في الذكرى الرابعة لاستشهاد الإمام الشهيد
(1)
الإمام الشهيد حسن البنا
محمد نجيب رئيس الجمهورية (*)
أيها المواطنون:
من الناس من يعيش لنفسه، لا يفكر إلا فيها، ولا يعمل إلا لها، فإذا مات لم يأبه به أحد، ولم يحس بحرارة فقده مواطن، ومن الناس من يعيش لأمته واهباً لها حياته حاصراً فيها آماله، مضحياً في سبيلها بكل عزيز غال، وهؤلاء إذا ماتوا خلت منهم العيون وامتلأت بذكرهم القلوب، والإمام الشهيد حسن البنا أحد أولئك الذين لا يُدرِك البِلَى ذكراهم، ولا يرقى النسيان إلى منازلهم؛ لأنه - رحمه الله - لم يعش لنفسه بل عاش للناس، ولم يعمل لصوالحه الخاصة، بل عمل للصالح العام.
لقد كان حسن البنا صاحب عقيدة أخذت بزمام نفسه، وملكت عليه منافذ حسه، فعاش من أجلها أشق عيشة وأقساها، ومات في سبيلها أشرف ميتة وأسماها، وكان - رحمه الله - يؤمن بأن الدين هو الكفيل بإيجاد الأخلاق القومية في نفوس أبناء الوطن العزيز، وهو الوسيلة إلى حمل النفوس على الفداء والبذل من أجل الكرامة والحرية والعدل، وهي المعاني التي يأمر بها الدين ويريد إعلاء قدرها وتثبيت دعائمها بين الناس أجمعين.
ومن أجل ذلك راح - رحمه الله - يطوف بالقرى ويؤمّ المدن ويجالس الكبير والصغير، ويناقش العالم والجاهل ويربط مواطنيه بعضهم ببعض، حتى تمكن من إنشاء جيل من الشباب المؤمن بوطنه ودينه إيماناً يدفعه إلى العمل، ويدعوه إلى البذل، ويحمله على استقبال الموت باسم الثغر، رضي النفس، مكتفياً بما عند الله من ثواب آجل عمّا في الدنيا من نفع عاجل.
ولست أنسى ما حييت هذا الشباب المؤمن القوي في معارك فلسطين، يقتحم على العدو أقوى الحصون، ويسلك إلى قتاله أعصى السبل، ويتربص بقواته وجحافله كل طريق، ويحتمل يذلك من المشاكل والصعاب مالا يستطيع احتمالَه إلا من امتلأت نفسه بالخالق، ووجد قلبُه حلاوة الإيمان.
ولقد كان حسن البنا على قوة دينه وشدة إيمانه يتحدث عن الإسلام في أفق واسع وفهم سمح كريم، حتى انتفع به العالم والجاهل، وكسب لدين الله أنصاراً كانوا أبعد ما يكونون عن الدين.
وكان الجميع يحبونه أخلص الحب، ويحترمونه أشد الاحترام؛ ولذلك لم تكن الفجيعة فيه فجيعة حياته ولا فجيعة طائفة، ولكنها كانت فجيعة أمة، بل أمم غزا قلوبها، وجمع على الأخوة أرواحها.
وكان - رحمه الله- حرباً عواناً على الفساد والانحلال، على قدر ما كان حرباً على الاحتلال.
وكان سلاحه الذي يحارب به ذا ثلاث شعب الأولى: مكانة في نفوس الناس لا يبلغها غيره، والثانية: بيان رائع قوي يحرك ويوجه ويثير، والثالثة: قدرة على التجميع والتنظيم لم يصل إليها إلا الأقلون ممن تصدروا قيادة الأمم.
وقد أدرك أعداؤه وأعداء الوطن أن هذا السلاح في يده، لا يُفلُّ حديده ولا يَبلى جديده، ثم هو سلاح لا يقاوم سلطانه، ولا يدنو من الهزيمة ميدانه؛ لذلك أجمع المجرمون أمرهم على قتله وحيداً لا حارس له، وأعزل لا سلاح معه، وكانت القوة التي دبرت قتله ونفذته وأشرفت عليه هي القوة التي يلوذ بها الخائف فتمنحه الطمأنينة والأمن، ويحتمي بها المطارد لتسبغ عليه ظلال السكينة والسلام.
وقد ظن المجرمون الأنذال أن عين الله نائمة لا ترى، وأن يده مغلولة لا تبطش، وأن قدرته عاجزة لا تنال، وساء ما ظنوا، فإن الله يمهل ولا يهمل، وإن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته.
"وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِي ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ.
وكان اغتيال حسن البنا وعبد القادر طاهر، وغيرهما من أبناء مصر العزيزة هو الشعلة التي أوقدت النار في صدور المخلصين فأنقذوا البلاد من الظلم والطغيان، وطهروها من الفساد والانحلال، ثم آلوا على أنفسهم أن يضحوا في سبيلها بكل أثير عندهم عزيز عليهم، حتى تتحرر من الذل والاحتلال.
وما ضاع دم أسلم إلى المجد أمة، ولا مات ميت أعطى بلاده الحياة "وَلاَ تَقُولُوا لِمَن يُّقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِن لاَّ تَشْعُرُونَ".
(*) أول رئيس لجمهورية مصر العربية، وأول رئيس لمجلس قيادة الثورة، ولد بالخرطوم من أب مصري وأم سودانية عام 1901م، توفي عام 1984م.
(1) منبر الشرق – 6 من جمادى الآخرة 1372هــــ/ 20 من فبراير 1953م، وكتبت في الأهرام بتاريخ 28 من جمادى الأولى 1372هــــ/ 13 من فبراير 1953م، وقيلت بمناسبة الاحتفال بمرور أربعة أعوام على استشهاد الإمام حسن البنا، وانعقد الاحتفال في يوم الخميس 12 من فبراير سنة 1953م، بعد الاحتفال بمصطفى كامل بيوم واحد، على قبر الإمام الشافعي، وبحضور والده الجليل وآله الكرام، والمرشد العام حسن الهضيبي، ونخبة من خيرة المسلمين، وصفوة الإخوان.
وقد حضر الرئيس اللواء محمد نجيب إلى القبر، واشترك مع بقية الحاضرين في إحياء هذه الذكرى الكريمة، وقرأ الفاتحة، ثم ألقى هذه الكلمة.