عز الدين القسام
1300- 1354
1882 - 1935
محمد عز الدين ابن عبد القادر القسام، من أسرة كريمة في جبلة - من مدن اللاذقية، على الساحل –. ولد في مطلع القرن الرابع عشر - سنة 1300 -. وتلقى علومه الأولى في بلده، ثم ذهب إلى الأزهر، فأتم علومه فيه، ثم قدم منه سنة 1327 - 1909 - بصحبة الأستاذ عز الدين التنوخي، فأقام قليلاً في جبلة، ثم ذهب إلى تركيا يعظ هناك ويرشد ويوجه إلى الخير، مدة سنة، عاد بعدها إلى جبلة، ليقوم بنهضة تعليمية فيها واسعة، شملت الصغار والكبار، فكان في النهار يعلم الغلمان، ويقوم بالليل بتعليم الرجال، وكان والده شيخ طريقة صوفية، له مكتب يعلم الأولاد فيه تعليماً صوفياً يقتصر فيه على الأذكار وطرق الصوفية ومناقب المتصوفة وأخبارهم. فجدد الشيخ عز الدين في طرق التعليم وأخذ يعلم القرآن والتفسير والفقه وما إلى ذلك من العلوم، وفي نفس الوقت أخذ يربي النفوس على تفهم الإسلام، والعمل به وإقامة الحياة على أسسه..
وكان يدعو الناس وقلبه من وراء لسانه، وسيرته تؤيد دعوته وإخلاصه يظهر في مقاله، فاستجاب لدعوته الناس، وصلحت الأحوال، وكانت قبل مجيئه بالغة السوء وحصل من الإقبال على الطاعة، والتزام حدود الإسلام، ما كانت النساء معه يخرجن يوم الجمعة إلى السوق دون حجاب، لا يصادفن من الرجال أحد يذهب الجميع إلى المساجد حتى القائم قام وحتى الحراس، إلا حارساً واحداً للمساجين.
ولما قام الطليان بغزوهم الغادر لطرابلس الغرب، ووقف المجاهدون العزل أمامهم، يصمدون بإيمانهم للموت لا يفرون ولا يهابون، أخذ الشيخ عز الدين يجمع التبرعات للمجاهدين يثير في الناس عواطف الخير، ويحرك فيهم نوازع الإيمان، حتى اجتمع من التبرعات قدر ليس باليسير وإنهال الناس على تقديم ما يستطيعون، وقدم الكثيرون، الكثير من أثاث بيوتهم وتقدمت الكثيرات من النساء بحليهن إعانة للمجاهدين.
وأراد القائمقام - ويسمى حمدي الجلاد. أن يكون هو المشرف على جمع التبرعات، فثار الناس وأبوا ذلك عليه، فكان أن اضطعنها على الشيخ وسعى به إلى الأتراك، يزعم لهم أنه يحرض الناس على الثورة عليهم، وكان الأتراك وقتذاك يجلون الإسلام ويسيرون على هديه فأرسلوا محققاً إلى جبلة وبحث المحقق في الأمر، وحضر دروس الشيخ، فتبين له حقيقة الفرية، وإنها وشاية كاذبة وأن الشيخ إنما يحث على الجهاد ويدعو إلى الوحدة الإسلامية وكان أن أقالوا القائمقام.
ولم يكتف الشيخ، ورأى أنه لم يؤد حق إخوانه المجاهدين عليه، حين يقدمون هناك صدورهم لرصاص الكفرة المغيرين فيكتفون بتقديم بعض المال إليهم، كما يساعدون شعباً غريباً عنهم، وكأنهم ليسوا أمة واحدة يجمعهم دين واحد، وتذكر أنه إذا توغل الكفار في أرض المسلمين أصبح الجهاد فرض عين على كل مسلم فيها.. فقام يحث الناس على التطوع ويدعوهم إلى الجهاد، حتى اجتمع له من هذه البلدة الصغيرة، عدد من المتطوعين كبير، وذلك لما لمسوا فيه من الصدق والإخلاص فانتقى الشيخ من أقويائهم ومن المدربين على السلاح بينهم مئتين وخمسين من الشباب، ولم يهمل الشيخ عيال هؤلاء المجاهدين، فألف لجنة تتولى الإنفاق عليهم في غيابهم، بحيث يصيب الفرد الواحد من عيال المجاهدين ثلاثة (مجيديات) في كل شهر، وذهب المجاهدون، إلى اسكندرون ليبحروا من هناك فلبثوا فيها أربعين يوماً، ولم يتمكنوا من السفر، مما أثار سخط الشيخ الذي كان يتحرق شوقاً إلى الجهاد، وزاد في غضبه أن أمرتهم الحكومة أخيراً بالعودة إلى جبلة ، فأنشأ بأموال التبرعات مدرسة لتعليم الأميين في النهار.
وكان الشيخ لا يترك فرصة لجهاد أعداء الإسلام إلا انتهزها فلما قامت الحرب العامة، ساهم فيها، وبقي يجاهد فيما يستطيع من الميادين إلى نهاية الحرب.
وما لبث الفرنسيون عقب الحرب أن دفعتهم الصليبية الغربية والطمع الأوروبي، إلى غزو سوريا، فثار الشيخ، وألف عصبة من المجاهدين بقيت تقاوم الفرنسيين في منطقة صهيون وتحاربهم وتنزل بهم الخسائر إلى أن وقعت دمشق بأيدي الفرنسيين وانقطعت عنه امدادات الذخيرة، فالتجأ قسم من المجاهدين إلى تركيا، وانسل الشيخ مع الباقين إلى فلسطين، وذلك سنة 1339 – 1921
وتابع الشيخ هناك جهاده الذي نذر له حياته، في الميادين الثلاثة: فأخذ أولاً يذكر الناس في حيفا، حيث عين خطيباً فيها، يحث الناس على الجهاد، ويحضهم على الاستعداد، ويثير فيهم الحمية والحماس، وإلى جانب ذلك أخذ يدرس في مدرسة أهلية ليطبع الجيل الجديد بطابع الجهاد، وينشئهم على خلائق الإسلام ويعلق قلوبهم بالأمجاد والفضائل والتوق إلى الجنة، ولو عن طريق الموت:
وينفخ فيهم روح الأنفة من الذل، والاستكانة تحت نعال الأعداء مقابل حفنة من حطام هذه الدنيا وسفسافها:
ولم يغفل الميدان الثالث، فمع أنه يدرك أن النصر ليس بالجيوش والأسلحة والحلفاء، ويؤمن أنه فقط من عند الله العزيز الحكيم، إلا أنه كان يعلم أيضاً أن الله عز وجل أمر بالاستعداد والتهيؤ والتماس الأسباب، فألف جمعية خاصة لجمع المال وشراء السلاح والتدرب على القتال، وأخذ يذهب إلى القرى يحثهم على التدرب والاستعداد، ويحضهم على شراء السلاح.
وكان قد أتى معه من جبلة ستة من إخوانه، فكانوا يسكنون في بيت واحد، يعملون هم في البحر كعمال، ويعمل هو في وظيفته، حتى إذا أتممها سبقهم إلى البيت فهيأ لهم الطعام وقام بما يحتاجون إليه.
وكان إلى هذه الغيرية وهذا الاهتمام بإخوانه، لا يكاد يهتم بحظوظ نفسه، ولا يفكر في طعام لنفسه أو ثياب أو راحة ويرى ذلك أحقر وأتفه من أن يشغل نصيباً من اهتمامه.. فكان في حياته على درجة من البساطة، حتى لقد بقي سنة ونصفاً ينام إذ ينام على حصير، ويجعل ما يجد من ملابسه تحت رأسه حتى أتاه أحدهم بفراش.
وكانت زوجته وبناته ما زلن في جبلة، محظوراً عليهنَّ الخروج من سوريا. فالتقى الشيخ عز الدين بشيخ مغربي - اسمه مجد العلمي، كان قد هاجر إلى المدينة حين احتلال الفرنسيين للمغرب، ثم خرج بعدها إلى فلسطين - عرض عليه أن يكلف بعض أصدقائه في الجيش المغربي - التابع للفرنسيين – بالوساطة لدى الفرنسيين ليسمحوا لعائلته بالخروج. فرفض الشيخ عز الدين ذلك، متكلاً على الله، رافضاً الاستعانة بالكفار. فسر الشيخ المغربي منه وقال له: إنهم سيأتون إن شاء الله. فأتوا بعد مضي خمسة أيام من ذلك.
وكان وإخوانه جميعاً يسكنون مع عيالهم داراً واحدة ويأكلون معاً، بحيث تطبخ كل يوم إحدى النساء للجميع، وكانت تقدم إليه جميع النقود التي يحصل عليها إخوانه فيضمها إلى الوارد الكبير الذي كان يأتيه من التعليم وعقد الأنكحة والوظيفة، فلا يستنفدها في البلاليع الكبيرة لهذه المدنية الغربية القذرة رغم أنه لم يكن في بيته أريكة حتى ولا بساط، وإنما كان ينفق اليسير منها عليهم ويشتري بالباقي أسلحة للجهاد، وهذا كان دأبه منذ القديم، حتى أنه لما كان في جبلة، كلف أحد إخوانه أثناء قتاله للفرنسيين، أن يبيع له داره، فاشترى بثمنها أربعاً وعشرين بندقية.
وكان كثير العبادة، يحرص على صلاة الجماعة، والقيام قبل الفجر للتهجد، والأذكار بعد الصلاة، والصيام.. وكذلك كان أكثر إخوانه عبادة، وبجده ودأبه أصبح إخوانه متعلمين واعين، بعد أن كان أكثرهم أميين.
وكان عندما يزور المزارعين يساعدهم في السقي وحمل الماء والحراثة كما كان ينهى في خطبه ودروسه رجال القرى عن تشغيل نسائهم بالفلاحة وجلب الحطب.
وطلبت إليه الحكومة تعليم الموظفين العرب، اللغة العربية في الليل.. فرأى أحدهم مرة ثملاً، فصفعه على وجهه وطرده، ورفض التعليم إلا بشرط أن يوافق على كل موظف، وألا يدخن أحد أثناء الدرس.
وكانت طريقته قادرية، ولكنه لم يكن يسير فيها مغمض العينين بل يأخذ منا الخير المفيد مما وافق الكتاب والسنة، ويترك ما رابه منها، ولم يكن يدعو أحداً إلى طريقته، بل كان يحارب البدع ويدعو إلى تركها، وقد أبطل كثيراً مما كان يُصنع على المآذن وفي المساجد من بدع، مما أثار عليه بعض الجهال والمسترزقين بالبدع، فكادوا له حتى عُزل عن الخطابة، ولكنهم خُذلوا، فأعيد رغم أنوفهم، وجربوا سهماً آخر، حين صعد أحد الخطباء مدفوعاً منهم، ولكن الناس أنزلوه، وصعد الشيخ..
وكان لا تأخذه في الحق لومة لائم، فقد طلب منه عندما مات عباس البهاء - وهو كغلام أحمد القادياني رأس فرقة من فرق الضلال التي تتمسح بالإسلام - أن يؤبَنَه، فرفض، فطلبوا إليه أن يخرج على الأقل، فأبى، وخطب منكراً على كل من مشى في جنازته أو حمده. وعند إقامة نصب (عمود فيصل) الذي أقامته الحكومة الانكليزية رفض الحضور أو إلقاء كلمة.
وقامت سنة 1347 ثورة، خُشي معها أن يهجم اليهود يوم الجمعة على الجوامع، فطلب أحد المشايخ من الانكليز حراسة المساجد، فأرسلوا الجنود لذلك، فغضب الشيخ، وخطب بأن المسلمين لا يجوز أن يحفظهم عدوهم الكافر من عدو آخر والواجب أن يحفظوا هم أنفسهم، فحدثت ضجة وطلبه الانكليز فحققوا معه، فأضربت البلد مما اضطرهم إلى إخلاء سبيله.
وتابع الشيخ عمله في الاستعداد حسب خطة محكمة للقيام بحركة للجهاد واسعة، وكانت له قدرة عظيمة على بث دعوته واستمالة الناس إليه بإيمانه الصادق، فكثر أتباعه في شمال فلسطين عامة وفي حيفا خاصة، وكان يذهب إلى كل بلد وقد يقيم في بعض البلدان أياماً، يتعرف إلى الذين لديهم الاستعداد للثورة، فينظمهم، ويجعلهم يشترون للفقراء منهم البنادق التي يحتاجونها، ويعين لكل فئة منهم رئيساً ليتلقى التعليمات والوقت الذي تحدث فيه الثورة، فقد كان في نيته أن تقوم الثورة في كل أنحاء فلسطين بآن واحد.
وعندما رأى سنة – 1354 - أنّ وقت الثورة قد حان، ترك الوظيفة، وخطب في مسجد حيفا خطبة مشهورة، دعا فيها إلى الخروج والقتال، واندفع على أثرها إلى الجهاد مع إخوانه، وكانت لهم مواقف رائعة، وكان مما قاموا به أن قتلوا حاكم لواء الناصرة وبعض كبار قواد الانكليز وكانوا خلال ذلك يتدربون على القتال، ويحثون الناس على الاستعداد وحمل السلاح.
وفي إحدى جولاته مع بعض إخوانه، حيث كانوا يتدربون في الجبال - قرب قرية فقوعة - مر شاويش يهودي مع ثلاثة من الجنود العرب في الطريق، فقال الحارس المكلف بالمراقبة - واسمه محمود السالم - لزميل له - يسمى حسن الباير - أن يخبر الشيخ أن هناك كافراً يمر في الطريق فهل يأمر الشيخ بقتله؟ ولما ذهب هذا وجد الشيخ نائماً، فكَره أن يزعجه زاعماً أن روح كافر لا تستحق إيقاظ الشيخ، فعاد وقال لزميله: اقتله. وعندما استيقظ الشيخ ساءهُ ما فعلوا، وأمر بالانتقال فوراً. وعندما علمت الحكومة بالأمر أخذوا يتعقبونه بقوة كبيرة تزيد على خمسمائة جندي تحوم من فوقهم الطيارات، وتصحبهم السيارات المدرعة، حتى حاصروا المجاهدين في جبال يعبد قرب جنين وطلبوا إليه الاستسلام فأبى، وكان عددهم أربعة عشر رجلاً، ودارت معركة حامية استمرت ثماني ساعات من الفجر إلى العاشرة صباحاً - انجلت عن مقتل أربعة من المجاهدين، هم: الشيخ عز الدين القسام والشيخ عمر حسن السعدي والشيخ يوسف عبد الله والرابع مصري يسمى حنفي. وقبضوا على الباقين ومنهم الشيخ أبو درة، والشيخ داود الخطاب - ويقيم الآن في دوما - وكان ذلك يوم الأربعاء ۲۳ شعبان سنة 1354. وفي اليوم الثاني الخميس، دفن الشهداء بموكب ضخم، وأضربت البلد - حيفا - إضراباً عاماً لم تعرف مثله، وزاد عدد الجماهير التي شيعتهم على ثلاثين ألفاً، وقد خرج الموكب بعد الصلاة عليه في الجامع الكبير عند الظهر فلم يصل إلى المدافن إلا في الخامسة مساءً.
ومما يذكر عن المعركة أن الشيخ أمر بعدم إطلاق الرصاص على رجال البوليس الوطني الذين كانوا في المقدمة ومن ورائهم الجنود البريطانيون، ولما اقتربت القوة العسكرية منهم، ألحوا ثانية على الشيخ بأن يأمرهم بإطلاق الرصاص على الصفوف الأولى فأبى، ولذلك لم يقتل ولم يجرح أحد من الوطنيين وقد قال الشيخ لرجاله: يجب أن لا تطلق رصاصة على أحد من أهل البلاد ولو كان هو البادىء بإطلاق النار علينا.
"ولا تستوي الحسَنَةً ولا السيئة، ادفع بالتي هي أحسن. فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم. وما يُلَقّاها إلا الذين صبروا، وما يُلَقّاها إلا ذو حظ عظيم".
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
وسوم: العدد 860