم المثير، وبعد تلك الجلسة المفيدة، التي كانت بداية مهمة، واستئنافاً جاداً لعمل جماعتنا في المنطقة.. كان برنامج الأخ أبي عامر مزدحماً، ولا بد من متابعته رغم ضيق الظروف، وانشغال الأوقات، وإلحاح اللقاءات وضرورتها، ويأتي على رأسها مقابلة الشيخ الجليل، والعالم الموسوعي، ومفتي المنطقة، وخطيبها المصقع غير مُدافع.. أبو طريف محمود مشرح عليه من الله الرحمة والرضوان، وقد كان لقاء ماتعاً، جرت فيه أحاديث، وأثيرت فيه قضايا، وكان بمجمله بداية لمعرفة أوسع، ولقاءات أشمل وأنفع وأنا إذ أسجل هذه الذكريات، وأمرُّ على هاتيك الأحداث - ويرد فيها ذكر العم الجليل والشخصية الفذة أبي طريف، يصعب عليَّ أن لا أقف عند ذكرياتي مع ذلك الرجل البارز، والذي كان بحق معلماً من معالم المنطقة الشرقية في سورية، بعلمه الراسخ وعقله الراجح وذكائه النادر وفصاحته اللافتة، فهو الخطيب والعالم والداعية ورجل المواقف.. ولقد وقف الأخ الكريم أبو عامر على كثير من تلك الصفات وشهد بنفسه كما سمع من غيره عن مناقب رائعة، وخلال متميزة في الرجل، يستعيد بعضاً منها في المناسبات المختلفة، ويردد عبارات من بعض أحداثها فيما يعرض من حديث، أو يتفق له من استذكار.. والحق أن أبا طريف رحمه الله لم يُعرف كما ينبغي أن يعرف رجل مثله، ولم يأخذ حقه من المكانة والانتشار كما شاع ذكر من هو أقل منه بكثير ولأسباب ليس هنا مجال ذكرها ولعل الشاعر عناه عندما قال:
ولقد عرفت وما عُرفت حقيقة ولقد جُهلت وما جُهلت خمولا
والحديث عنه يطول يحتاج إلى صفحات وصفحات، ومداد بلا نفاد، لكني هنا أذكر له واحدة من مآثره، تتصل بعمل الجماعة وأدبياتها.. حيث كلفه الإخوان بكتابة مسودة (ميثاق الثورة الإسلامية في سوريا) التي كانت وقت ذاك في بواكير انطلاقتها، وغرة بروزها على الساحة العامة، فقام رحمه الله بذلك الجهد المتميز بهمة ونشاط وأرسله سريعاً للإخوان إلى مهاجرهم، وقد ذكر الأخ الكريم أبو عامر أنه بعد أن اطلع عليه عرضه على الأخ الأديب الأريب عبد الله الطنطاوي وسأله مستفهماً: كتابة من هذا المخطوط؟ فأجابه على الفور هذا خط الشيخ أبي طريف ولا يمكن أن تخطئه العين، كما أنه لا يلتبس على من رآه سابقاً، فقد كان رحمه الله ينقش كتابته بحروف دقيقة كأنها منمنمات نضيدة، ومطرزات خرجت من أيدٍ بارعة صناع، لا ينبو فيها حرف عن سطره ولا نقطة عن موضعها..
ثم كان عمل الأخ أبي عامر في هذه (المسودة) ما أخرجها بصورتها النهائية، التي كانت عليها بعد النشر والتوزيع.. ولقد أوردت هذه الحادثة لأشير إلى أمر عرض عندما قرأت مسودة الميثاق التي حررها الشيخ رحمه الله على بعض الإخوان، إذ مروا على عبارة بليغة، جاءت في معرض الدعوة التي يحملها الإخوان ويدعون إليها الناس، وأنها تستهدف القلوب لكسبها، لا دماء الخلق وهدرها، فقال رحمه الله في هذا المجال (عندئذٍ نكسر السيوف على الركب) لكن الأخ الجليل المرحوم الشيخ سعيد حوى اعترض بأن ذلك قد يعني إلغاء الجهاد في سبيل الله - فرد عليه الأخ أبو عامر شارحاً له جمال الصورة وبلاغة العبارة.. وهي لا تعني بحال من الأحوال ما وقع في خلد الشيخ من معنى بعيد عن إيحاء العبارة.. لكن الشيخ سعيد رحمه الله لم يقتنع بذلك، وأصرَّ على حذفها وإزالتها من الميثاق، فكان الأخ أبو عامر يردد هذه الواقعة ويأسف على حذف تلك العبارة، ويكرر أسفه كلما ذكرت، مشيداً ببلاغة الشيخ أبي طريف وأسلوبه المتميز... وهذا لا يغض من قدر الشيخ سعيد رحمه الله وعفا عنه فالشيخ كما هو معروف بين الناس رجل فكر، وعلم بارز من أعلام الدعوة ليس على مستوى القطر السوري، وإنما على مستوى العالم الإسلامي بأسره حتى إن كتبه وأعماله المنشورة أصبحت مناهج تدرس في مجامع فكرية وحلقات علمية مشهودة واعتمدها الإخوان في مناهجهم..
وللشيخ سعيد مع أبي طريف - رحمهما الله تعالى - واقعة أخرى جديرة بالتسجيل، فقد كان الشيخ أبو طريف في زيارة عمان في أوائل الثمانينات من القرن الماضي فزاره الشيخ سعيد في منزلي والتقيا عدد من اللقاءات، تبادلا الأحاديث فيها حول العمل الإسلامي، ومشكلاته الراهنة، وقضايا الفكر والدعوة، وما يكتنفهما من حاجات وضرورات لا بد من حلها، والعمل على توضيحها، وإشاعة الرأي الأقرب الى الواقع من البقاء بعيداً عن حاجات الناس ومشكلاتهم، ولا عجب في ذلك، فالشيخ سعيد يكتب لكسب القلوب والعقول بالأفكار السهلة والأساليب الميسرة وذلك من أجل أن يقدم أكبر جرعة ممكنة من الفكر الذي يخشى عليه من الضياع وحرصه على أجيال الأمة من أن يفوتها ما يتمنى لها الشيخ من خير زاد وأيسر متاع، وبذلك قدم في حياته القصيرة – رحمه الله -، من الإنتاج الفكري والمعرفي ما يعجز عنه جمعٌ من المؤلفين، وكان مما أثاره الشيخ بعد أن رأى سعة علم الشيخ وتبحر اطلاعه، ورصانة رأيه في الفكر والدعوة والعمل العام، سأله: هل قرأ كتبه أو اطلع عليها فأجاب أبو طريف رحمه الله لا.. لم أطلع عليها كما ينبغي قال له سوف آتيك غداً بمعظمها وأرى رأيك فيها.. وفي الغد وصل الشيخ سعيد رحمه الله ومعه ولده البكر حفظه الله تعالى، وكان يحمل صندوقاً من الكتب لعلها كانت معظم أعماله وما نشره من مؤلفات معروفة في الساحة الفكرية العامة والإسلامية وعلى نطاق واسع، فعكف عليها الشيخ أبو طريف رحمه الله وكان معروفاً عنه نهمه للقراءة والإدمان عليها حتى لا يُرى إلا عاكفاً على كتاب، أو متأبطاً له أو مراجعاً فيه ما فاته منه، وبعد أسبوع زاره الشيخ وكان قد اطلع على كتبه جميعاً، فأجابه عندما سأله عن رأيه في مؤلفاته وكتبه المنشورة: أن الملاحظة الأولى في أسلوبك يا شيخ سعيد هو التكرار، واعادة الفكرة أكثر من مرة، وكأنك لا تثق بأن القارئ قد فهم عنك فكرتك، ثم إهمالك للجزل من العبارة والبليغ من الأسلوب العربي الذي يمتاز به الكتاب الإسلاميون بين كتاب العربية بشكل عام، إلى جانب ملاحظات أخرى قبلها الشيخ سعيد رحمه الله بصدر واسع، وقلب كبير، ونفس راضية، وقال له مادحاً لقد أصبت وسمعت مثلها من غيرك، ولكني كنت أحرص في كل هذه المؤلفات أن أصل إلى عقول أجيال المسلمين بالفكر الذي أعتنقه، وبأي شكل من الأشكال.. والشيخ سعيد يحب التواصل مع أهل العلم وأصحاب الفضل ونوابغ الفكر، فكانت زيارته لأبي طريف رحمه الله في هذا الباب، بينما تخلف الكثيرون عن مثل هذه التواصلات الكريمة ذات الغاية النبيلة، وزيارات الشيخ أبي طريف نادرة - بطبيعة الحال - في حياته حيث حدثت مواصلة الشيخ أبي سعيد في زيارة الشيخ مرة ثانية عندما كان موجوداً معنا في مكة المكرمة رحمهما الله وأعلى مقامهما في الجنة.. ومن إعجابه بالشيخ أبي طريف أنه كان يتمنى لو تلتقي به نخب من الإخوان وتستفيد من علمه وتجربته.. والذي جعلني أسوق هذه الحادثة في ذكرياتي عن الأخ أبي عامر هو مشاركته للشيخ أبي طريف بحبه للأسلوب العربي الجزل المتين، وتفصيل الكلام على قدر المعنى، وإسقاط العبارة على الواقع بحيث تكشف عن حدوده وحجمه...
وفي هذا السياق يذكر الأخ أبو عامر، أن في أول لقاء مع المرحوم أبي طريف، بعد أن شرح له نهجه في تأليف القلوب، وجمع الصف، وتوحيد الكلمة، أجابه الشيخ رحمه الله: لا بأس بسياسة المحاسنة هذه، ويدكر الأخ أبو عامر أنني أول مرة في حياتي أسمع لفظة المحاسنة، هذه اللفظة اللطيفة المعبرة..
فإن دلّ هذا على شيء، فهو يدل على ذائقة الأح أبي عامر الأدبية، وميله إلى أساليب البيان الراقية، وطربه لبلاغة القول وجمال الحديث، ولا عجب فالرجل يحمل الشهادة الجامعية في الآداب من جامعة القاهرة، كما يحمل معها شهادة الحقوق وقد عاش حياته الفكرية والدعوية والعملية، مع ذلك الجيل الذي شغف بالعربية إلى حد الهيام، وجرى البيان على لسانه سلسالاً عذباً كأجمل ما يكون - وكانت البلاغة في أسلوب كتاباته ورسائله، عنواناً مميزاً لذلك الفكر المنير- ذلك الجيل الذي قلما يجود الزمان بمثله من أمثال الشيخ العارف العامل محمد الحامد والداعية الشيخ أبي حسان مصطفى السباعي، والأديب السياسي محمد المبارك رحمهم الله رحمة واسعة، مع ذلك النفر الطيب من أهل الدعوة والعلم والبيان الساحر.. وأذكر للأخ أبي عامر بعض تلك العبارات البليغة شعراً أو نثرا يرددها من غير ملل، حتى إنك تشعر أنه يسوق الحادثة ليقول ذلك البيت من الشعر، أو تلك العبارة البليغة من النثر، ترنماً بها وطلباً لبلاغتها.. ولعلي أسوق في هذا المجال مثالاً أكتفي به حتى لا يطول بنا الكلام؛ فقد شعر الأخ الكريم في فترة من فترات العمل، وفي مرحلة بائسة من مراحله أن الذين استلموا زمام الأمور في جماعتنا، وأحكموا قبضتهم عليها - في غفلة من أهل السابقة - حيث ابتعد عنهم أولئك الصحب من الغيارى، وجلسوا في بيوتهم، وهم أهل حق مضيع، طالما نائوا عنه، وأصحاب قضية منهوبة طالما بذلوا في سبيلها وقتهم وجهدهم وأفضل ما يملكون.. لكن ظروفاً قاهرة، ونفوساً شامسة، وآراء شاردة، وأهواء متطلعة، أقصت أهل الحق عن حقهم، وأزاحت أصحاب القضية عن قضيتهم.. وتلك عثرة من العثرات اعترضت الطريق، وثغرة لا تزال قائمة تبعث الأسى في النفوس، والأسف في الضمائر، فكان الأخ أبو عامر يرى ويسمع ما يحدث هنا وما يجري هناك، ولا يملك له إلا أن يقوم بواجب دعوته ولو من بيته، وينهض برسالته ولو من خلال أحاديثه فيلتقي بإخوانه يشاركونه أحاديثه يتفقون معه أو يختلفون، ويمكن أن يقول هذا حسبنا في هذا الوقت.. لكن الأسى يجعله يتمثل بذلك الشعر الذي يبدى فيه ويعيد كلما ضاق المجال أو انسد الأفق، عزاء أو تسلية يردد بيت المتنبي المعروف:
فأمسك لا يطال له فيرعى ولا هو في العليق ولا اللجام
ينشد البيت على عجلة.. أو في مكث وتؤدة على زواره بأسى بالغ، وطرب حزين، وقد وضع يده الأولى على الثانية كقيد يمنعه من صولاته التي اعتاد عليها، وجولاته التي افتقدها، وكأنه يقول مع المتنبي مرة ثانية:
تعود أن يُغبر في السرايا ويدخل من قتام في قتام
حتى يستعيد معنى آخر سبق هذا المعنى وصولاً إلى ما يريد، حيث يستريح على إيحاءات البيت التالي:
وما في طبه أني جواد أضر بجسمه طول الجمام
هذه المعاني الجميلة وأمثالها تسحر الأخ أبا عامر في أحاديثه، وتملك عليه لبه في جلساته، وتملأ نفسه فيرددها منتشياً ويلقيها متمثلاً، وهي على لسانه أعذب من الشهد، وأمتع من السحر الحلال..
والآن أعود إلى الحديث عن لقاء الأخ أبي عامر - كما سلف وذكرت - بالأخ أبي طريف، وكانت أحاديث هادفة، وآراء متبادلة، وآمالاً واعدة، امتدت لقاءاتها مستمرة إلى حلب وعمان وأماكن أخرى، ناب عن أبي طريف إخوانه في كثير منها، وكنا في الميادين نعيش حالة نهوض دعوي متوثب، وفكر ناشط متقد، وحراك اجتماعي ملحوظ لعل من أبرز ملامحه تلك النشاطات التي تظهر في خطب الشيخ أبي طريف رحمه الله إن كنا نسجل هذه الخطب، ونرسلها تباعاً إلى إخواننا في حلب، ومن هناك توزع على سائر المحافظات، حيث يتداولها الإخوان سماعاً ودراسة واستفادة، كان الكل يسمع باسم هذا الشيخ ويعجب بحديثه، ويتمنى لقاءه والاجتماع إليه، فمنهم من شد الرحال إليه وحظي بذلك اللقاء، وكثير منهم بقي متطلعاً إلى تلك اللقاءات لعله يتعرف إلى الشيخ في يوم ما، وكنا بعد صلاة الجمعة وسماع خطبتها نلتقي بهؤلاء الأخوة على غداء تستمتع به الأجسام، كما استمتعت النفوس بحديث الشيخ الذي يأخذ بها إلى نواح متعددة من الرأي والقول والبيان، ويضرب في شعاب الفكر منظراً للمستقبل، راسماً له خطوط العمل على الأفق البعيد، ذاباً عن هذه الدعوة المباركة بالحجة الناهضة والبرهان الساطع، قامعاً لخصومها الذين يناوؤنها حسداً وبغضاً ومجافة، ومن توفيق الله سبحانه علينا في تلك الخطب المسجلة على الأشرطة أنها رحلت معنا إلى مهاجرنا وانتقلنا بها من بلد إلى بلد، حتى أحياها الأخ الأديب الوفي أبو أسامة عبد الله الطنطاوي على موقعه أدباء الشام، وهي الآن شاهد ناطق على تلك المرحلة من جهادنا المبرور.. وكان دور الأخ الفاضل أبي عامر - في تحمل مشاق نقل هذه الأشرطة من مكان مكثت فيه طويلاً إلى آخر تعرض اليوم منه وتنشر - مأجوراً، وهي مهمة لا يعرفها إلا من واجه حواجز التنقل، واجتياز الحدود، ووعورة ذلك الاجتياز الذي أقامه أعداء هذه الأمة، والأخ الكريم جزاه الله خيراً يقوم بمثل هذه الأمور كجزء من نشاطه الدعوي الذي لا يستطيعه إلا الآحاد القلائل من أبناء هذه الجماعة، رغبة فيما عند الله من الأجر، واحتساباً عنده للثواب.. ويذكر الأخ أبي أسامة الطنطاوي تتداعى على ذاكرتنا، تلك اللقاءات الحميمة التي كان يقوم بها الأخ عبد الله حفظه الله مع بعض الصحب، ونذكر منهم على سبيل المثال الأخ المرحوم أبا محمود الحسناوي إلى مركزنا، مستغلين المناسبات الأدبية التي تنعقد في المحافظة آنذاك للاجتماع بإخواننا في الميادين، وعلى رأسهم شيخنا الجليل أبو طريف رحمه الله تعالى وقد كان إعجابه فيه ثناء دائماً يردده كأنه قصيدة جميلة لا يمل من تكرارها..
ففي حادثة يرويها أبو أسامة في إحدى زياراته إلى المنطقة أنه سأل أحد الأخوة ممن يتحلى بحلية العلم، ويتحدث في الكثير من مسائله عن معنى الحديث لرسول الله صلى الله عليه وسلم (لا ثني في الصدقة) فأخذ الأخ في جوابه وأعطى بكلام لا يبعث على طمأنينة السائل، ورد لم يرتح إليه الأخ عبد الله فسكت حتى التقى بالشيخ أبي طريف رحمه الله، وفي المجلس ورد على ذهنه السؤال فسأله عن معنى الحديث ويروي الأخ الكريم أن الشيخ بادر بالجواب وفسر الحديث بكلام الواثق المطمئن، ثم دعا أحد أولاده وقال له: أحضر الكتاب الفلاني من مكان كذا، فجاءه بالكتاب وفتحه مباشرةً على الصفحة التي ورد فيها ذلك الحديث ومعناه فقرأه علينا من الكتاب فجاء مطابقاً لما قال، وكأنه قد راجعه في نفس هذه الصفحة قبل ساعات قليلة.. ولا عجب في ذلك الشيخ كما ذكرنا قضى عمره كله بين جدران المكتبة، وعيونه تلتهم أسطر الكتب بهمة عالية ومتعة لا يرى أجمل منها في هذه الحياة.. وأذكر له حادثة كان يرويها لنا - رحمه الله تعالى وجافى القبر عن جنبيه - أنه في إحدى مواسم الشتاء الماضية وفي أواخر الأربعينيات من القرن المنصرم، وكان الشتاء في تلك الأيام طويلاً ثقيلاً وبارداً.. يستعد له الشيخ بأكوام من الحطب المنشور الذي توقد به مدافئ تلك الأيام.. قال ونفذت من خزائني الكتب الجديدة التي اعتاد بعض أصحاب المكتبات في دمشق وحلب أن يرسلوها لي إذا لم أحضر اليهم في سفراتي المتباعدة، في إصداراتها الحديثة وعلى مختلف موضوعاتها المتنوعة، وكان لا بد من القراءة، والعيش مع ذلك التراث الباذخ الأصيل، فرأيت أنه لا بد من مراجعة ما قرأته سابقاً وبعض تلك الكتب قرأها كما كان يروي أكثر من مرة، وكان يحفظ كثيراً من دواوين الشعراء ويهتم بشكل أخص بأبي العلاء المعري وشعره المتين، وبخاصة لزومياته التي تتعسر على كثير من القراء بسبب وعورتها، وحوشي ألفاظها وكأنها معاجم اللغة وليست كتباً للقراءة.. قال: فعمدت إلى القاموس المحيط فقرأته أول مرة كاملاً بدون توقف، ثم أعدته ثانيةً وأخرجت منه المفردات التي لها تداول على ألسنة الناس في المنطقة، ووجدت كثيراً من عاميتنا تلك لها أصول فصيحة في القاموس، ثم أعدته الثالثة وكان قد بقي من ذلك الشتاء بقية فأخرجت منه الكلمات التي لها وقع موسيقي لطيف على الأسماع، وكنت على هذه الحالة حتى جائني المدد من كتب جديدة، تابعت فيها مطالعاتي التي سرت عليها بلا توقف.. وإذا كان الشيء بالشيء يذكر، فلقد قرأت شيئاً قريباً من حالة عمنا المرحوم أبي طريف حدثت مع الشيخ المرحوم محمود شاكر الأديب والكاتب المصري المعروف، صاحب كتاب (سفر المتنبي) مع مقدمته الضافية حول الثقافة الإسلامية، والأباطيل والأسمار وكتب أخرى معروفة.. إذ لاحظ بعض تلامذته إشارات على القاموس تحدد منه مقاطع معينة من كذا إلى كذا؛ فسأل الشيخ عن هذه الإشارات فضحك الشيخ محمود رحمه الله وقال له يرحم الله أخي أحمد - وهو الشيخ أحمد شاكر صاحب التحقيقات البديعة ومنها تحقيقات مسند أحمد - كان يطلب مني حفظ القاموس، ويحدد لي صفحات منه كوجبات لا أتخلف عن حفظها ومراجعتها بين يديه.. والجدير ذكره أن الشيخ محمود مشوح رحمه الله كان يراجع دواوين الفقه، ومصنفات الحديث المعروفة على جميع مذاهبها مرة في كل عام، وكان يقول لولا هذه المراجعة لسقطت كثير من المسائل الدقيقة من ذهني، وقد عجب يوماً من شخصية معروفة في المنطقة لها صدارتها الرسمية، وعلى ظاهرها سمت العلماء لقوله له مباشرة إنني منذ تخرجت من المدرسة الشرعية ما فتحت كتاباً في الفقه، ولا قرأت سطراً من علومه، فقال له الشيخ رحمه الله: ويلك كيف تفتي الناس وأنت على هذا القدر من الجهل..
ونحن إذ نقدم هؤلاء الرجال العظماء والعلماء الحكماء، بما نعرف عنهم من جهد وصبر وعطاء - إن كانوا ممن لحقوا بالرفيق الأعلى، وقد مضوا على طريق الآخرة عاملين، وبهذا الدين مجاهدين، وللعلم ناشرين، أو ممن مدّ الله في أعمارهم وبارك لهم في مسيرتهم وتقبل منهم جهادهم - فذلك من أجل القدوة الحسنة للأجيال التي حرمت من استلهام تلك القيم النبيلة الرائعة، وذلك الجهاد الميمون، وخلال الصبر المحتسب، وخلائق التجمل الكريم التي ضربها أولئك العاملون في حقل الدعوة، الناهضون بعبء العمل لخير الأمة، المؤدون لرسالة الله تعالى من أجل مستقبلها وعزها ومكانتها بين الأمم، وما كانت وسيلتهم إلا الكلمة الطيبة من ذكر الله في كتابه، أو حديث رسوله صلى الله عليه وسلم في بلاغه وبلاغته، أو تراث علماء هذه الأمة ورموزها في فصاحته ودلالته وصوابه.. فمن يعيش من هذه الأجيال اليوم مع كتاب الله إلا النفر القليل، ومن يحفظ من حديث رسوله صلى الله عليه وسلم إلا العدد اليسير، أما كلام البلغاء، وحكمة الشعراء، وقول الحكماء فذلك أصبح تراثاً تتغلق عليه الأسفار العتيقة، وتحكمه الأقفال في خزائنه القديمة، ولا يعرف قيمة هذه الكنوز إلا الآحاد من أبناء هذه الأمة، ولكم أن تنظروا الى مناهج جامعاتنا ودراسات طلابنا، وأعداد المتخرجين على هذه الثقافة الضحلة الفقيرة، التي ملأت عقولها بقشور المدنية الوافدة ومظاهرها الزائفة، وألهياتها العابثة..
لقد شطَّ بنا القلم إلى هذه العبرة الحرى، والحسرة المؤلمة، والأسف المُمض؛ ونحن نستعيد ذكريات المخلصين من إخواننا الراحلين، وأصحابنا المجاهدين العاملين، وهم على طريق الحق ماضون، وبما أنعم الله عليهم مستمسكون...
وبعد هذه السوانح التي أتاحتها هذه الذكريات حول الأحداث الموحية، والشخوص الملهمة والقيم الموجهة، والتي نريدها هدفاً لأجيال الأمة، وزاداً أصيلاً تبني عليه هويتها، ومتلاتٍ في العلم والعمل والعطاء.. تقيم منه ثقافتها، وتؤسس عليه حضارتها.. تلك في المرحلة التي كانت عليه جماعتنا بشكل عام، وفي منطقتنا الميادين بشكل خاص وما حولها من امتدادات، وما اتصلت به من مراكز في الجماعة بعامة؛ حيث كان الأخ أبو عامر قد عاش معنا كل تلك المعطيات وساهم - بجهد مبرور - في تطويرها إلى الأفضل، ودفعها إلى الأمام فتوسع العمل وغطى مساحات واسعة، وقام شاهقاً حتى وصل إلى آفاق رسمية، جذبت إلى عناصرها عناصر متميزة ووصلت الى أفراد منها لهم مكانهم وكلمتهم وثقلهم في الميدان العام، وأذكر على سبيل المثال لا الحصر مدير المنطقة في بلدنا - أبو صلاح - وهو أخ دمشقي، صالح تقي، نحسبه كذلك ولا نزكي على الله أحداً، يحفظ كتاب الله تعالى ويسلك في الناس سيرة كلها خلق ودين واستقامة، كان يصلي بنا الفجر في المسجد الرئيس في البلد، وقد أتمه كاملاً في هذه الصلاة على مدى عشرة أشهر.. وكنت على صلة قوية به، حتى عرف بذلك، وشاعت تلك المعرفة بين الناس فكان من يريد أمراً له فيه حق لا يستطيع الوصول إليه يأتي إليّ طالباً مساعدتي، وما هي إلا كلمة أو اتصال بهذا الرجل حتى يكون صاحب الحق قد وصل إلى حقه..
وكم كان تأثر هذا الرجل كبيراً، وألمه شديداً، وقلقه عميقاً، عندما اعتقلني الحكم الغاشم مع طائفة واسعة من قيادات الجماعة مساء 24/4/1979م. الساعة العاشرة ليلاً حيث جمعت السلطة المجرمة كل هذا العدد الكبير في هذا الوقت الذي أشرنا إليه، وهناك التقينا في سجن كفر سوسة بذلك الجمع الغفير من أعضاء الجماعة ممن كانوا يتحركون في العمل العام، ويتصلون بشرائح من المجتمع في مدنهم ومناطقهم، ويلاقون قبولاً ممتازاً كان له أبعد الأثر في تقدم العمل وتطوره، وهو الذي أغاظ رجالات الحكم الحاقدين، وجعلهم يتصرفون بعبث وتخبط وانتقام..
كان الأخ أبو عامر في تلك المرحلة يذرع سورية شمالاً وجنوباً وشرقاً وغرباً، يدخلها خلسة من خارج البلاد، ومن مكان عمله في الخليج، حيث يقوم بمهامه حسب برنامج مرتب وخطة مدروسة وضعت له مسبقاً لتغطي معظم مناطق سورية، ثم يخرج متسللاً إلى عمله خارج البلاد.. لقد كان للأخ الكريم - حفظه الله تعالى وجعل عمله في ميزان حسناته - باعه الطويل، وجهاده المتميز في المفاوضات التي جرت مع النظام المجرم في سورية، وكان من نتائجها تحرير أعداد كبيرة من الاعتقال، والإفراج عنا من السجن - مع عوامل أخرى مساعدة - وقد رأيت الأخ أبا عابد - مندوب المفاوضات لدى بعض الجهات المحلية - بنفسي من نافذة المهجع في صالة السجن فكانت جهود إخواننا وعلى رأسهم - أبو عامر -مثمرة في تحرير عدد لا يستهان به من الإخوان ممن كتب الله له الحياة بعيداً عن ظلمات الأقبية في سجون الظالمين.
وعلى ذكر هذه المفاوضات، فقد قام المرحوم الشيخ أبو طريف في مفاوضات مماثلة بناء على طلب من رئيس النظام حيث قابله لمدة ساعتين كان فيها المرحوم الشيخ مهيمن على الجلسة، مثيراً لإعجاب رئيس النظام الظالم، حيث طلب منه الرئيس الوساطة لحل الخلاف بين الجماعة ونظامه المجرم، وكان ذلك عام 1981م بعد أن سالت دماء غزيرة، وصدرت قوانين ظالمة، واتخذت إجراءات صارمة بحق أعضاء الجماعة وأشياعها، وبعد أن شعر النظام بالخوف وتحسب لمستقبله، واهتزت أركانه، وبدت نذر الخطر تلوح له من بعيد، فكانت هذه الوساطة التي خرج منها الشيخ بمقترح طرحه عليه الرئيس أسد للوساطة، فكان وقت إذن إرسالي إلى الإخوان خارج البلاد إذ أن الشيخ لا يستطيع أن يتصل بأحد، وليس له علاقة بأي من قيادات الجماعة، فقمت بهذه المهمة وقابلت القيادة في عمان، وكان لهم شروطهم التي أملاها الشيخ سعيد رحمه الله نيابة عن القيادة، والتي علمت فيما بعد أنها لا ترغب بمثل هذه الوساطة لأن الذي يقوم بها رجل هو الشيخ لا يوافق عليه من كان بيده الأمر آنذاك، فهو يملك رصيداً من الحساسية تجاه شيخنا الجليل رحمه الله لا يحسد عليها وقد أضاعت على الجماعة فرصاً كثيرة.. وأخص بالذكر ذلك الطلب الذي رغب فيه الشيخ أبو طريف رحمه الله عندما زارني في عمان وطلب مقابلة ذلك المسؤول إياه.. كان يريد الشيخ من ورائها كما قال في ذلك الحين أن يضعه في صورة الوضع في سورية، وأن يقدم له انطباع السلطة من جهة، والناس بشكل عام في البلد عن أوضاعنا في الخارج مع الرجل وللأسباب التي ذكرناها آنفاً ألقى من المعاذير بين يدي ما فهمت منها - أنه لا يمكنه أن يلتقي مع إنسان له هذه المكانة وهو لا يرتاح إليه بسبي الرواسب التي يحملها عن كل إنسان له من النجاح ما للشيخ المرحوم من سجايا وصفات تتجاوز حدود تلك الرواسب، وتتطلع دائماً إلى أنبل القيم وأبقاها عند الله وأنفعها للناس..
وعلى كل حال رفضت السلطة وساطة الشيخ التي قمت بها، بسبب شروطها غير المدروسة، واختلاف القيادة فيما بينها على المبدأ، إذ إنها من طريق الشيخ.. عفا الله عن الجميع وأحسن الله ختامنا وغفر لنا..
ثم جاءت أحداث مقيمة مقعدة، اجتاحت البلاد من أولها الى آخرها، وهزت النفوس من جميع جوانبها، وألقت في القلوب خوفاً مرعباً، وإنذارات رهيبة تحسب لها الناس جميعاً مضطربين لا يعرفون ما هو المنتظر منها وما هو القادم فيها، لست بصدد التاريخ لها، ولا التسجيل لأحداثها، ولا التفصيل في جزئياتها - وهي والله جديرة بالتسجيل قمينة بالتفصيل - لكنني لست معنياً بها في هذه الذكريات، كما أنني لست مؤهلاً للحديث عنها، ولا مهيأ للكتابة فيها، ولعل الكثير من أصحاب الاختصاص يتولون الحديث عنها، وقد كتب فيها من كتب حتى الآن جمع من المؤلفين لم يبلغوا الغاية من التدقيق، أو الاستيفاء في البحث.. لكن الكتاب المنتظر هو الكتاب الذي أصدر منه الأخ الكريم أبو عامر جزأين في الحديث عن الإخوان المسلمين وما زلنا مترقبين لبقية أجزائه، متشوقين لتمامه وهو على طريق الصدور والنشر إن شاء الله تعالى، وسوف يتناول من غير شك وقائع مهمة مثل حادث المدفعية، إلى الإعدامات التي تلتها، إلى الاعتقالات التعسفية، إلى القمع الذي تناول كل من له صلة بأي عضو من أعضاء الجماعة، إلى قانون العار 49، إلى أحداث أخرى.. ولعل من أهمها صفقات هذا النظام السرية المشبوهة، وتحركاته الباطنية الخبيثة، وجناياته الإجرامية مما جعله مقبولاً حتى الآن لدى أعداء الأمة وحريصين عليه حرصاً يجاهرون به على رؤوس الأشهاد ولا يساومون على زواله بحال من الأحوال، ودور هو في إعداده والتمكين له كان منذ البدايات.. هذا على صعيد نظام الحكم، أما على صعيد الجماعة داخل البلاد وخارجها، فقد صدر عن أحداثه ووقائعه الكثير الكثير لكن ما نحتاج إليه وما نطمع إلى رؤيته مفصلاً في تشخيص عميق للأزمة، وتوصيف مهم للعلاج، وتحديد واضح، لأخذ الدروس والعبر أكثر مما رأيناه حتى الآن بكثير.. ونشير هنا إلى تقويم الأخ أبي عامر لبعض أحداث الجماعة في رده على تقويم القيادة الذي صدر منحازاً وبعيداً عن التقويم..!
ثم كان استدعاء إخواننا في القيادة - وعلى رأسهم الأخ الكريم أبو عامر - لي للخروج من سورية، بعد أن خرج الكثير من إخواننا ولم يبق إلا آحاد من الأخوة المعروفين بين الناس؛ حيث أصبح بقاؤهم داخل البلد خطراً يهددهم في كل لحظة، وهنا أذكر كلمة الأخ أبي عامر لي وكان معي الشيخ الجليل أبو طريف والتقينا معهم في مهاجرنا الأول.. قال لي: لم يبق أحد من أعضاء مجلس الشورى غيرك ولا بد من أن تخرج سريعاً من غير تردد، وكان لي رأي آخر هو أن إمكانية البقاء داخل البلاد وبخاصة المنطقة الشرقية وهي قنطرة الوصل بين عموم سورية وشرقها في البلد الذي نزل فيه الإخوان، حيث أساعد في تقديم صورة العمل داخل البلاد، حتى إذ لم يبق لي مجال في الحركة أو الاختفاء أسارع إلى الخروج قبل أن يحدث شيء بإذن الله تعالى، لكن الأخ أبا عامر لم ير مثل هذا الرأي بسبب الوضع المتسارع في سورية بالتضييق على الإخوان والشراسة في المعاملة وأيضاً فإن مركز الميادين في الخارج يحتاج إلى عمل يساعد في ترتيب أوضاعه ويمكن للأخ أبي سعيد أن يساعد في ذلك كما أكدّ الأخ الكريم - حفظه الله ورعاه - وبعد مداولات وإثارات لأحاديث كثيرة وقضايا مختلفة، وأذكر ذلك أنه كان في يوم اثنين من ذلك الأسبوع الذي مضى عليه أكثر من ربع قرن فقالوا عليك أن تكون هذا يوم الإثنين القادم على أبعد حد بعد أن ترتب كل أوضاعك هناك، وهذا ما حدث 15/11/ 1981م وكان هذا التاريخ آخر العهد بذلك البلد الذي ولدت فيه وتجولت في أنحاء منطقته وضربت في شعاب جهاته سهلاً ونهراً وباديةً، ولم أكن أعلم أن هذا التاريخ آخر العهد بتلك الديار، وهي أول أرض مس جلدي ترابها، وقد خلفت فيها من الأصحاب والأحباب من يتوق القلب إلى رؤيتهم، وتتمنى النفس أن تلتقي بهم، ويجمح الشوق الى معانقتهم.. ولو كنت أعلم أن ذلك سيكون على ما كان عليه لوقفت على حاشية من حواشي تلك المنطقة الواسعة الجميلة ولرددت مع الشاعر:
تمتع من شميم عرار نجد فما بعد العشية من عرار
هل صحيح أننا لا نرى بعد تلك العشيات الطويلات عراراً ولا خزامى، ولا نشم عبيرهما من تلك البادية الجميلة.. إذا كان ذلك في جنب الله فلا نبالي، نسأله - سبحانه وتعالى - هجرة في سبيله، ورباطاً في مرضاته، وجهاداً يقبله..
في هذه الجلسة التي مضت في ذمة الله، ونسأل الله أن تكون لنا شهادة حق وخير وثواب عنده سبحانه وتعالى.. كان لنا لقاء منفرد مع الأخ الكريم أبي عامر.. الشيخ الجليل أبو طريف رحمه الله وأنا.. على جانب تلك اللقاءات بحديث خاص شرحنا له فيه حساسية المرحلة، وصعوبة الظروف، واعتراضنا في ذلك اللقاء على الخطوة التي قام بها الإخوان باختيار المسؤول الأول آنذاك، وأنه برأينا أعجز من أن يتحمل دقة هذه المرحلة، ومتطلباتها، وأننا لن نجهر برأينا هذا أمام إخواننا الآن في أي مكان آخر، لكننا نسجل عندك أيها الأخ الكريم هذا الرأي حتى يكون شاهداً لنا على التاريخ، وفي المستقبل، وعند الله من قبل ومن بعد، وبكل حسرة وألم وأسف أن رأينا هذا بقي شاهداً ناطقاً صحيحاً طوال تاريخ هذه الجماعة وحتى يوم الناس هذا؛ بل هو نتيجة محسومة لم يعد يجادل فيها من هو قريب من الرجل أو بعيد عنه، والأخ أبو عامر أول من أيقن بذلك وأكثر من عانى منه، وكان جوابه في تلك الجلسة الجانبية أن ما جرى كان مفروضاً علينا من قبل القريبين منا والبعيدين عنا ولا بد مما ليس منه بد...
وبعد هذه الجلسة التاريخية التي سجلنا فيها رأينا في عنوانها الذي سيطبع المرحلة القادمة، وأودعنا سره لدى الأخ الكريم، بدأت بنا مرحلة جديدة كان فيها الأخ أبو عامر فارساً لا يشق له غبار، ورجل عمل لا يهدأ له أوار حيث النشاط المتواصل، والاتصالات المستمرة، والتلاقي الجاد على طريق الاستحقاقات المطلوبة، والإنجازات المتوقعة، فكان مركز الميادين في هذه المرحلة من أنشط المراكز وأقواها، ومن أشدها حماساً وأكثرها فعالية، إذ سبق له وأقام في الصحراء مخيماً أقامه على تربية الماشية، وجعل من الإخوان المقيمين فيه نقطة التقاء، وعقدة مرور تؤمن الحاجات للداخلين إلى سورية من مواقع الإخوان خارجها، إلى الذاهبين نحو تلك المواقع بما يحملون من أخبار ومتطلبات وضرورات.. وكانت هذه المهمة في المركز من أكبر الإنجازات التي حققت للجماعة في ذلك الظرف الخطير، الكثير من المتطلبات، والعديد من المهمات، لكن هذا التوزع بين نقطة الصحراء، ومكان الإخوان في إقامتهم خارج البلاد أحدث نوعاً من الاضطراب في عمل المركز ظهرت فيه أهواء متطلعة، وانفلاتات غير منضبطة، وحركات غير منسجمة مع أخلاق الإخوان وسلوكهم المستقيم، ومن هنا كانت المهمة بالنسبة لي شاقة على النفس، ثقيلة على القلب، بذلت فيه جهداً كبيراً - أحتسبه عند الله سبحانه - لكي تهدأ النفوس وتستقيم على الطريق..
ثم ظهرت متاعب أخرى من قبل إخواننا في المحافظة الذين نقموا علينا مكاننا في الجماعة، وضاقت نفوسهم بجهدنا في محيط العمل الممتد من داخل البلاد إلى خارجها، كما وجدوا في أنفسهم غيرة شديدة على مكاننا كمركز متفرد ضمن الجماعة، مع أن كل المحافظات الأخرى لها مركزها باسم المحافظة خلا الميادين التي كانت مركزاً بذاته، فشغبوا علينا في لقاءات الجماعة العامة، ومجالسها المتخصصة، فردت على مثل هذا الشغب في ذلك المجلس أننا في مركز الميادين نحسد على نشاطنا، وتقتل بعض الناس الغيرة والغيظ على إنجازاتنا، ولم يعد لهؤلاء الناس من قضية إلا مطالبتهم بالأجزاء السليبة التي خرجت على سلطتهم، وفي هذا الشأن كان للأخ الكريم أبي عامر القدح المعلى، والجهد الأوفى، في تثبيت أمر المركز في كل المجالات حتى في النظام الأساسي للجماعة.. ولكن الأمور لا تسلم قيادها دائماً لأصحاب الجد والمتابعة، ولا لأهل الحق والمثابرة، فقد أطلت علينا قوى عصف بها الهوى، وأمالتها الغوايات عن الطريق اللاحب، فأطاحت بمكانة هذا المركز العتيد، ودمدمت على إنجازاته المشهودة، وألحقته بغيره من مراكز لم يهدأ لها بال حتى رأته مشتتاً عاجزاً من غير فعل ولا حراك..
ولا بد لي أن أذكر هنا أسى الأخ البار الوفي أبي عامر من هذه المكائد، ومن نتائجها المحزنة على الجماعة، ومن آثارها المدمرة على مستقبلها؛ فكان يُظهر مثل هذا الألم كلما عرض الحديث بهذا المفصل من تاريخ الجماعة، إذ لو لم يحدث مثل هذا الخراب فلربما كان لمسير الجماعة شأنٌ آخر، وواقع غير هذا الواقع التي هي عليه، ولكنه أمر الله وتدبيره، ولا راد لأمره والله أعلم، وهو أرحم..
ليس من شأن هذه الذكريات أن تسهب أكثر مما يلزم في مشكلات الجماعة، ولا مطلوب منها أن تدخل في متاهاتها.. لكن ذكرياتنا التي نسجلها مع الأخ أبي عامر، ليس لها من طريق إلا من خلال هذه الجماعة، وما دوناه من بعض أحداثها، وما عرضنا له من خلال رؤوس مشكلاتها...
لذا كنا مع الأخ الكريم في جهاده، وإلى جانبه في ثباته.. وأذكر له أنه من القلائل الذين ضلوا حتى الكلمة الأخيرة التي أسطرها في ذكرياتي هذه.. ذائداً عن حياض دعوتنا، مناضلاً حتى ثوابت جماعتنا، ممكناً لأهداف قضيتنا على كل مستوى وفي كل مجال..
لقد كان الأخ الكريم مع كل جهد في نصرة هذه الدعوة، ويدعم أي بادرة من أجل نهضتها، ولقد أدهشني ذات يوم بالثناء على أسلوبي في الكتابة، وأن لي عبارة بليغة - كما قال - لا يحسن هو صياغتها واستغفر الله العظيم.. لما يمكن أن يخطر بالبال في مثل هذا الموقف، والحمد لله لم يكن مثل هذا الخاطر وارداً في ذهني.. لكن الأخ بتواضعه الجم، وإنصافه لغيره من نفسه، والاعتراف بمكانة غيره في حضوره وحبه لإخوانه وتشجيعهم على كل تقدم في مجالاتهم وفي غيرها يلقي مثل هذه العبارات بسجية لا تعرف التكلف، ولقد شهدت مثل هذا الأمر أكثر من مرة وفي أكثر من مناسبة، وأجمل ما في الرجل أنك تستطيع أن تختلف معه، وأن تقدم رأيك وتقول قولك، وأنت مطمئن من جانب الأخ الكريم أن اختلاف الرأي لا يفسد للود قضية، ولطالما كان لي مع هذا الأخ الطيب الكريم مثل ذلك ولا حاجة لي أن أشير إلى حادثة ما أو أكثر مما ذهب في وقته وانطفأ أثره بعد حدوثه وكأن شيئاً لم يكن، وأن ما يشدنا جميعاً من هدف كبير، وقضية نبيلة، هو أكبر من أشواك على الطريق، أو عثرات في هذا المسير لا يـأبه لها.. ومن حق الأخ الكريم علينا أن نسجل له بعده الواضح عن التعصب الإقليمي، والتخندق الجغرافي، الذي أصاب قطاعات واسعة من جماعتنا، حتى وصل إلى كثير من رموزها.. هذا الداء الذي استشرى ونخر بعضاً من أساسات الجماعة، وأفسد كثيراً من خططها، وأقصى العديد من كفاءاتها الممتازة..
كان لأبي عامر موقف نبيل منه إذ نأى بنفسه عنه، وملك حصانة قوية تجاهه، ومناعة رافضة له..
وفي هذا المجال أذكر له كلمة قديمة عندما تحدث بعض الأخوة الحمويين في قضايا حماة ومشكلاتها، وأسرفوا في ذلك، ولغطوا فيه، بل شغبوا على الأخ أبي عامر في هذه القضية، فرد عليهم بغضب وانفعال: ماذا تريدون أن نعمل لحماة.. هل تريدون أن نجعلها الكعبة المشرفة ونطوف حولها..!؟
وفي ختام هذه الذكريات، ومن خلال رحلتي مع الأخ الكريم أبي عامر الذي ألهمني ما سطرته منها، وما سجلته على عجل فيها، ينقصه الحبك الجزل، والتقصي الدقيق، ويعيبه القفز على الكثير من أمهات المسائل، وعدم الوقوف على مهمات من القضايا تستحق الوقوف عليها، وأخذ العبرة منها، وأنا إذ أعتذر عن ذلك كله لا بد أن أقف على معلم بارز في حياة الأخ الكريم يعيشه الآن، وفي عمره المبارك الميمون هذه الأيام، وهو عكوفه على الكتابة في مواضيع شتى تتناول قضايا مهمة في حياة الناس، وأجيال الدعاة، وتربية النفوس للنجاح في الدنيا، والفوز في الآخرة من مواضيع السلوك والتربية الروحية، إلى معالجة قضايا الأمة، وما يشغلها مع أعدائها، إلى الكتابة في تاريخ الجماعة، وكتابه الأخير عن الإخوان المسلمين يعد من أفضل ما يقدم لأجيال الأمة من الزاد المبارك حول نشأتها، وتوثيق مواقفها واطلاع العالم على جهادها، ومن أجل تحقيق أهدافها في مرضاة الله سبحانه وتعالى، والعمل لرفعة شأن هذه الأمة وعزتها وتمكين دينها في الأرض.. والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات...
هذا ما سمحت به هذه الذكريات والفضل فيها لله سبحانه وتعالى، ثم للأخ الكريم أبي عامر - عدنان سعد الدين - ولأخي وحبيبي أبي حسان الذي أيقظ فيّ نشاطاً للكتابة طالما خمد وانطفأ في نفسي منذ أمد، فإن كان في هذه الذكريات من توفيق وصواب وخير، فهو من الله سبحانه وتعالى وبتوفيقه، وإن كان غير ذلك فهو مني ومن الشيطان وأعوذ بالله منه..
اللهم إنا نعوذ بك أن نقول زوراً، أو نغشى فجوراً، أو أن نصيب غروراً
وسوم: العدد 851