الشيخ العالم العامل محمد النبهاني
هكذا كان علماء حلب وسوريا .
علماء دين احرار سياسيون اشراف . ابطال عظماء . أصحاب الكلمة في كل الميادين
سيدي الشيخ العالم العامل محمد النبهاني
مهما كتبنا عنك فلن نستطيع ان نوفيك بعض فضلك
ومازال نهر عطائك - رغم مرور خمسين سنة على وفاتك - متدفقا عطاء وحبا وعلما
وفي كل يوم تكبر روافدك لتروي أرض الشام المباركة بطلبة العلم من خريجي مدرستك العامرة .
( سيدي الشيخ رضي الله عنك)
منقول من صفحة الشيخ عثمان عمر المحمد
رجل المواقف ( الشيخ محمد بن أحمد النبهان الحلبي)
عند الامتحان يُكرَمُ المرء أو يُهَان، وحين تتلاطم أمواج الابتلاء تظهر معادن الناس، وهذه صفة سيّدنا النّبهان رضي الله عنه كلما غصّت سوريّا بمحنة أو نـزل بها كرب أو مكر يلجأ إليه علماؤها وأبناؤها ليجدوا الحل الذي يثّبت أوتاد خيمة الحق ويمسك بحبالها .
وان سوريا لتعرف رجل الحق، الذي أرهب الظلمة وقارع الباطل زهاء خمس وثلاثين سنة، فما وهن ولا استكان، القائد الفذّ الذي لا يعرف الخوف، ولا تأخذه في الله لومة لائم، وإذا كان بعض دعاة الإصلاح يهرب من الفتن، فانّه يتصدى لها ويخمدها، ولا يرضى لبعض العلماء تَرْكَ البلاد عند الشدائد، كما انّه يتعشق الشهادة ويقول:
(ابن العشرة لا يموت في التسعة) وكان يقول: (أحبُّ حبيبٍ غائبٍ عني هو الموت!)، ومع هذه الشجاعة النادرة لم يؤلف حزباً أو تنظيماً سياسياً، ولم يتخذ من حزب واجهة له، وما تسبب في موت أحد، لكنّ مواقفه كلّها تندرج تحت عنوان السياسة الشرعية حتى قال عنه البعض بأن الشيخ محمّد النّبهان رجل سياسة لا رجل تصوف!
وقد غفلوا عن معنى السياسة الشرعية وجهلوا تأريخ الصوفية العظام في الجهاد في سبيل الله تعالى، أمثال: العز بن عبد السلام، وصلاح الدين الأيوبي، وعبد القادر الجزائري، وعمر المختار، والإمام شامل النقشبندي، والسلطان العثماني محمّد الفاتح (فاتح القسطنطينية)
وغيرهم كثير، وقد كتب الأستاذ فتحي يكن ( ولم يكن من أتباعه) في سنة 1375 هجرية في عدد ذي الحجة من مجلة الشهاب اللبنانية تحت عنوان : (من كل قطر رجل) قال : " من سوريا الشيخ محمد النبهان العالم الجليل ركن الحركة الإسلامية في حلب يعرفه الناس رائدأ من رواد الصوفية الكبار ولكنهم لم يفتقدوه قط في كل موقف في نصرة الحق بل هو دائماً في الطليعة " . وجميع مواقف السيّد النّبهان رضي الله عنه هي إما ردع لظلم، أو إظهار لحق، أو إخماد لفتنة، أو كبح لفساد.. منها:
* أنه أغلق أسواق حلب خمس عشرة مرة، واحدة منها حِداداً على روح شيخه الشيخ محمّد سعيد أدلبي ـ رحمه الله ـ، وما بقي فاحتجاجاً منه على الحكّام في قضايا مختلفة وكان اسمه ـ رحمه الله ـ يتصدر كل برقية يرسلها العلماء إلى الحكام نصيحةً أو تنديداً أو مطالبةً.
* في سنة 1952/1953م شاع خبر مفاده أن رشدي كيخيا رئيس الحكومة ورئيس حزب الشعب، ينوي إعلان العلمانية في البلاد، فتجوّل ـ رحمه الله ـ في أسواق حلب ونادى بالناس: إذا ما أحد يقتل رشدي كيخيا قتلته بنفسي !!
ولم يكتف بهذا بل ذهب إلى الحي الّذي يسكنه رئيس الوزراء نفسه وقال هناك: لأطبقنّ أضلاعه، ولأدوسنّ رأسه بالنعل .
فسمع رشدي فجاءه إلى المسجد معتذراً وأنكر نيته وعزمه وقال: سيّدي، نعلُك على رأسي.
* وفي تظاهرة صاخبة نظّمها ـ رحمه الله ـ في حلب سنة 1956م خرجت المدينة عن بكرة أبيها، تطالب الحكومة برأس عسكري غير مسلم انتقص من قدر رسول الله صلى الله عليه وسلم في إحدى الصحف ويُدعى (أبو شلباية) لكنّ الحكومة رفضت تسليمه، ولو فعلت لقطّعه الشعب الهائج إرباً إرباً، وإن لم يتوصّل ممثلوا الشعب والحكومة إلى حل سريع فإن المذبحة وشيكة.
أرسلت الحكومة إذ ذاك وفداً لمفاوضة السيّد النّبهان ـ رحمه الله ـ فخرج حتى إذا وصل القلعة: حمل المتظاهرون السيارة التي تقلّه، وبعد أن ترجّل وارتقى شرفة بناية قصر الحكومة المعروفة بالسرّاي المطلة على الجماهير، اقتيد إليه المجرم وأقرّ بفعلته وأظهر ندمه وتوبته، فأشار ـ رحمه الله ـ للناس أن ( تفرّقوا ) وأطلق سراحه .
* وفي سنة 1957م نظّم تظاهرة كبيرة للعلماء تأييداً لثورة الجزائر، حدثنا خطيب المسجد الشيخ محمّد منير حداد أحد المشاركين فيها قال: " خرجت مع سيّدنا رضي الله عنه بجمع علماء حلب وأعيانها من جامع سيّدنا زكريا الكبير بحلب تجاه المحافظة، وكان على المحافظ أن يلقي كلمة ترحيب فتثاقل، وساد صمت وامتعاض، فإذا بسيّدنا رضي الله عنه يصرخ به: قم، جبان!! فانتفض من عقال كبره قائلاً: العفو يا سيّدي، وألقـى الكلمة " .
* وسافر ـ رحمه الله ـ إلى دمشق مرّة بدعوة من رابطة علماء الشام، يرافقه الشيخ محمّد عبد الله الشامي ، فما كان من الشيخ الشامي إلاّ أن ذهب سرّاً إلى سكرتير رئيس الجمهورية شكري القوّتلي فألغى الرئيس مواعيده ليفرغ لمقابلة السيّد النّبهان، وعندما جاء الشيخ الشامي وأبلغ الشيخ ـ رحمه الله ـ بالموعد انتفض قائلاً: (أأذهب لمقابلة القوّتلي؟! بئس العلماء على أبواب الأمراء، إذا كان القوّتلي يريد اللقاء معي فليحضر هنا، أما أنا فلست بذاهب إليه!)..
* وفي سنة 1959 م زار جمال عبد الناصر رئيس دولة الوحدة بين مصر وسوريّا مدينة حلب وأرسل يطلب الاجتماع بسيّدنا ـ رحمه الله ـ في قصر الضيافة، وعلى قاعدة: العلم يُؤتى ولا يأتي(من كلام الشافعي رحمه الله)، ونعم الأمراء على أبواب العلماء، وبئس العلماء على أبواب الأمراء (حديث نبوي) رفض طلبَ عبد الناصر، وأراد ـ رحمه الله ـ لعبد الناصر أن تصيبه (نعم الأمراء على أبواب العلماء) لأن قدوم الأمراء على العلماء ينتج عنه اجتماع واستماع وانتفاع، لكن مستشاره عبد الحكيم عامر حجبه.
* فترة الوحدة بين مصر وسوريّا استُحدِثت وزارة (رعاية الشباب) وسوريّا آنذاك الإقليم الشمالي ومصر الإقليم الجنوبي من الجمهورية العربية المتحدة، فاستضافت مصر صيفاً مائة وخمسين شاباً من سوريّاً، فغرق أحد الموفدين في شاطئ الإسكندرية، إلاّ أنّ السلطة لم تبادر بإرسال الجنازة، واكتفت بإعلام أسرة الفقيد عن طريق تلك الوزارة، لأن نقله لا يمكن إلاّ بطائرة، وما أن بلغ سيّدنا ـ رحمه الله ـ الخبر حتى ثارت ثائرته وطلب من الشيخ محمّد عبد الله الشامي أن يفتح له هاتفاً ليكلّم جمال عبد الناصر، وأثناء المكالمة قيل له: من يريده؟
قال الشيخ الشامي: قولوا له الشيخ محمّد النّبهاني من حلب..
فقالوا: انّه في اجتماع بمجلس الوزراء، هل تكلمون المشير عبد الحكيم عامر؟
قال الشيخ الشامي: سيّدي، هذا المشير على الهاتف..
قال ـ رحمه الله ـ: (كلّمه أنت، فأنا لا أكلم المشير، وليبلغ جمال عبد الناصر: نرسل لكم أبناءنا أحياءاً وتبخلون بإرسالهم أمواتاً)؟
فأجابه: شيخي، بعد ساعتين سيكون عندكم.. فوصلت الجنازة بعد ساعتين، على طائرة خاصة!
* في سنة 1967م ظهرت مجلة الجندي القوات المسلحة التي يحررها إبراهيم خلاص في مقالاً وردت فيه هذه العبارة: (الله، والأديان السماوية دمىً محنطة في متاحف التاريخ)!! فهاجت البلاد وماجت، وكانت للعلماء مواقف شرف في حلب وحماة ودمشق وحمص وبقية المدن، فأدركت الحكومة حجم المأزق، وأرسلت وفداً للمفاوضة مع سيّدنا رضي الله عنه ، حدث الشيخ عبدالكريم الألوسي ـ رحمه الله ـ الّذي رأى وسمع ما جرى للوفد معه قال: كانوا ثلاثةً وزيراً ورئيس المخابرات والمحافظ، فأمضى رضي الله عنه ساعةً يتهدد ويتوعّد، دون أن يستضيفهم بشربة ماء، وجاءه الحاج مصطفى سروجي رحمه الله تعالى بشاي ضيافة للوفد، لكن سيّدنا رضي الله عنه سأله: ما هذا؟
فقال الحاج مصطفى: ضيافة شاي يا سيّدي، فقال رضي الله عنه :
(الضيافة للكريم، وهؤلاء لئام، لا تقدم لهم..!! والله لئن أمرني ربي لأقاتلنّكم بجنود الله بالبعوض والبرغش، أنا لا أقتل جنودنا؛ فهؤلاء أبناؤنا ولكن أقتل نساءكم المتبرجات العاريات، وأضرب كل سبعين منكم برصاصة)!! ..
وانفضّ المجلس عن توقع كارثة، فخرج رضي الله عنه إلى قرية (البويدر) يدبّر أمراً، وأعلنت الحكومة نبأ قتله مكراً وخديعةً، ولم تمض إلاّ أيام حتى انحسم الأمر بالحرب بين العرب وإسرائيل سنة 1967م . حدثنا الشيخ محمّد بن الحاج علي النّبهان قال:
أذكر في سنة 1967م عندما كتب أحد المجرمين الكفرة في سوريّا واسمه إبراهيم خلاّص ( إن الله والأديان والإقطاع ورأس المال..كدمى محنطة في متحف التأريخ! ) كان ـ رحمه الله ـ الأسد الهصور الّذي وقف ليقول إن في الإسلام رجالاً قادرين على حمل لوائه والذود عنه، فألهب مدينة حلب بل سوريّا كلّها!
وارتعدت أوصال الظالمين، فجاءه الشيخ عبدالكريم الألوسي رحمه الله تعالى فبكى عنده! وقال له: إني أخاف عليك منهم، وحبّذا لو كان موقفك أخف أو فيه بعض الليونة! فأجاب رضي الله عنه بكلمة لا أنساها:
(حاج علي، والله إني لأستحيي من الله أن يراني خفت من غيره، أنا لا أعرف الخوف إلاّ من الله تعالى، لأنّه وحده الفعّال لما يريد جلّ جلاله ).
* وأعلن رئيسٌ آخرُ العلمانية (بحسب معلومات مشرفي على خطى الشيخ محمد النبهان الحلبي فإن الرئيس هو أمين الحافظ وهو من حلب أيضاً)، فأرسل رضي الله عنه برقية بجمع من العلماء، تضمنت تهديداً واحتجاجاً شديد اللهجة وأقام محاضرات في المسجد تبين مساوئ العلمانية وتفضح أهدافها في إبعاد الإسلام عن دوره في تسيير نظم الحياة وإدارة شؤون الدولة، لكن المحنة خفّت بعد أن نصّ الدستور على أن يكون رئيس الجمهورية مسلماً.
* وعندما قام حافظ الأسد بإنشاء دستور جديد لم يكن فيه مادة تنص على أن الشريعة مصدر أساسي للتشريع وليس فيه مادة تنص على أن رئيس الدولة مسلم (كان هذا سنة 1973م) ذكر هذا النبأ الشيخ سعيد حوّى رحمه الله تعالى في كتابه هذه شهادتي وهذه تجربتي ص104ـ 109 لدى حديثه عن الدستور الدائم في سوريّا، وسنقتطع من النص ما يناسب المقام، قال رحمه الله:
( أنجز الدستور مجلس الشعب المؤقت، وطرح الدستور على المناقشة العامة، وأعلن أنّه سيصوت عليه من قبل الشعب كلّه..!. قرأتُ الدستور وشعرت بالخطر، فالدستور كان علمانياً..! عندما قرأت الدستور وجدت أنّه لابدّ من عمل، وأن هذا العمل يجب أن يكون باسم علماء سوريّا.
كان خوف الناس من النظام كبيراً، وكان عليَّ أن أهتك عقدة الخوف، وعلماءُ سوريّا بطبيعتهم حذرون، فكيف نجمعهم على موقف سياسي موحد؟
ومن الّذي يجرؤ أن يكون هو البادئ؟
كان الأمر في غاية الصعوبة.... بعد أن قررت العمل كتبت بياناً عاماً في مناقشة الدستور، وكتبت صيغة فتوى قصيرة في شأنه، بين يدي محاولتي إقناع من أستطيع إقناعه من العلماء وبالتوقيع على هذا وهذا.
كان المهم عندي أن يبدأ أحد العلماء بالتوقيع الأول، ولم يكن في سوريّا أجرأ من الشيخ محمّد النّبهان رحمه الله في حلب.. تأخّر جواب شيوخ حلب عدة أيام، ثمّ جاء أحدهم ومعه الفتوى والبيان، موقعين من حوالي ثلاثة عشر شيخاً هم أكابر شيوخ حلب، والّذي جرّأهم على التوقيع هو اسم الشيخ محمّد النّبهان عندما رأوه على البيان والفتوى.).
تعليقنا: هذا هو الشيخ محمد النبهان الذي نتبعه ونسير على خطاه ، هذا هو الشيخ الذي لا يرهب من كلمة الحق ولا يخاف الموت ، فما بالنا تغيّرنا بعد شيخنا ؟ لن نكون مثله هذا صحيح ولن نكون بمستوى شجاعته هذا صحيح لكننا إن لم نستطع فعل ما فعل فعلى الأقل لا نسير في ركاب الظالم وندعو له ونخاف منه ونخشى الناس والله أحقُّ أن نخشاه !
مراجع هذه المعلومات: السيد النبهان للشيخ هشام الآلوسي الطبعة الأولى والطبعة الثانية بتصرف يسير وأغلب المعلومات منه ـ
منقول من صفحة على خطى الشيخ محمد النبهان الحلبي
وسوم: العدد 883