الإمام الداعية المرشد عمر عبد الفتاح التلمساني
(1322 ـ 1406هـ = 1904 ـ 1986م)
مقدمة:
ليس بوسع مؤمن يهمه أمر الإسلام والدعوة إليه، وتقصي أحوال دعاته أن يجهل اسم هذا الداعية، الذي قدّر له أن يحمل أمانة القيادة لأكبر حركة إسلامية عرفها هذا القرن.
ولولا إلزامية المنهج بضرورة التعريف بالمترجم تعريفاً يحيط بشأنه وبيئته ومؤثرات حياته، على وجه يقرب صورته (الشخصية) من أذهان القراء، لكان عليّ أن أباشر الحديث عنه دون أي مقدمة اعتماداً على معلوماتهم الذاتية عنه .. هذا إلى أن في مثل هذه المقدمات المنهجية فائدة تتيح لمطالع الترجمة الإلمام بملابسات الأحداث والأسباب التي ساعدت على تكوين الاتجاهات النفسية والفكرية التي ميزت صاحبها على اختلاف الأحوال.
بعد وفاة المرشد العام الأستاذ حسن الهضيبي رحمه الله في 11 آب 1973م تولى بعده بصورة علنية الأستاذ عمر التلمساني مرشداً عاماً ..فقد كان قانون الهيئة التأسيسية ينص على أن يتولى أكبر أعضاء مكتب الإرشاد سناً إدارة شؤون الإخوان في حال غياب المرشد.
ولقد أدى الأستاذ عمر عبد الفتاح التلمساني دوراً كبيراً في إعادة الجماعة إلى مسارها، وفي توضيح فكرها الوسط البعيد عن التطرف، والسير بها في ظروف غاية في الصعوبة والتعقيد مما جنبها كثيراً من المزالق والفتن.
ولا بأس أن نلقي بعض الضوء على حياة شيخنا الجليل الأستاذ عمر التلمساني.
وهي نسبة تشعرنا بأن أصوله القريبة وافدة إلى مصر من تلمسان الجزائرية، وأؤكد على قربها لما أراه في خطه من الطابع الأندلسي المحافظ على خصائصه حتى في شكل الحروف وطريقة التنفيذ، مما لا يتوافر لجزائري قديم الهجرة في العادة، أو لعل في ذلك دليلاً على شدة ارتباط الأسرة بالوطن الأول، ارتباطاً يحفظ على أفرادها مميزاته الأصلية.
هو عمر بن عبد الفتاح بن عبد القادر بن مصطفى التلمساني.. أحد رجال الجماعة الأول، ارتبط بالإمام حسن البنا منذ رحيل الأخير إلى القاهرة سنة 1932م.
اختير بمكتب إرشاد الإخوان منذ تأسيسه عام 1933م.
وكان له دور كبير في التغلب على الفتنة التي كادت أن تعصف بالصف الإخواني لاختلافهم على من يخلف الإمام الشهيد، وكان دوره دور الموفق بين الآراء حتى تمَّ اختيار الأستاذ حسن الهضيبي .
يرجع إليه الفضل في تجديد شباب الجماعة، وقد توسعت في عهده الحركة الإسلامية، وسيطرت على النقابات، ودخلت الانتخابات، وتحالفت مع الأحزاب الأخرى ....فمن هو عمر التلمساني، وماهي سيرة حياته، وما هي صفاته وأخلاقه .
- مولده، ونشأته:
ولد الأستاذ المحامي عمر عبد الفتاح التلمساني في حارة حوش قدم بالغورية قسم الدرب الأحمر في حي سيدنا الحسين بالقاهرة في 4 نوفمبر/تشرين الثاني 1904م، ونشأ في بيت ثراء. كان جده لأبيه سلفياً من بلدة تلمسان بالجزائر، قد طبع العديد من كتب الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وقد جاء إلى القاهرة، واشتغل بالتجارة. وقد رزق من زواجه بأربعة أولاد: ذكرين، وبنتين.
فنشأ عمر التلمساني في جو بعيد عن البدع، صافي العقيدة، وقد طرق سمعه اسم ابن تيمية وابن قيم الجوزية.
الدراسة، والتوظيف:
درس مراحل التعليم المختلفة في مدارس القاهرة، وتلقى دراسته الابتدائية في مدارس الجمعية الخيرية، ثم التحق بالمرحلة الثانوية بالمدرسة الإلهامية، ثم انتظم في كلية الحقوق، وبعد التخرج سنة 1931م اتخذ له مكتباً للمحاماة في شبين القناطر، وانضم إلى جماعة الإخوان المسلمين، وكان أول محامٍ ينضم للجماعة، ويقف فكره وجهده دفاعاً عنها، كما كان من المقربين من الإمام الشهيد حسن البنا، يصحبه في أسفاره وجولاته داخل القطر المصري، ويستعـين به في الكـثير من الأمور.
فبقي يشتغل بالمحاماة في شبين القناطر حتى عام 1954م حيث حلت الجماعة ودخل السجن.
الانتماء إلى الإخوان المسلمين:
التقى عمر التلمساني عام 1933 بحسن البنا مؤسس جماعة الإخوان المسلمين في منزله وبايعه.
اختير عضواً بمكتب إرشاد الإخوان منذ تأسيسه عام 1933م، وقد كان للتلمساني منذ توليه منصب المرشد العام سنة 1974خلفًا لحسن الهضيني دور مهم في استقرار جماعة الإخوان المسلمين في مصر.
وكان له دور كبير في التغلب على الفتنة التي كادت أن تعصف بالصف الإخواني لاختلافهم على من يخلف الإمام البنا وكان دوره دور الموفق بين الآراء حتى تم اختيار الأستاذ حسن الهضيبي.
كما تمَّ في عهده نوع من التعاون بين السادات والإخوان في محاربة التيار الشيوعي والاشتراكي بعد أن اختار السادات التوجه نحو الغرب.
دخول السجن:
دخل عمر التلمساني السجن 4 مرات:
الأولى بعد مقتل الإمام حسن البنا وحل النقراشي جماعة الإخوان المسلمين عام 1949م، وقد كان يقوم بنفسه في التنظيف، ويخدم نفسه بنفسه، وقد ذكره، وأثنى عليه د. أحمد الشرباصي في مذكرات واعظ أسير في أكثر من موقع.
وسجن مرة أخرى في عهد الطاغية جمال عبد الناصر عام 1954. وقدم للمحاكمة في قضية الإخوان الشهيرة وحكم عليه بخمسة عشر عاماً، قضاها كاملة في السجن بالإضافة إلى عامين قضاها في المعتقل.
وبعد خروجه من السجن عام 1971م كتب شهيد المحراب عمر بن الخطاب، والملهم الموهوب أستاذ الجيل حسن البنا.
وكان يكتب في جرائد ومجلات الإخوان منذ صدرت جريدتهم الأولى التي أسسها الإمام حسن البنا عام 1933م ومن أشهر ما كتب سلسلة مقالات في السنوات الأولى للجريدة بعنوان (الإخوان المسلمون: فكرة ومبدأ وعقيدة).
وعندما قامت حرب 1956م وهو في سجن الواحات، تقدم مع إخوانه بطلب إلى مأمور السجن يطلبون أن تتاح لهم فرصة الدفاع عن البلاد، والجهاد في سبيل الله، فرفض عبد الناصر.
وبعد خروجه من السجن أشرف على تفعيل مجلة الدعوة، التي كانت صوت الإخوان قبل خلافهم مع رجال الثورة، واستمر الأستاذ صالح عشماوي في إصدار بضع مئات من الأعداد كل فترة حتى لا تغلق ..فلما خرج التلمساني من سجنه أشرف على المجلة وفعّلها عام 1976م، وفي الفتنة بين المسلمين والأقباط في عهد السادات عام 1981.
ثم دخل السجن مرة ثانية في عهد السادات عام 1984.
لقد عاش الأستاذ التلمساني الرجل الذي يتزعم أقوى التيارات الدينية والسياسية في مصر معيشة الزهاد في بيت شديد التواضع، وعندما زاره أحد الصحفيين في جريدة اليمامة السعودية 14 / 1/ 1982م قال: لم أكن أتصور أن هذا الرجل الذي يحرك جموع الشباب المسلم بكلماته يسكن في هذا المنزل شديد التواضع، ويعيش هذه الحياة القاسية.
خروجه من السجن:
عندما أخرج السادات الإخوان من السجون، كتب الأستاذ عمر التلمساني كلمة يشكره فيها على صنيعه جاء فيها: ( لقد أفرج السادات عن جميع المعتقلين ..وهذه حسنة، وأفرج عن الكثيرين من المسجونين السياسيين قبل انتهاء مددهم ..وهذه حسنة، وأشاع الأمن في النفوس بعد أن افتقدته طويلاً...وهذه حسنة، ورد للذين حيل بينهم وبين أموالهم ..وهذه حسنة وأعاد للقضاء حريته وكرامته..وهذه حسنة، وأرجع المفصولين بالأوامر الإدارية إلى وظائفهم..وهذه حسنة ، وأطلق للصحافة النظيفة كلمتها...وهذه حسنة وعامل الطلبة جميعاً بالكلمة الطيبة والموعظة الحسنة ...وهذه حسنة ، وغيرها حسنات وحسنات ..فما بالنا لا نقول أحسنت ورسولنا صلى الله عليه وسلم يقول : من لم يحمد عدلاً، ويذم جوراً لقد بارز الله بالمحاربة ).الأهرام المصرية : 13/ 3 / 1974م.
وتلت ذلك أعوام من التعاون الحذر بين الإخوان وبين النظام، فقدم الرئيس الجديد عدة تنازلات دستورية منها قبول الشريعة كمصدر رئيس للتشريع في مصر .
ولكن دون أن يستتبع ذلك مراجعة حقيقية للقوانين السارية. ولم يصل الحد إلى إلغاء الحظر المفروض على التنظيم، فكان بذلك مسموحاً به ولكن دون اعتراف رسمي فكأنه نصف موجود فلا يمكنه كمؤسسة أن يصل إلى الأجهزة التشريعية.
وانتهز الإخوان هذه الفرصة لإعادة بناء هياكلهم التنظيمية ..ونشر مطبوعاتهم، والتعريف بدعوتهم بين الأجيال الصاعدة. في أحاديثهم عادت تعاليم حسن البنا ترتفع فوق أفكار اليسار التي ملأت الساحة لمدة عشرين سنة.
مؤلفاته:
ترك الأستاذ عمر التلمساني وراءه عدة كتب نذكر منها:
1-ذكريات لا مذكرات.
2-شهيد المحراب.
3-حسن البنا الملهم الموهوب.
4-بعض ما علمني الإخوان.
5-في رياض التوحيد.
6-المخرج الإسلامي من المأزق السياسي.
7-الإسلام والحكومة الدينية.
8-الإسلام ونظرته السامية للمرأة.
9-قال الناس ولم أقل في عهد عبد الناصر.
10-من صفات العابدين.
11-يا حكام المسلمين .. ألا تخافون الله ؟!
12-لا نخاف السلام ولكن.
13-الإسلام والحياة.
14-حول رسالة نحو النور.
15-من فقه الإعلام الإسلامي.
16-أيام مع السادات.
17-آراء في الدين والسياسة.
الشخصية المتوازنة:
لقد مثل فى حياتي تحولاً كبيراً حيث رأيت فيه شخصية إسلامية متكاملة خلقاً وعلماً وثقافة وحركة، وإليك بعض ما عايشته وسمعته من سيرته العطرة في عناوين سريعة.
تعامله مع زوجته:
1- عهد الزوجية الخالد، دعونا الاستاذ عمر بالإسكندرية لإلقاء محاضرة بمسجد عصر الإسلام سيدى جابر، وكان ذلك في أوائل الثمانينات من القرن الماضي ( القرن العشرون ) وكنا في شهر رمضان، وفى هذه الليلة أستضافنا المهندس/طلعت مصطفى للإفطار في منزله وحين قدم إلينا مشروب عصير المانجو قبل الإفطار مباشرة اعتذر الأستاذ/ عمر عن شربها وطلب مشروباً آخر وحين سأله أحد الحاضرين عن الأسباب التي تمنعه عن شرب المانجو هل هو يمتنع عن شربها لأسباب صحية أم أنه لا يحبها ؟ اجاب بأن السبب ليس له علاقة بصحته بل هي أحب العصائر لديه، وهنا أصر الحاضرون على معرفة السبب الحقيقي لعدم شربه عصير المانجو، وهنا أباح بالسر قائلاً: كنت أريد أن احتفظ بهذا السر الذى بينى وبين ربى ، أما وقد أصررتم على معرفة الحقيقة فسوف أنزل على رغبتكم، لقد تعودت مع زوجتي رحمها الله بعد عودتي من عملي مساء أن نصلى سوياً كل ليلة ركعتين طويلتين أو قصيرتين قيام ليل، ثم بعدها نتناول سويا عصير المانجو، وهو العصير المفضل لدينا، فلما توفيت عاهدت الله ألا اشرب هذا العصير المحبب إليها إلا معها في الجنة.
(يا له من وفاء خالد أحسست ساعتها أنى تعلمت درساً عملياً راقياً في الأخلاق يذكرنا بوفاء معلمه ومعلمنا وقدوتنا نبينا الكريم سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم لزوجه /خديجة رضى الله عنها بعد وفاتها وباقي زوجاته الكرام بل ومع كل من تعامل معه ممن عاصروه)
حبه لزوجته يسرى في كل ما تلمسه يداها، حكى لي الأستاذ الفاضل إبراهيم شرف رحمه الله وكان مرافقاً للأستاذ عمر -رحمه الله- أن الأستاذ سأله يوماً يا أستاذ إبراهيم هل البيض المسلوق دليل على مهارة المرأة في الطهى ؟ قال : لا يا أستاذ ، فقال: ولماذا يا إبراهيم البيض المسلوق من يد زوجتي أحلى بكثير من أي بيض مسلوق آخر .
( تأمل في مدى ما يمكن أن يصنعه الحب بين االزوجين من حياة حلوة سعيدة)
الزوج ذو الخلق يعاقب زوجته:
سجن الأستاذ/ عمر في مستشفى استقبال طره في إحداث التحفظ التي قام بها السادات في سبتمبر عام 1981 وصاحبه في المستشفى عدد من الجنائيين أصحاب الحظوة بالوساطة أو المال، وكانوا يقومون بخدمته لكبر عمره الذى قارب الثمانين عاماً، ولسمو أخلاقه، فأحبوه حباً شديداً وكانوا يطلقون عليه لقب ( جدو عمر ) وفى إحدى لقاءات التسامر ليلاً سألوه ( يا جدو عمر ألم يحدث بينك وبين زوجتك مشاكل أبداً ؟ قال :وهل يوجد زوجان لا يحدث بينهما خلاف؟، فسألوه لما تزعلك زعل شديد ماذا تفعل معها ؟– قال أعاقبها عقاباً شديداً, فانتابتهم الفرحة ليعرفوا ما هو نوع العقاب الذى كان ينزله هذا الرجل الطيب بزوجته في حال غضبه؟ ، فقالوا تعاقبها بضربها قال: يا أبنائي هل يوجد رجل ذو رجوله وخلق يضرب زوجته! أدهشتهم الإجابة فقالوا إذا تسبها، قال : يا أولادي هل يوجد رجل ذو رجولة وخلق يسب زوجته!، فصاحوا في حدة إذا كيف تعاقبها ؟... قال أتركها تعدّ الطعام وبعدها أرفض تناول الطعام الذى تعبت في طهيه، واستعيض عنه بأكل العيش والجبن، وهذا العقاب يجعلها تظل تبكى طالبة العفو عنها راجية منى ترك ما أتناوله من طعام لآكل من الطعام الذى أعدته لإسعادي متعهدة بألا تكرر خطأها مرة أخرى . وكان جوابه غريباً على مسامع رفقائه الجنائيين الذين تعودوا سبّ زوجاتهم وإهانتهن وضربهن لأتفه الأسباب، فكان درساً يتندرون به فيما بينهم ويحكونه لذويهم.
معاملته مع منتقديه ومنتقدي جماعته:
دخل الأستاذ عمر التلمسانى يوماً مكتبه الكائن 1 ش سوق التوفيقيه القاهرة ليجد عدداً من الإخوان ثائرين بسبب مقالة كتبتها السيدة / أمينة السعيد تنال فيها من الإخوان المسلمون، وكانت المقال الأولى من سلسلة مقالات اعتزمت كتابتها في مجلة روز اليوسف الأسبوعية المصرية، وعندما جلس الأستاذ، وعرف سبب هذه الثورة، قام بقراءة المقال كاملاً، ثم اتصل بها هاتفياً، وسمعه الإخوان يقول لمن على الطرف الآخر السيدة أمينة ؟ أنا عمر التلمساني، هل يسمح وقتك باستضافتي لأشرب معك فنجان قهوة أين ؟ ومتى ؟ وما هو الوقت المتاح لهذا اللقاء ؟ اشكرك اشكرك .
وثارت ثائرة الإخوان مرة أخرى صاحوا قائلين: السيدة أمينة ! تريد أن تذهب إليها، نحن لا نوافق على ذهابك لأنك لا تمثل نفسك أنت رمز الاخوان المسلمين جميعاً ! , لكن الأستاذ أصرّ على موقفه وأنه على استعداد أن يذهب لمناقشة أي منتقد للإخوان، وتوضيح الصورة له مهما كلفه ذلك قائلاً لهم: إن كنتم تريدون مرشدًا يوضع فى فترينة قابعاً في مكتبه وعلى الآخرين الإتيان إليه حفاظاً على مكانته ومكانة الجماعة، فابحثوا لكم عن مرشد غيرى، إن نبينا وقدوتنا محمد -صلى الله عليه وسلم - كان يذهب بدعوته إلى كل مكان، ويتوجه بها لكل إنسان، وتعرض في سبيل ذلك لكثير من الأذى والمعاناة، فمن أنا من نبينا وحبيبنا رسول الله!. وبالفعل ذهب الأستاذ، وقابلها، وحاورها، وظهرت نتيجة اللقاء في مقالها الثاني بذات المجلة بعنوان: ( مقابلة كريمة مع رجل كريم ) وصفت فيها مدى علم الرجل وخلقه وثقافته وعل إثر هذه المقابلة أوقفت السيدة أمينة سلسلة المقالات التي كانت تعتزم كتابتها ضدّ الإخوان .
. وبعدها بسنوات حدث موقف مشابه مع الأستاذ/ابراهيم سعده حينَ كتب بصحيفة أخبار اليوم الأسبوعية، وكان رئيساً لتحريرها مقالاً بعنوان (أعداء الأمس أصدقاء اليوم) حمل فيه على تحالف الإخوان مع الوفد على قائمة واحدة في انتخابات مجلس الشعب عام 1984زاعماً أن الإخوان تخلوا عن مبدأهم بتحالفهم مع حزب علماني، كما أن الوفد تنازل عن خطه العلماني بتحالفه مع جماعة دينية، واصفاً هذا الموقف منهما أنه تغليب للمصالح الآنية المرحلية على المبادئ الأصيلة.
وفور نشر هذا المقال اتصل به الأستاذ/ عمر التلمساني، وقام بزيارته في مكتبه بمبنى أخبار اليوم حيثُ استقبله الأستاذ / إبراهيم سعدة خير استقبال، وبعد حوار ونقاش طويل . خرجت جريدة أخبار اليوم السبت التالي، ومقال الأستاذ/ إبراهيم سعده يحمل عنواناً يماثل تقريباً نفس العنوان الذى كتبته الأستاذة/ أمينة السعيد ( مقابلة كريمة مع رجل كريم).
(ليترك الأستاذ للإخوان دروساً في التعامل الصحيح مع المخالفين لهم في الرأي)
الأستاذ عمر التلمسانى: المنفتح على المجتمع:
كان الاستاذ عمر صاحب قلم ومقال يكتب إلى كافة الصحف، والمجلات المحلية، والعربية، والأجنبية يجيد اللغة العربية والإنجليزية والفرنسية واسع الإطلاع فى كافة المجالات العلمية والفنية، وكان يحرص -رحمه الله- على حضور الندوات واللقاءات والمحاضرات مستمعاً ومناقشاً ومحاوراً قدّم من خلال كتاباته الأفكار والمعاني والمبادرات حتى آخر لحظة في حياته كان يكتب، فقد قمت بزيارته، وهو في مرضه الأخير في مستشفى كليوبترا بمنطقة مصر الجديدة بالقاهرة، وكانت تعتريه حالات إغماء بين الحين والحين. فإذا أفاق نادى الأستاذ/ إبراهيم شرف ليناوله الأوراق والقلم؛ ليكمل مقاله الذي كان يكتبه قبل إغمائه
الأستاذ عمر يواجه الرئيس السادات في الإسماعيلية:
دعاه يوماً الرئيس الراحل أنور السادات الى لقاء عقد بالإسماعيلية دعا إليه المسئولين ورموز المجتمع المصري .. ويومها نال الرئيس السادات من الإخوان المسلمين في كلمته .. وبعد انتهاء الكلمة طلب الأستاذ/ عمر الحديث في شجاعة، وبعد أن أذن له في الحديث قال كلماته الحكيمة أتذكر منها قوله ( يا ريس الله يعلم كم سأمكث في فراشي مرضياً بسبب نيل سيادتكم من الإخوان، لو كان الذى قال ذلك أحد غير الرئيس السادات لشكوته للرئيس السادات، أما وأن الرئيس السادات هو الذى قال ذلك فأنا اشتكيك إلى الله، وهنا ارتفع صوت السادات قائلاً اسحب شكواك يا عمر أنا بخاف من ربنا.
فرد الأستاذ/ عمر يا ريس أنا شكوتك لحكيم عادل لا يظلم عنده أحد، ( وبعد انتهاء هذا المشهد راح رواد المقهى والناس جميعاً يصفقون للأستاذ /عمر إعجاباً بشجاعته، وفصاحته، وقوته أمام رئيس الجمهورية، فكان درساً في الشجاعة والاحترام واللباقة).
الأستاذ عمر وعنايته بالشباب:
كان الأستاذ ينظر إلى الشباب نظرة احترام وتقدير، وكان يحملهم المسئولية، ويزرع فيهم الثقة بالنفس، ويستمع لنصائحهم وأفكارهم، ويسعد بها، ويأخذ بالصائب منها، وكثيراً ما كان يدفع بهم إلى الواجهة
ومن أمثلة ذلك أنه عقب إعلان الشيخ/حافظ سلامة عن مظاهرة مليونية بالمصاحف للمطالبة بتطبيق الشريعة الاسلامية من مسجد النور الذى أشرف على بنائه، (و قد كان الشيخ حافظ سلامه ذائع الصيت خاصة بعد أن قاد المقاومة الشعبية في السويس في مواجهة الصهاينة عام 1973 ورفض تسليمها لليهود)، تلبدت الأجواء السياسية بالغيوم، واستعد النظام ليبطش بالإسلاميين، لم يكن الإخوان موافقين على هذه الطريقة، ولا على المظاهرة فشكلنا لجنة نحن شباب الإخوان لمقابلة المسئولين، وكبار الصحفيين والسياسيين لشرح الموقف وتهدئة الأوضاع، وكان ذلك بتشجيع كامل من الأستاذ /عمر التلمساني شخصياً أذكر من أفراد هذه المجموعة ( د . عبد المنعم أبو الفتوح، د . عصام العريان، أ/ مختار نوح، أ . محمد عبد القدوس، م / أبو العلا ماضي، د . محمد عبد اللطيف، م / خالد داود، إبراهيم الزعفراني )، وكان يرتب لهذه اللقاءات الأخ الفاضل الأستاذ /محمد عبد القدوس، والذى يلقى احترام من الصفوة والمثقفين في مصر، وكنا نلتقي بالأستاذ/ عمر بعد كل لقاء، وكان دائم التشجيع لنا والثناء على حواراتنا مع من قابلناهم، وكانت له بعد الاستدراكات اللطيفة مثل قوله: لماذا تقولن للآخرين أنتم تظلموننا الأفضل أن نقول لهم: أنتم لم تنصفونا ؟ والمعنى واحد لكن هذه عبارة أرق، وفى موقف آخر حين تقابلنا مع الأستاذ إبراهيم نافع بصحيفة الأهرام، وأغلظ معنا في الحوار، وعدنا لمقابلة الأستاذ عمر، وعرف أننا لم نواجهه بكلمات قوية تتناسب مع الموقف ناشدنا قائلاً: عيشوا شبابكم عبروا عبروا عن أنفسكم بما يناسب مرحلتكم العمرية من القوة والحماس أنا لا أستطيع أن أقول ما تستطيعون قوله بسب موقعي ومسؤولياتي .
ومن بين عنايته بنا كشباب ترشحت مع الأستاذ/محمد المراغي على قائمة حزب الوفد بالإسكندرية عام 1984 وقد أقمنا مؤتمراً حاشدنا بميدان محطة مصر، وكان يجلس في الصف الأول، وامتد وقت المؤتمر إلى قرب منتصف الليل، وكان يلتحف بعبائته من البرد، فأشفقت عليه، فاقتربت منه طالباً منه أن أتنازل عن كلمتي في البرنامج اكتفاء بكلمة الأستاذ /المراغى كممثل عن مرشحي الإخوان (حيث كان الاستاذ/عمر آخر المتحدثين)، فعاجلني بقوله: هل اشتكيت لك؟ ألا تعلم أني في انتظار كلمتك مهما طال الوقت ؟ إن سعادتي أن أعيش إلى أن أرى وأسمع شاب من الإخوان في مثل عمرك يخاطب هذه الجماهير (وكان عمرى وقتها 32 عاما) مجدداً شباب الإخوان.
ومن المواقف التي لا أنساها اعتصام لطلبة المدينة الجامعية بالإسكندرية عام 1978شارك فيه جميع الطلاب داخل المدينة احتجاجاً على طرد بعض زملائهم من المدينة بسبب افكارهم الإسلامية، فامتنع الطلاب جميعاً عن تسلم الطعام، وافترشوا البطاطين في حدائق المدينة، وكان يبيتون خارج غرفهم، وكان أهالي المناطق المجاورة يشاطرون الطلاب بإرسال الأطعمة من المنازل المحيطة للطلاب المعتصمين، واتصل الأستاذ / عمر للتوسط لإنهاء الاعتصام لكن الاعتصام استمر فطلب الأستاذ أحد الطلبة القيادين فذهبت لمقابلته بالقاهرة وحين دخلت سلمت عليه وجلست إليه فقال : يا إبراهيم هل أنت من الإخوان؟ قلت :نعم وغضبت في نفسى من سؤاله هل يلزم أن اكون قد سبق لي أن دخلت السجن لأحظى بشرف أن أكون من الاخوان !وعزمت في نفسى ألا أحضر أمامه مرة أخرى !،ثم قال: أرى أن تفضوا الاعتصام، وأرجو أن تقوم بدور مشكور لإقناع إخوانك بذلك، ولما رأى منى الاستجابة اذا به يغمرني بدعائه قائلاً: الله يسعدك الله ينور لك طريقك الله يجعل لك في كل خطوه سلامه، وظل يدعو لي حتى أذابني في حبه واحترامه بعد غضبى منه في بداية حديثه معي، ثم أدار الأستاذ/عمر قرص التلفون، واتصل بلواء بأمن الدولة في مبنى لازغلى وقال له ان د/ ابراهيم حضر ممثلاً عن إخوانه بالإسكندرية، وقد اتفقت معه على أن يبذل وسعه في إقناع إخوانه بفض الاعتصام، وسيحضر لمقابلتك في مبنى لازغلى، عجبت من هذا القائد الذى واجهني في أول اللقاء بحزمه يضع فيّ هذه الثقة وأنا في هذه المرحلة السنية لمقابلة والحديث مع لواء بأمن الدولة باسم الإخوان، فأعددت نفسى لكون على المستوى الذى وكأني به أستاذي، ولكن اللواء أصرّ على الحضور بنفسه إلى مقر الإخوان، وبعد قليل حضر ضباط أمن الدولة إلى مكتب الإخوان بالتوفيقية، وحرص الأستاذ على أن يتم الحوار مباشرة بيني وبين اللواء دون تدخل منه، وكنت منطلقاً بحريتي أتحدث مع اللواء قائلاً له لماذا تواجهون الطلبة المعتصمين بهذا التجاهل، والعناد، وهم أصحاب حق ؟ قال اللواء: لأن الاعتصام ليس هو الطريق الصحيح للمطالبة بالحقوق !، حينها صحت في وجهه قائلاً: لقد سلكوا كل الطرق الرسمية فلم تجدِ شيأ، بعدها قاموا بالاعتصام السلمي دون اتلاف أو إهانة لأحد كان الأولى بسيادتك أن تذهب إلى الإسكندرية، وتناقش الطلاب، فإن كانوا محقين أعدتهم إلى مدينتهم شاكراً لهم رفع صوتهم مطالبين بحقوقهم، أم انك تريدهم طلبة خانعين تسلب حقوقهم، وليس أمامهم إلا توسل المسؤولين، أو التنازل عن أفكارهم وأنشطتهم ؟ لماذا لا تشجعون الشباب على أن يكونوا أحراراً ثواراً من أجل حقّهم ما داموا لم يتلفوا شيئاً، ولم يهينوا أحداً ؟ ، كل ذلك والاستاذ /عمر يستمع تاركا الفرصة لي أحاور و أعبر عن رأي بما يتناسب مع مرحلتي العمرية وطبيعتي في مواجه ضابط أمن الدولة، وحين قلت للواء أن عدم عودة هؤلاء الطلاب إلى المدينه الجامعية قد يتسبب في تشريدهم بسبب ضيق ذات اليد، هنا انفعل الأستاذ /عمر قائلاً: إخوانى وأخواتك لن يتشردوا ولن يجوعوا أبدا يا ابراهيم بيتي وبيتك مسكن لإخواتنا يا إبراهيم لقمتي ولقمتك طعام لإخواتنا يا إبراهيم، وظل يكررها مراراً. وكنت أسمع هذه الكلمات وأنا أشعر بمنتهى العزة والقوة لتعبير تلقائي عن دلالات الأخوة والتكافل داخل مجتمعنا الإخواني، ( وعدت إلى الإسكندرية، وأنا أحمل مزيداً من الحب والاحترام لهذا الرجل الذى غمرني بدعواته وثقته التي أولاني إياها واعتزازي بمعنى الأخوة، كل هذه الدروس التي تعلمتها في هذا الموقف الذى لا يزال منطبعاً داخلي ).
الأستاذ عمر والاتجاه بالإخوان إلى طريق المشاركة السياسية:
لقد كان الأستاذ عمر من اكبر المشجعين للشباب والإخوان للاندماج في المجتمع والمشاركة في الاتحادات الطلابية والنقابات المهنية وانتخابات مجلس الشعب. ولقد كان عنصرا اساسيا في عمل تحالف انتخابي مع حزب الوفد الجديد عام 1984 رغم العداء التاريخي بين الإخوان والوفد ورغم معارضة عدد كبير من الاخوان لهذا التحالف، وظل محافظاً على هذا التحالف رغم ما قام به الوفد من الاخلال بعدد مقاعد الإخوان الذين مثلوا في رؤوس القوائم عن العدد المتفق عليه، وهو 32 رجلاً على مستوى الجمهورية، ولم يوفوا الا بثمانية أفراد مقاعد فقط .
وكانت كلمته الشهيرة لمن أرادوا فضّ التحالف من أجل هذا الموقف من جانب الوفد (لو لم يضع الوفد أحدًا من الإخوان على قوائمه فسوف ننتخب الوفد، وذلك من أجل إثراء الحياة السياسية بمصر، ولو على حساب الإخوان، فليس من مصلحة مصر أن يستأثر الحزب الوطني بالساحة السياسية وحده (هذا رجل صاحب رؤية يرى مصلحة الوطن مقدمة على مصلحة آنية لجماعته
وكان لا يحب مصطلح المعركة الانتخابية وكان يسميها منافسة انتخابية، تأسيا بقوله تعالى ( وفى ذلك فليتنافس المتنافسون)، ولقد نهج الاخوان من بعده نهج المشاركة في الحياة العامة والميدان السياسي بتحالفهم الإسلامي مع حزبي العمل والأحرار في انتخابات مجلس الشعب عام 1987والمشاركة في انتخابات النقابات المهنية بعد هذا التحول الكريم الذى كان رحمه الله حجر الزاوية فيه.
الأستاذ عمر التلمساني وغزو أفغانستان:
بعد غزو الاتحاد السوفيتي لأفغانستان ووقوف الأنظمة العربية مكتوفة الأيدي أمام هذا الاحتلال الفاجر الذي أزهق أرواح مئات الآلاف من المسلمين المجاهدين أعلن أ /عمر التلمساني (رحمه الله) المرشد العام للإخوان المسلمين في ذلك أعدّ استمارات يملأها الراغبون من الشباب وغيرهم للجهاد مع إخوانهم المسلمين ضدّ الغزو الروسي لأفغانستان .
جمع خلالها مئات آلاف من الطلبات من مختلف المحافظات وتقدم بطلب إلى السلطات المصرية لتدريب هؤلاء الشباب والسماح لهم بالسفر للقتال في أفغانستان، وقوبل طلبه بالرفض طبعاً.
وقتها جمعني معه لقاء بالإسكندرية حيث حضر لإلقاء حديث الثلاثاء في مسجد عصر الإسلام (سيدي جابر).
حيث سالت فضيلته عن أسباب قيامه بهذا العمل مع انه كان يعلم يقينا ان النظام المصري لن يوافق علي ذلك
فأجابني قائلاً : بان ما فعلته كان له فوائد متعددة
أولها: أنه كان إعلان عن أن أمه الإسلام أمة واحدة لا يحجز بينها الأوطان ولا الألوان ولا اللغات .
ثانيها: انه كان احياءً لفريضة الجهاد التي يراد لها أن تموت في عقول وقلوب المسلمين (يقصد الجهاد ضد الكفار المحتلين)
ثالثها: انه إحراج للنظام الذي وقف مكتوف الأيدي حيال احتلال أفغانستان البلد المسلم حيث يري عمليا صوت شعبه يناديه بالتحرك.
رابعها: انه اختبار لحياة هذا الشعب المصري وخاصة الشباب منه ومدي حبه لدينه واستعداده لافتدائه.
خامسها: انه اختبار وامتحان لكل فرد منا يزعم انه يحب الله اكثر من حياته فهو أثناء ملئه للاستمارة ستحدثه نفسه بكل العوائق والمخاوف والأربطة التي تشده إلى الدنيا فان استطاع التخلص منها وغلب نفسه علي شهوتها .وإلا فعليه أن يتخفف منها وان يراجع نفسه في علاقته بربه ودينه وأخرته.
عمر التلمساني وقضايا الأمة:
الأستاذ عمر التلمساني يخطب في حضور وفد المجاهدين الأفغان
كان الأستاذ عمر التلمساني منذ نشأته صاحب خلق ودين ومنذ أن التحق بجماعة الإخوان المسلمين برزت فيه هذه الصفات مما كانت سببًا لحب الناس له والاجتماع عليه؛ حتى إن جنازته اجتمعت فيها كل طوائف الشعب من وزراء ومفكرين وعلماء وأقباط وطلاب وعمال، بل شاركت وفود كثيرة من الخارج مما دلَّ على تمكن حبِّ الرجل في قلوب كل الناس؛ وذلك بسبب اهتمامه بقضايا الناس ومشاكلهم ومعاناتهم، وسياسته المعتدلة في التعامل مع الآخرين والتسامح الذي تحل به.
وقد برزت هذه الصفات في مواقفه العملية على مدار حياته، وهذا ما سقنا بعضه في مقالات مواقف تربوية، كما أن هذه الصفات برزت في كتاباته والتي أصبحت نبراسًا وعلمًا للرجل، كما أصبحت نبراسًا لمَن جاء بعده من الإخوان للسير على سياسته المستقيمة.
1- التلمساني والقضايا السياسية:
لقد آثر عمر التلمساني المحاماة على النيابة والقضاء لأنه وجد فيها وسيلةً للدفاع عن المظلومين، غير أنه لم يدافع عن المظلومين فحسب بل دافع أيضًا عن قضايا المجتمع، واقتحم معترك السياسة ليثبت أن الدين الذي يعيش به يعصم السياسة من الزلل ويحميها من الخطأ ويصونها من الانحراف، وأن السياسة إذ لم يوجهها الدين فإنها تميل مع الهوى وتنحرف مع الغرض، كما أنه نظر إلى أن الزعيم الذي لا يرعَى حقوق الله كيف يرعَى حقوق الشعب.
ومن ثم كان انطلاقه في عالم السياسة من هذا المعترك، فيقول التلمساني: "التشريعات الوضعية يراعى فيها على الأعم الأغلب، مصلحة واضعيها، فإن كانوا من أثرياء القوم، دعموا عن طريق التشريع أوضاعهم، وإن كانوا من العامة، حرصوا كل الحرص، على تقليم أظافر غيرهم، وحرموهم من كل ميزة، لينفردوا وحدهم بالسلطان الذي حرموا منه السنين الطوال ذوات العدد، إذا كان الحكم فرديًّا، وضع الفرد الحاكم من القوانين، ما يكفل له بقاء حكمه، وعدم المنازعة فيه، والنيل منه، والتطاول إليه وعليه، كل هدفه من القوانين التي يشرعها إلزام الأمة بالنزول عند رأيه راضيةً أو راغمةً، والالتزام بنوع الحكم الذي يقوم هو على رأسه، سواء أعاد هذا الحكم على الأمة بالحرية أو العبودية، نفعتها أساليبه أو طحنتها وسائله، أما التشريع السماوي، في عمومياته وخصوصياته واسع شامل محيط، تستقي كل حاجات الإنسان، دون تزيد ولا انتقاص، فيه مصلحة الناس جميعًا، حكامًا ومحكومين، يسير فيه ضبط الحكم واستقراره مع مصلحة الفرد والمجتمع".
2- التلمساني وحب الوطن:
لقد عمل الأستاذ التلمساني على غرس معاني حب الوطن الولاء له في قلوب إخوانه ومريديه بل والشعب كله، وكان ذلك من منطلق أن الرسول- صلى الله عليه وسلم- علمنا كيف نحب أوطاننا التي نولد فيها فقال عند الهجرة وهو ينظر إلى مكة "إنك لأحب بلاد الله إلى قلبي ولولا أن أهلك أخرجوني ما خرجت"، فيقول الأستاذ عمر: "وليس معنى حب الوطن التنكر للمسلمين في العالم كله، أو أننا لسنا أمة واحدة، لا، فإن المسلمين على اختلاف أفكارهم أمة واحدة كما يقول القرآن الكريم (إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (92)) (الأنبياء)، إننا يجب أن نحب وطننا وليس معنى هذا الحب أن نتعصب للوطنية، أبدًا، يجب أن نعلم تمامًا أن المسلمين جميعًا أمة واحدة، فعاطفتي مع المسلم الباكستاني والمسلم الإندونيسي مثل عاطفتي مع المسلم المصري، أحس إحساسه، أتألم لألمه، أفرح لفرحه.
إن الكلام عن الوحدة الوطنية، أمر ليس له معنى، ودردشة غير ذات موضوع، ذلك لأن المقيمين على أرض وطن واحد مفروض فيهم أنهم جميعًا يحافظون على كرامة هذا الوطن، الوحدة الوطنية التي يحرص عليها كل مواطن مخلص، تجد لها في ظل الشريعة الإسلامية دعائم راسخة وضمانات واسعة، توقف كل مسلم عند حده إذا ما اعتدى على غير المسلم أو انتقصه حقه أو كلفه ما لا يطيق أو أخذ منه شيئًا بغير طيب نفس.
وحب الوطن ليس معناه أن أعين قومي على الظلم ولكن أبصرهم بعاقبة الظالمين، إن الإسلام يفضل نجاة الأرواح على الأسلاب والغنائم وللحرب في الإسلام شرف ونبل وأمان، فقد رسم رسول الله لأسامة بن زيد الأسلوب الذي يأخذ به في معركته التي قادها فقال له: "أسرع السير، وتسبق الأخبار، فإن أظفرك الله فلا تحلل اللبس فيهم وخذ معك الإدلاء وقدم العيون والطلائع أمامك".
إن الفرد ليس عضوًا سلبيًّا في المجتمع ولكنه عامل فعال يؤدي ضريبة الإنسانية التي تجعله شيئًا له كيانه وفائدته الأمر الذي يدفع المجتمع كله ليهتم بالفرد ويوليه عنايته ورعايته في كل ما يرفع من شأنه في الحياة".
3- التلمساني وقضايا الشباب:
لم يقبل الشباب على داعية من الدعاة مثلما أقبل على عمر التلمساني في هذه الآونة من الزمان، فلقد أعطى الأستاذ عمر الشباب اهتمامًا كبيرًا من حياته العملية والتربوية كما خصهم بالكتابات الكثيرة وفي ذلك يقول: "أيها الشباب احذروا من يريد أن يباعد بينكم وبين تعاليم الله في معاملة المحكوم للحاكم والحاكم للمحكوم وفي معاملة الناس بعضهم البعض وإذا غم عليكم فهم أو أشكل عليكم أمر فارجعوا إلى من تثقون بدينه وعلمه وتقواه فهل فهمتم أن هدفكم الوحيد هو أن يسود شرع الله في هذه البلاد، إن أهون ما في رسالتكم أن يظل الإسلام منتشرًا يعرفه المسلمون ولا تطغى عليه تعاليم الغرب والشرق ولن تذوي أغصانه بين أيديكم وسيتمسك به عن طريقكم من بعدكم من أجيال وأنتم بهذه المثالة حفظه دين وحراس رسالة لمن بعدكم وإلا فلو تركنا الأمور دون أن تعملوا من أجل نشر دعوتكم فإن يأتي الجيل الثالث أو الرابع بعدكم إلا وقد طمست معالم هذا الدين تحت نظر الكثير من المسلمين فلا تستهينوا بما تعملون فمهمتكم غاية في الضخامة ومسئوليتكم غاية في الثقل يوم الحساب إن لكم هدفًا وإن لكم طريقًا واضحًا للعمل وكلاهما مبين في كتاب الله وسنة رسوله.
أيها الشباب، إننا ندعوكم لتكونوا معنا على خير حال، بفضل الكبير المتعال، إننا ندعوكم إلى ما فيه عزكم ومجدكم وأمنكم وحياتكم، ندعوكم إلى الطهر والفضيلة ومكارم الأخلاق وكمال العقيدة، لا نطالبكم بأجر، فأجرنا هدايتكم، ولا نمنيكم بالأحلام والأضاليل، فما عند الله خير وأبقى، فهيا ضعوا أيديكم في أيدينا، وشبابكم في شيخوختنا، وحماسكم في خبرتنا، عيشوا لها، وورثوها من بعدكم، فلله عاقبة الأمور (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمْ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنْ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمْ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (111)) (التوبة).
دينكم، دينكم يا شباب فاعتصموا بحبل الله وحببوا الناس فيكم ولا تنفروهم منكم ولم يكون ذلك إلا بأسلوب التعامل معهم في دعوتهم إلى الله وما دخل اللين في شيء إلا زانه وما دخل العنف في شيء إلا شانه، إن من أهم واجبات الشباب ألا يفكر اليوم في الحكم والحكومة لا لأنها ليست مطلوبةً منا كمسلمين، أبدًا، نحن مطالبون بألا يكون الحكم إلا لله وعلينا أن نضع ذلك في برنامجنا، ولكنه لن نصل إلى تحقيق ذلك في يسر وسهولة إلا إذا ربطنا الشعوب المسلمة بدينها.
أيها الشباب أنتم الأداة الفاعلة ذات الفاعلية الكبرى لإنقاذ هذا الوطن مما تردى فيه، إن الذين أحاطوا برسول الله- صلى الله عليه وسلم- كانوا من الشباب، فنصيحتي لكم أن تتمسكوا بهذه الدعوة لآخر قطرة من دمائكم إلى آخر نبضة من نبضات قلوبكم.
أنصح الطلبة منكم خاصةً أن يكونوا على مستوى رفيع من الأدب مع أساتذتهم في الكليات لا يتناولوا أستاذًا بسوء، ولا يخرجوا عن حدود اللياقة حتى ولو خالفوهم في الرأي، فهذا شيء وهذا شيء. التطاول على الأساتذة، رمي مباني الجامعة بالحجارة، والتكسير والتخريب، فهذا ليس من خلق دعاة الإسلام، الدعاة إلى الله دعاة سلم وأمان".
4- التلمساني ومعاهدة السلام:
توقيع معاهدة كامب ديفيد
في نوفمبر عام 1977 م أعلن الرئيس السادات مبادرته بزيارة القدس لإنهاء الحرب مع العدو الصهيوني الذي يحتل فلسطين والقدس وأعقب ذلك الاتفاق على توقيع معاهدة كامب ديفيد في 17/9/1978 م ثم معاهدة السلام بين مصر و"إسرائيل" يوم 26/3/1979 م، فانتفض الأستاذ التلمساني بدافع من دينه وعقيدته بمعارضة اتفاقية كامب ديفيد ومعاهدة السلام وأخذ يكتب دون خوف أو وجل غير أنه لله يفند هذه الاتفاقية فيقول: "ولقد تم بين مصر وإسرائيل والولايات المتحدة ما صرح به السيد رئيس جمهورية مصر العربية "إننا لم نصل إلى اتفاق سلام ولكننا اتفقنا على إطار للتفاوض" الأهرام 20-9-1978.
وبعيدًا عن التجريح والتأثيم والإحراج وفي ظل حرية الرأي لكل مواطن لا يريد إلا أن يقول ما يعتقد أنه الحق، وأملنا كبير ألا يضيق أحد بما نقول، فالله وحده يعلم أننا لا نهدف إلا إلى إرضاء الله تعالى والتمسك بشرع الإسلام الحنيف وهذا ولا شك ما يحقق صالح الوطن الإسلامي وأبنائه حكامًا ومحكومين.
وإذا كان الذي تم عليه الاتفاق ليس اتفاق سلام ولكنه إطار للتفاوض ففيم كانت هذه القيود وهذه الشروط؟ وإذا كانت هذه صورة إطار للتفاوض فكيف إذن ستكون صورة المعاهدة النهائية؟!!
إن رأينا الذي نقوله وسنقوله إيمانًا بحقنا، أنه مما لا يتفق وقواعد القوانين السماوية أن نعترف لغاصب بحقه في اغتصاب أرضنا، ولئن كان قرار 242 لمجلس الأمن يعتبر هضمًا كاملاً لحقوق المسلمين بمن فيهم الفلسطينيون، فإنه قرار صادر من هيئة دولية، وليس بصادر منا، رغم إقرارنا له نتيجة وطأة الظروف التي لابسته، إن إسرائيل ستنعم بالاعتراف الكامل وإقامة العلاقات الطبيعية التي تتسم بحسن الجوار والتمثيل الدبلوماسي وإنهاء المقاطعة الاقتصادية وكل ما كانت تطلبه، ونسأل: هل بقي شيء ليتم الاتفاق عليه في المعاهدة النهائية؟ لا.
إننا يجب ألا نخاف الحرب مهما كانت نتائجها حتى يظل عنصر الإكراه مبطلاً لكل تصرف من تصرفات اليهود وذلك خير من أن ينالوا كل هذا في مفاوضات بيننا وبينهم، اللهم إلا إذا كان اليهود يعتبرون تجنب الحرب عطاء منهم.
أما عن الوثيقة الثانية فهل لنا أن نتساءل: أين الانسحاب الكامل إذا كنا لا نتمتع بحرية إقامة المطارات المدنية والعسكرية في سيناء كلها؟ وكيف لا تستطيع قواتنا حرية التصرف إلا في حدود خمسين كيلو مترًا شرق القنال؟ وحتى هذا الشرط لم تترك لنا فيه حرية التنقل والتصرف، بل علينا ألا نشغل هذه المساحة إلا بفرقة واحدة؟ وأما باقي سيناء فقد ترك للقوات الدولية تجول فيه كيف تشاء، وكلنا يعرف صلات الدول كلها بإسرائيل تعاطفًا ومصالح مشتركةً وأهواء موحدة.
القدس..
وأهم ما يجعلنا نقف عند ما تم أن القدس قد أغفل شأنها، فلم يرد لها ولا لوضعها إشارة من قريب أو بعيد، مما يدعم قول بيجين بأنها عاصمة إسرائيل ما بقي اليهود.
ما الذي يمكن أن يفسر به الناس هذا الموقف من القدس؟ أول قبلة اتجه إليها المسلمون؟ القدس التي أسرى إليها برسول الله- صلى الله عليه وسلم-، وعرج منها إلى السماء وما فوق السماء، وصلى فيها إمامًا بالرسل والأنبياء، ما كنا نظن أن يكون هذا حظها في الاتفاق ونحسب أنه أمر لا يحوز رضا المسلمين، ونسأل الله مخلصين أن يكون في عزم المسئولين، أن ينقذوها مشكورين مأجورين.
لقد استقبل اليهود هذه الاتفاقية بكل استبشار وفرح وفي ذلك ما يدل على أنها حققت لهم كل ما كانوا يبغون.
وأقول: إذا سألت عن البديل، فإنني أضع نفسي، وأعتقد أن كل مسلم حر في مصر وغير مصر على استعداد أن يضع نفسه تحت أمر رئيس الدولة اليوم وغدًا إذا نادى بكتاب الله، وطالبنا بالتقشف الذي تستلزمه طبيعة الموقف وأعددنا عقيديًّا وخلقيًّا وعسكريًّا للموقف الفاصل لا نساوم ولا نطلب ثمنًا، لأننا نجند أنفسنا للجهاد في سبيل الله لأن الجهاد في سبيل الله هو الطريق الوحيد لوضع كل معتد علينا في حجمه الطبيعي.
إن عزة الأمم وكرامتها غالية عزيزة تتطلب التضحيات والفداء والتحمل والصبر، وترك كل نعم الحياة في سبيل العيش الكريم والحياة النبيلة، ولن نجد قومًا يؤمنون بالله ورسوله، يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوتهم أو عشيرتهم لأنهم انحازوا إلى جنب الله، وأولئك هم حزب الله، ألا إن حزب الله هم المفلحون".
ولقد ذكر الأستاذ التلمساني الوسائل لإرجاع القدس فقال:
"1- مؤتمر إسلامي يضم كل حكام المسلمين في جميع بقاع الأرض يقتصر كل أعماله على بندين: قضية القدس والالتزام بقرارات المؤتمر ثم التنفيذ الفوري.
2- حملة إسلامية دعائية واسعة بشتى وسائل الإعلام مع إرسال مندوبين يوفدون إلى مشارق الأرض ومغاربها لتوضيح القضية وفضح أكاذيب اليهود ودعاواهم.
3- اتخاذ خطوات إيجابية فعالة تشعر المتآمرين على الإسلام أن أصحابه غير عابثين وأنهم جادون في الوصول إلى حقوقهم كائنة ما كانت التضحيات جسيمة أو خطيرة فسلعة الله الجنة غالية الثمن.
4- العزم الحاسم بالنية الخالصة وبالإرادة الصامدة في القضاء على كل عوامل الفساد والإفساد في بلادهم.
5- يتنادى حكام المسلمين فيما بينهم بالجهاد المقدس. وهذا أوانه، بعد أن أدركه إبانه، وعندهم كل مقومات الجهاد، العقيدة، القوة البشرية، المال، الرجولة الإسلامية التي تدفع للقتال والصبر، وغير هذا كثير، وميسور لو أرادوه، موفور لو استيقنوه".
5- التلمساني ودعوة الإخوان:
لقد كان الأستاذ عمر التلمساني مرشدًا للدعوة فلم يقبل في لحظة من حياته أن تهان دعوته أمامه، فقد كان عزيز النفس بها وفي ذلك يقول: "لقد مرت المحن بالإخوان كالحةً معربدةً فما زادتهم في دينهم إلا يقينًا، وما زادتهم بدعوتهم إلا تمسكًا واستبسالاً ولماذا تتوالى عليهم المحن؟؟ إنها سنة الدعوات الصادقة التي لا ترضى هنا ولا هناك، لماذا لا ينتصرون في كفاحهم؟ وهل بعد إقبال الشباب الطاهر على دعوة الإخوان المسلمين، هذا الإقبال المنقطع النظير، من نصر وانتصار؟ إننا لا ندعو الناس لكي نصل إلى الحكم على أكتافهم، ولا نبصرهم بدينهم لمغنم دنيوي هزيل عن طريقهم، إننا ندعوهم ليقيموا أمةً قويةً عزيزةً طاهرةً، وها هم اليوم يأخذون بأطراف الدعوة من كل حدب وصوب، فما بالنا لا نحمد الله أن نصر دعوته، ورأينا الناس يدخلون تحت لوائها أفواجًا؟ لماذا لا نحارب من حاربنا، ولا نقابل الشر بالشر، ونتحمل الضربات القاسية في صبر واحتساب؟ ذلك لأننا لو أردنا شرًّا لاستطعناه، فما أيسر تخريب جسر هنا أو قنطرة هناك!! وما أسهل النسف لمن أراد فسادًا، وما أقرب الاغتيال لمن أراد ضلالاً! إننا لا نلقَى الشر بالشر ولا نؤمن بقول المبطلين إذ يقولون إن تلقى الشر بالشر ينحسم، ولكننا نريد أن نقيم قاعدةً إسلاميةً راسخةً، ونريد أن نوجد رأيًّا إسلاميًّا عارمًا يقول فيستمع له، ويصمت فينتظر منه القول. نريد أن نوجد أمة قوية الشأن، عالية المقدار، عزيزة الجانب، موحدة الصف، ونريد أن نقيم ذلك كله على أساس من الحكمة المستبصرة، والموعظة المنتجة، والمجادلة بالتي هي أحسن، ولا نريد أن نصل إلى تحقيق أهدافنا عن طريق القهر والغلبة، وانتصار فريق على فريق، فيوم أن جرى النيل روافد ونهيرات، لم يجر عن طريق التفجير النووي، ولا الإعداد الذري، ولكنها قطرات الماء الرقيقة المرهفة تتوالى طرقاتها على جبال القمر الأصم، ومن حوله من الرواسي الشمم، فتفتتها الهوينا، ذرةً بعد ذرةً، ثم تتدفق سيلاً يحمل الخصب والري والنماء، إلى كل أخدود يتقبله، وإلى كل سهل يتلقاه، ومن قال إن الإسلام قام على السيف والمدفع، فقد افترى على الله الكذب، ولكنه قام على الفهم، وانتشر عن طريق الإقناع والاقتناع، وتلقته الملايين من البشر في سهولة ويسر، لما وجدوه فيه من عدالة وأمن وسلام، وهذا ما نريد، وهذا ما بدأنا نلمس بوادره، وعما قريب نجني ثماره، إننا نتعثر، ولكننا لا نكيد، إننا نتئد الخطى ولكننا لا نتوقف إننا نحتمل ولكننا لا نضجر ولا نضيق، إننا نحتسب ولكننا لا نشهر آلة حرب في وجه مسلم، ليقل أعداء الدعوة عنها ما يقولون، فلن نلقي إليهم بالاً، ولن نصيخ السمع لالتقاط ما يقولون، ولا نلتفت لاتهاماتهم لأننا على الطريق سائرون، ولن تثبطنا معوقاتهم، لأننا لها متخطون ومجتازون، إننا كلمة الله على الأرض، وخلفاؤه فيها، فما أنزل آدم من الجنة مطرودًا، ولكنه نزل تحفه الكرامة تحقيقًا لصدق قول العلي الكبير (إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً) (البقرة: من الآية 30).
إننا لا ندل على أحد، فما التعالي من خلق الإخوان المسلمين، ولكنه التحدث بنعمة الله الكبرى علينا، إذ هدانا سواء السبيل وأمرنا أن نعلن للناس فضل الله علينا (وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (11) (الضحى).
لا ندّعي أستاذية:
وليس في ذلك من امتياز على أحد، وليس لنا فيه من جهد نادر، ولكن ذلك الفضل من الله إننا لا ندعي أستاذية لأحد، ولكننا نحمل المصباح كما تحمله المشكاة ينير للدارسين، ويهدي الحائرين، آخذًا بيد المكفوفين العاجزين، ليقبل الناس علينا أفواجًا، فما لذلك عندنا من اعتداد (مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي) (الأعراف: من الآية 178)، أو ليغض الناس عنا انغضاضًا، فما لذلك عندنا من نكوص (قُلْ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ) (الأنعام: من الآية 91)، من أجل هذا اعتدى علينا طلاب الدنيا، ومن أجل هذا تآمر علينا أعداء الإسلام، ومن أجل هذا جنى علينا كل من ليس في قلبه ذرة من إيمان: ولو أن الله أراد بهؤلاء وأولئك خيرًا، لأرهفوا السمع، ولفتحوا العيون، واستمعوا إلى نداء الله الكريم (يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِي اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (31) وَمَنْ لا يُجِبْ دَاعِي اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَولِيَاءُ أُوْلَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (32)) (الأحقاف).
عمر التلمساني رجل أحيا الأمة:
في يوم 22 مايو عام 1986م رحل عن عالمنا المربي الفاضل والمجاهد الجليل، وداعية جمع بين حماس الشباب وحكمة الشيوخ، مجاهد حمل عبء دعوته؛ بل حمل مشاكل وهموم مجتمعه فوق كتفه، فاستطاع أن يغيَّر كثيرًا من المظاهر التي أثرت سلبًا فيه.
هذا الرجل استطاع خلال توليه مكتب الإرشاد أن يعيد كيان الجماعة مرةً أخرى، بعد محنة طويلة بدأت بعام 1954 م؛ حتى خرج آخر أخ من السجن عام 1975 م، وحَّد الجهود حول تربية المجتمع، وتربية أفراد الصف، والنصح للحاكم.
عمر التلمساني لم يختلف عليه اثنان، ومن ثمَّ وحَّد القلوب على جهاده وأعماله وأقواله، بل لقد خرجت الجموع تشيِّع جثمانه، فلم تشهد مصر جنازةً بلغت في هيبتها مثلما بلغت جنازة عمر التلمساني، بل شرفها بحضور الرسميين وغير الرسميين، بل جموع الشعب.
في مثل هذا الشهر رحل هذا الرجل بعد حياة طويلة قضاها في جهاد من أجل دينه ووطنه، وقضى معظم هذه الحياة خلف السجون، مضحيًا بحياته من أجل الهدف الذي تربى عليه، وعمل من أجله، بل من أجل الغاية التي ارتضاها لنفسه؛ ألا وهي "الله غايتنا".
وبهذه المناسبة، وعرفانًا لهذه الشخصية الجليلة نقدِّم في ذكرى وفاته بعضًا من مآثره؛ لعلها تكون نبراسًا لنا في وقتنا الحاضر وللأجيال القادمة، والتي استهدفت من قِبل أعداء الأمة، وعملت على تغييبها عن ماضي أمتها وحاضرها ومستقبلها، وعملت على ربطها بماضي الغرب وحاضره ومستقبله.
ومن خلال هذا الملف نقدم بعض كتابات الأستاذ عمر التلمساني، وإن كانت قليلة في بحر مقالاته؛ غير أننا نفتح الباب أمام من أراد أن يجمع تراث هذا العالم الجليل.
- الإخوان المسلمون.. بين سخط المؤيدين وغضب المعارضين
- الإخوان المسلمون والعهد السابق والعهد اللاحق
- هذه الحملة المسعورة ضد جماعة الإخوان المسلمين.. أما آن لها أن تنتهي؟!
- عودة جماعة الإخوان المسلمين.. أقوم السبل للنهوض بالأمة
عمر التلمساني.. رجل اجتمعت عليه الأمة:
في يوم 22 مايو عام 1986 م رحل عن عالمنا عالم جليل وداعية جمع بين حماس الشباب وحكمة الشيوخ، مجاهد حمل عبء دعوته بل حمل مشاكل وهموم مجتمعه فوق كتفه فاستطاع أن يُغيِّر كثيرًا من المظاهر التي أثَّرت سلبًا في المجتمع، بل وقف للحاكم ناصحًا لله، وتصدَّى لمعاهدةِ السلام والتي شعر المجتمع فيها بالمهانة ولم يخش حاكم ولم يخش سجنه، بل وقف يُندد بهذه المهانة التي تعرَّض لها الشعب المصري، بل الشعوب الإسلامية من جرَّاء هذه المعاهدة التي أورثت الأجيال الذل.
وعندما حاولت بعض الجهات المشبوهة إثارة الفتنة الطائفية وسط نسيج المجتمع المصري، بين المسلمين والمسيحيين انتفض الأستاذ عمر يطفئ هذه الفتنة، ويعمل على إخماد نيرانها، فنزل إلى الشباب وجاب البلاد يسكب على هذه الفتنة نسائم الحب والإخاء حتى عاد نسيج المجتمع مرةً أخرى إلى الالتحام.
- عمر التلمساني الرجل الذي اجتمعت عليه القلوب
عمر التلمساني.. رجل غيَّر أمة:
في يوم 22 مايو عام 1986 م (13 من رمضان 1406هـ) رحل عن عالمنا المربي الفاضل والمجاهد الجليل الأستاذ عمر التلمساني المرشد السابق، الداعية الذي جمع بين حماسة الشباب وحكمة الشيوخ، حتى استطاع أن يغير كثيرًا من المظاهر التي أثَّرت سلبًا على المجتمع المصري.
وإن رجولة الرجال لا تُقاس بقوة أجسامها، بل بقوة إيمانها وفضائلها؛ حيث أعاد هذا القامة خلال توليه مكتب الإرشاد القوة للجماعة مرة أخرى، بعد محنة 1954 م، فحمل لواء الدعوة الإسلامية على مستوى العالم؛ حتى استطاع على مدى عشر سنوات أن يعيد للحركة الإسلامية صفاءها، ونقاءها، وسماحتها، ويرد عنها كل السهام المسمومة التي وُجهت إليها، والتهم الباطلة التي أُلصقت بها، ويدحض كل الافتراءات التي افتراها ضدها المفترون.
شارك في تشييع جنازته ربع مليون- وقيل نصف مليون- من جماهير الشعب المصري، فضلاً عن الوفود التي قدمت من خارج مصر، في جنازة لم تشهد مصر في ضخامتها وتلقائيتها ومصداقيتها على مدى النصف قرن الأخير.
وبهذه المناسبة، نقدم في ذكرى وفاته بعضًا من مآثره لعلها تكون نبراسًا لنا في وقتنا الحاضر، ومن خلال هذا الملف نقدم بعض كتابات الأستاذ عمر التلمساني، في محاولة لحفظ القليل من تراث هذا الرجل العظيم الذي قلما نجد له مثيلاً.
عمر التلمساني.. المربي بين أركان بيعة:
في 13 من رمضان 1406هـ الموافق 22 مايو 1986 م رحل عن عالمنا عالم جليل وداعية جمع بين حماس الشباب وحكمة الشيوخ، مجاهد حمل عبء دعوته بل حمل مشاكل وهموم مجتمعه فوق كتفه فاستطاع أن يغير كثيرًا من المظاهر التي أثرت سلبًا فيه، بل وقف للحاكم ناصحًا لله، بل تصدى لمعاهدة السلام والتي شعر المجتمع فيها بالمهانة، ولم يخش حاكمًا ولم يخش سجنه بل وقف يندد بهذه المهانة التي تعرض لها الشعب المصري بل الشعوب الإسلامية من جراء هذه المعاهدة التي أورثت الأجيال الذل.
وعندما حاولت بعض الهيئات والمنظمات إثارة الفتنة الطائفية وسط نسيج المجتمع المصري، بين المسلمين والأقباط انتفض الأستاذ عمر يدرأ هذه الفتنة ويعمل على إخماد هذه النيران المتأججة، فنزل إلى الشباب وجاب البلاد يسكب على هذه الفتنة نسائم الحب والإخاء حتى عاد نسيج المجتمع مرة أخرى إلى الالتحام.
لقد كان الأستاذ عمر التلمساني رجل مرحلة، انطبقت على شخصيته كل أركان البيعة التي وضعها الإمام البنا لرجال الدعوة حينما قال: أيها الإخوان الصادقون: أركان بيعتنا عشرة فاحفظوها: "الفهم، والإخلاص، والعمل، والجهاد، والتضحية، والطاعة، والثبات، والتجرد، والأخوَّة، والثقة".
ولقد عاش الأستاذ التلمساني بقلب حي ونفس طاهرة هذه الأركان، وظهرت هذه الشمائل في خصاله وطباعه.
الفهم:
لقد أدرك الرجل منذ الوهلة الأولى طبيعة الطريق والمرحلة التي تمر بها الشعوب الإسلامية ومن ثم كان الرجل الذي تخلى عن تربية الدواجن في سبيل تربية أجيال تعرف معنى الحرية، يقول الأستاذ عمر: "لقد بدأت رجولتي الحقة بدءًا فعليًّا منذ أن سرت في ركب دعوة الإخوان المسلمين، يوم أن عرفت أن ديني يطالبني بالعمل على نشره ونصرته، مهما لاقيت من متاعب وصعاب".
وما أدل على فهمه مثل قوله: "لماذا لا نحارب من حاربنا، ولا نقابل الشر بالشر، ونتحمل الضربات القاسية في صبر واحتساب؟ ذلك لأننا لو أردنا شرًّا لاستطعناه، فما أيسر تخريب جسر هنا أو قنطرة هناك!! وما أسهل النسف لمن أراد فسادًا، وما أقرب الاغتيال لمن أراد ضلالاً! إننا لا نلقى الشر بالشر ولا نؤمن بقول المبطلين إذ يقولون أن تلقى الشر بالشر ينحسم، ولكننا نريد أن نقيم قاعدة إسلامية راسخة، ونريد أن نوجد رأيًّا إسلاميًّا عارمًا يقول فيستمع له، ويصمت فينتظر منه القول.. نريد أن نوجد أمة قوية الشأن، عالية المقدار، عزيزة الجانب، موحدة الصف، ونريد أن نقيم ذلك كله على أساس من الحكمة المستبصرة، والموعظة المنتجة، والمجادلة بالتي هي أحسن، ولا نريد أن نصل إلى تحقيق أهدافنا عن طريق القهر والغلبة".
ويصفه محرر جريدة (الأهرام) في 13/6/1986م بقوله: عرفته منذ نحو عشر سنوات, فلم أر فيه غير الصلاح والتقوى, كان هادئ الطبع, قوي الحجة، يدعو إلى الله على بصيرة من الأمر ذلك هو المغفور له الداعية الإسلامي الكبير عمر التلمساني الذي فقد العالم الإسلامي بفقده رجلاً من أعز الرجال وأخلصهم لدعوة الحق.
فقدناه في وقت نحن أحوج ما يكون فيه إلى أمثاله من ذوي الرأي السديد, والفكر الرشيد الذين يعرفون جوهر الإسلام ويدعون إليه بالحكمة والموعظة الحسنة.
إن حزني على رحيل عمر التلمساني شديد... فقد كان الرجل من الدعاة الذين يعملون في مجال الدعوة الإسلامية وفق المنهاج الإلهي الذي يصوره قول الله تعالى: ﴿لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا﴾ (البقرة: من الآية 286)... وقوله عز وجل: ﴿يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ﴾ (البقرة: من الآية 185).
الإخلاص:
يقول الإمام البنا: وأريد بالإخلاص : أن يقصد الأخ المسلم بقوله وعمله وجهاده كله وجه الله، وابتغاء مرضاته، وحسن مثوبته من غير نظر إلى مغنم أو مظهر أو جاه أو لقب أو تقدم أو تأخر، وبذلك يكون جندي "فكرة وعقيدة"، لا جندي غرض ومنفعة.
لقد أدرك الأستاذ عمر التلمساني معنى الإخلاص لله وحده والعمل من أجل رضا الله دون أن ينتظر ثناء من أحد أو مدح أحد له وفي ذلك يقول الشيخ عبد الله الخطيب:
كان الأستاذ عمر التلمساني رحمه الله إذا أراد مراجعة شيء مكتوب, كان يأتيني إلى مكتبي ويقول لي: أقسمت عليك بالله أن تراجع وتصحح ما تجد من خطأ, ولا تجاملني...
يقول الشيخ الخطيب: وكان هذا دأبه, إذا أراد شيئًا ذهب إلى الأخ في مكتبه, إلا أن يكون عذر من مرض أو إرهاق.
ويقول الأستاذ أنور الجندي أيضًا: حياة عريضة خصيبة, كانت منذ يومها الأول إلى يومها الأخير خالصة لله تبارك وتعالى... فقد كان "عمر التلمساني" نموذجًا كريمًا, وأسوةً حسنةً وقدوةً صالحةً يمكن أن تقدم للشباب المسلم في كل أنحاء الأرض لتصور له كيف يمكن أن يكون المسلم داعيةً إلى الله موقنًا بقوله تبارك وتعالى ﴿قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لا شَرِيكَ لَهُ..........﴾ (الأنعام).
العمل:
الأستاذ عمر التلمساني، والشيخ محمد الغزالي، والأستاذ مصطفي مشهور
منذ أن تعرف الأستاذ التلمساني على دعوة الإخوان على يد عزت محمد حسن معاون سلخانة بشبين القناطر عام 1933 م، وبايع الإمام البنا على العمل من أجل هذا الدين الحنيف وقد شمر عن ساعده طيلة نيف وخمسين عامًا للعمل من أجل هذه الدعوة المباركة حتى سكن هذا الجسد الضعيف.
يقول الشيخ محمد الغزالي - عليه رحمة الله- السمة العامة التي كنا نعرفه بها: وجهه البشوش وأدبه الجم وصوته الهادئ, وظاهر من حالته أنه كان على جانب من اليسار والسعة لا يسلكه في عداد المترفين, وإنما يخصه من متاعب الكدح ومعاناة التطواف هنا وهناك, ويحفظ عليه حياءه الجم وقد حمل الرجل في شبابه أعباء الدعوة الإسلامية في غربتها, ورأيته يومًا ينصرف من مكتب أستاذنا حسن البنا بعد لقاء لم أتبين موضوعه, ورأيت بصر الأستاذ المرشد يتبعه وهو يولي بعاطفة ناطقة غامرة, وحب مكين عميق، فأدركت أن للأستاذ عمر مكانة لم يفصح عنها حديث.
ويصفه الأستاذ صالح أبو رقيق من الرعيل الأول وعضو مكتب الإرشاد: كان فقيدنا الجليل طيب الله ثراه, سمحًا يذوب رقة وحياء, ويتألق تواضعه في عزة المؤمن, وكبرياء الواثق من نفسه والمقدر لمكانته, دون صلف أو تكبر, من الذين قال الله فيهم ﴿أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ﴾ (المائدة: من الآية 54)، جاهد في سبيل الله أصدق جهاد, وتحمل في سبيل ذلك أشد العذاب وقدم أعظم التضحيات.. وكان متمكنًا في الفقه, عالمًا بجميع جوانب دينه الحنيف, متحدثًا مقنعًا. وخطيبًا مؤثرًا, تخرج الكلمات من أعماق قلبه, فيأتي وقعها على القلوب بردًا وسلامًا. عذب الأسلوب, مهذب المنطق, في جلال ووقار. تاريخه حافل بالمواقف المشرقة, ولم تثنه الأحداث الجسام وشرور اللئام عن قول الحق, والتمسك بالحق, والصمود من أجل الحق, الذي كان يؤمن به.
الجهاد:
بايع الأستاذ عمر التلمساني الإمام الشهيد "حسن البنا" على أن يكون جنديًّا في صفوف الإخوان المسلمين، ومنذ تلك البيعة المباركة والرجل قد صدق في بيعته، فوهب لها كل حياته، وسخَّر كل ما وسعه وما لديه من إمكانيات لدعوة الله، وقد فهم الأستاذ عمر دعوة الإخوان فهمًا جيدًا ملأ عليه كيانه فعاش بها ولها، فكان كثير الترحال والسفر مع الإمام البنا.
إن حياة عمر التلمساني كلها لهي خير دليل على جهاده ومن أجل نشر دعوته الإسلامية وترسيخ مبادئها في نفوس الناس ولا أصدق على ذلك من جنازته التي شارك فيها آلاف المشيعين من مختلفي الطوائف الإسلامية وغير الإسلامية بل الرسمية والشعبية.
التضحية
يقول الإمام البنا: "وأريد بالتضحية: بذل النفس والمال والوقت والحياة وكل شيء في سبيل الغاية، وليس في الدنيا جهاد لا تضحية معه، ولا تضيع في سبيل فكرتنا تضحية، وإنما هو الأجر الجزيل والثواب الجميل، ومن قعد عن التضحية معنا فهو آثم.
ويصف الأستاذ عمر هذا الركن وفهمه له بقوله: عملت فترة "وزير مالية الإخوان" وكنت إذا وجدت في الخزانة مائة وخمسين قرشًا كنت أرى وقتها أننا من الأثرياء!!
وكان الداعية إذا ذهب إلى لقاء إخواني ليتحدث في الدعوة, أعطيه "ثلاثة تعريفة": منها ستة مليمات للذهاب, ومثلها للعودة، وثلاثة مليمات يشتري بها ما يروقه من الترمس والفول السوداني, واللب الأسمر والأبيض!!
ومن المواقف التي تمثل فيه هذا المعنى أنه أرسلت وزارة الثقافة بدولة الإمارات دعوة له عام 1982 م فلبى الدعوة وألقى محاضرة في النادي الثقافي بأبي ظبي حيث جاء جمع غفير ملأ القاعة وخارج القاعة ولم يأت قبله مثله.
وفي نهاية الزيارة قدمت الوزارة تحية لضيفها شيكًا بخمسة وثلاثين ألف درهم فشكر الأستاذ عمر لهم هذا الصنيع الكريم ثم قال للأستاذ جابر رزق في الحال: حول هذا الشيك إلى المجاهدين الأفغان.
ويقول عنه الأستاذ مصطفى أمين تحت عنوان فكرة: لقد أمضيت سنوات طويلة مع التلمساني في سجن ليمان طرة. وكانت زنزانته في مواجهة زنزانتي, كنت أراه كل يوم وأتحدث إليه.
كان أكثر ما حببني فيه سعة صدره واحتماله الغريب, ومواجهته للبطش والاستبداد بسخرية واستهزاء, فقد كان يشعر أنه أقوى من الذين قيدوه بالأغلال, وكان مؤمنًا بأن المحنة لا بد أن تنتهي ويخرج من السجن ويكتب رأيه وينشر الفكر الذي آمن به. كان يعتقد أن العنف يضر ولا ينفع. يسيء للفكرة ولا يخدمها. كم تدخل ليهدئ الثائرين ويهدي الضالين.
الطاعة:
يقول الإمام البنا: وأريد بالطاعة: امتثال الأمر وإنفاذه توًّا في العسر واليسر والمنشط والمكره.
ولقد تمثل المجاهد الراحل هذا المعنى من أول يوم بايع فيه على الطاعة فيقول في ذلك: "كنت أحس بأنني قريب من قلبه.. فما اختلفت يومًا مع أخ، أو رفعت إليه شكوى من أحد، أو حملته شيئًا من متاعبي الخاصة أو العامة، وما تأخرت مرة واحدة عن تنفيذ أمر أصدره إلى مهما كبدني التنفيذ من متاعب أو كلفني من ماديات".
الثبات:
يقول الإمام البنا: وأريد بالثبات: أن يظل الأخ عاملاً مجاهدًا في سبيل غايته مهما بعدت المدة وتطاولت السنوات والأعوام، حتى يلقى الله على ذلك وقد فاز بإحدى الحسنيين، فإما الغاية وإما الشهادة في النهاية.
واتصف الأستاذ عمر بهذا المبدأ فيقول عليه رحمة الله: "لقد مرت المحن بالإخوان كالحة معربدة فما زادتهم في دينهم إلا يقينًا، وما زادتهم بدعوتهم إلا تمسكًا واستبسالاً ولماذا تتوالى عليهم المحن؟؟ إنها سنة الدعوات الصادقة التي لا ترضى هنا ولا هناك، لماذا لا ينتصرون في كفاحهم؟؟
فنراه شامخًا وقت أن نطق جمال سالم بحبسه خمسة عشر عامًا عام 1954 م.
ومن المواقف التي برز فيه معنى الثبات لديه وأمام أعلى سلطة في البلاد وهي رئيس الدولة، عندما قرر السادات عقد لقاء فكرى بالإسماعيلية, مع السياسيين والمفكرين وزعماء المعارضة, التقى وزير الإعلام بالأستاذ عمر التلمساني يرجوه حضور اللقاء والأستاذ عمر يرفض, لأنه- على حد قوله- يعرف كبرياء السادات الأجوف وحرصه على أن يظهر بمظهر المتعالي على الآخرين... وبعد إلحاح من الوزير حضر الأستاذ عمر اللقاء, وجلس في الصف الأمامي..
وبعد استرسال السادات في حديثه, تطرق إلى الحديث عن الأستاذ عمر التلمساني وعن الإخوان, ثم أخذ يكيل لهم الاتهامات وقيامهم بإثارة الفتنة وتحريض الشعب ضد النظام..
فما كان من الأستاذ عمر- وقد قارب وقتها الثمانين عامًا- إلا أن قام بالرد على السادات وتفنيد ما قاله. ثم قال له بعزة المؤمن الواثق في ربه:
"لو كان أحد غيرك وجه إلى مثل هذه التهم لشكوته إليك, أما وأنت يا محمد يا أنور يا سادات صاحبها فإني أشكوك إلى أحكم الحاكمين وأعدل العادلين... أشكوك إلى الله.. لقد آذيتني يا رجل وقد ألزم الفراش أسابيع من وقع ما سمعت منك...
فما كان من السادات إلا أن قال: إنني لم أقصد الإساءة إلى الأستاذ عمر ولا إلى الإخوان المسلمين. اسحب شكواك.
فرد الأستاذ عمر: "وأنا لم أشك إلى ظالم, إنما شكوت إلى الله العادل ويعلم ما أقول".
ولقد لمس الناس هذا المعنى في نفس الأستاذ عمر فتقول جريدة (الرأي العام) تحت عنوان "المجاهد الإسلامي عمر التلمساني وداعًا": فقدت الأمة الإسلامية مجاهدًا بارًا.. أعطى حياته لقضية الإسلام وظل حتى آخر رمق في حياته ينادي بتطبيق الشريعة الإسلامية كوسيلة لخلاص الأمة العربية من الأزمات والنكبات التي لاحقتها في السنوات الأخيرة بعد أن تعثرت قوانين الشريعة في دهاليز مجالسها النيابية.
لقد كان عمر التلمساني .. المجاهد الإسلامي، لا يخاف لومة اللائمين، أو ظلم الحكام، أو إرهاب أعداء الإسلام، وكان يقول كلمته لوجه الله تعالى، وكان رحمه الله مناضلاً كبيرًا، لا يهادن، ولكن يجنح للسلم دون ضعف أو ترجع, وبالرغم من كبر سنه واعتلال صحته فإنه حمل مشعل الكلمة الطيبة المناضلة حتى آخر يوم من حياته، وحظي باحترام أعضاء جماعته والناس.
ويقول الشيخ محمد عبد الحميد كشك: الراحل الكريم، يرحم الله جهاده، ويرحم الله صبره بعد الإرهاب والسجون والمعتقلات، ظل في السجون سبعة عشر عامًا فما لانت له قناة، وما انحنى إلا لله، وما ركع إلا لمولاه، وما سجد إلا للواحد الديان، يا عمر نم هادئًا بجوار الحق سبحانه، نم إلى جوار ربك بعد أن صبرت واحتسبت.
التجرد:
يقول الأستاذ البنا: وأريد بالتجرد: أن تتخلص لفكرتك مما سواها من المبادئ والأشخاص؛ لأنها أسمى الفكر وأجمعها وأعلاها.
ويقول الأستاذ عمر حول تجرده: "عرض عليَّ الإمام الشهيد أن أكون وكيلاً لجماعة الإخوان المسلمين، فلم أقبل مقسمًا له أنني لست أهلاً لهذا المكان، ولا أستطيع أن أملأ فراغه، وحرام عليَّ أن أخدع الإمام بقبول تلك المكانة في الإخوان المسلمين".
ويضيف قوله: كان الإمام الشهيد يدعوني إلى السفر معه في بعض رحلاته داخل القطار ويسألني: هل السفر على حسابك أو على حسابنا؟
فإن كنت (متريش) من أتعاب قضية دسمة قلت: السفر على حسابي, وأقطع لهم تذاكر في الدرجة الثانية..... أما إذا كنت (مفرقع) الجيب قلت: السفر على حسابكم، فكان يقطع التذاكر في الدرجة الثالثة.
فكنت أجلس, ورأسي على الأرض حتى لا يراني أحد من معارفي, وأنا أركب الدرجة الثالثة, التي كنت آنف ركوبها, وكان الأستاذ يبتسم لمنظري الخجل.
حتى إذا ما طالت عشرتي للإخوان أصبح ركوب الدرجة الثالثة عندي كركوب الأولى الممتازة دون حساسية أو تحرج.
يقول أيضًا -رحمه الله-: عرض علي الإمام الشهيد أن أتخذ مكتبا في القاهرة, فلم أقبل مبررًا رفضي بأني قد أنجح في المكتب ويدر عليّ دخلاً وفيرًا, فيقول البعض: إن الإخوان هم الذين أوجدوا لي كيانًا في عالم المهنة وهذا ما تأباه على أخلاقي ونشأتي وتربيتي.
وحول هذا الخلق سأل بعض الناس السائق الذي صحب الأستاذ أثناء زيارته بدعوة من وزارة الثقافة بدولة الإمارات: فقال السائق صحبت كثيرًا من الشخصيات الكبيرة والوزراء. فلم أر مثل هذا الرجل في خلقه وتواضعه وحيائه وعفته وزهده وعطفه. لقد ركب إلى جواري واعتاد كبار الشخصيات أن يركبوا في الخلف ولكنه التواضع، وكان يصحبني معه ويجلسني بجواره في كل مأدبة طعام.
ويصفه الأستاذ محسن محمد تحت عنوان "من القلب": قابلته في مكتب جريدة (الدعوة) بالقاهرة، لا توجد حوله سكرتارية ضخمة، أو قيود تمنع لقاءه. والمكتب الذي يجلس عليه صغيرًا للغاية فقد نبذ الرجل الأبهة وقد كان من أغنياء الإخوان في شبابه.
الأخوَّة:
يقول الإمام البنا: وأريد بالأخوة: أن ترتبط القلوب والأرواح برباط العقيدة، والعقيدة أوثق الروابط وأغلاها، والأخوة أخت الإيمان، والتفرق أخو الكفر، وأول القوة: قوة الوحدة، ولا وحدة بغير حب، وأقل الحب: سلامة الصدر، وأعلاه: مرتبة الإيثار.
ويصفه الدكتور محمد الحبر نور الدايم (مراقب الإخوان في السودان) بقوله: لقد كان الأستاذ عمر- رحمه الله- يعامل الجميع معاملة الأب الرءوف الرحيم لقد كان لنا أبًا رحيمًا شفيقًا، ولقد كان ينظر إلى الإخوة من السودان ومن غير السودان نظرة واحدة؛ إذ إن هذه الدعوة دعوة عالمية.
الثقة:
يقول الإمام البنا: وأريد بالثقة: اطمئنان الجندي إلى القائد في كفاءته وإخلاصه اطمئنانًا عميقًا ينتج الحب والتقدير والاحترام والطاعة.
ولقد لمس هذا المعنى فيه كل المحيطين به فيقول سيد هادي خسرو شاهي في جريدة (إطلاعات) الإيرانية في عددها الصادر في يونيو سنة 1986 م: كان وفيًّا لمبادئ الإخوان طوال حياته, قضى عشرين سنة من عمره في سجون الاشتراكيين وأتباع القومية العربية بعد المؤامرة الغادرة التي دبرها جهاز الأمن المصري ضدهم بأوامر الضباط الديكتاتوريين حكام مصر وذلك من أجل قمع الإخوان المسلمين.
يرحم الله الشيخ الذي بقي صامدًا في طريقه ولم يستسلم لليسار المزور أو اليمين المتطرف، وأسلم الروح في النهاية بجبين مرتفع وتاريخ وضاء، وهو اليوم بلا شك في حضرة العدل الإلهي وينبغي على فراعنة مصر أن يقدموا لله حساب الظلم الذي ألحقوه به وبآلاف المسلمين المصريين الآخرين, والأمة المصرية والعالم العربي والإسلامي!
ومما يدل على ثقته في المنهج قوله: "الإخوان المسلمون كانوا يتبعون ولا يزالون في تحركاتهم الأسلوب الذي يتبعه الرسول صلى الله عليه وسلم- فهم لا يدعون إلى عنف أو صدام وهم يعلمون تمام العلم أن نتيجة الصدام بين المواطنين والحكومة وقيادة الجيش فيه خسارة على الوطن ومصلحة لأعداء هذا الوطن وهم حريصون على خدمة وطنهم وعلى ألا يستفيد أعداء الإسلام، والوضع الطبيعي الذي أسفر عنها للتاريخ منذ وجود سيدنا آدم عليه السلام وحتى اليوم أن كل شيء يولد صغيرًا ثم يكبر فإذا كان الإخوان المسلمون قد بدؤوا قلة وبدؤوا متواضعين ثم اشتد ساعدهم شيئًا فشيئًا فهذا شأن كل شيء في هذه الحياة إنما ماذا نفعل للذين يريدون أن يصوروا أو يشوهوا كل تصرف من تصرفات الإخوان المسلمين بأنهم كذا وكذا.
قضية الفنية العسكرية:
وفي نيسان عام 1974م قام صالح عبد الله سرية فلسطيني من حزب التحرير بمحاولة انقلاب فيما يعرف بالفنية العسكرية فشلت المحاولة واعتقل عدد من أفراد المنظمة منهم صالح سرية الذي أعدم هو وكارم الأناضولي في نوفمبر عام 1976م ولقد استمرت منظمة الجهاد في نشاطها إلى أن قام عدد من أفرادها بزعامة خالد الاسلامبولي في تشرين الأول بقتل السادات ولقد استنكر الإخوان المسلمون هذه المحاولة.
ولقد مرت علاقة الإخوان مع السادات بأطوار متعددة:
في الطور الأول تفاهم مع الأستاذ عمر التلمساني على تنشيط الشباب الإسلامي في الجامعات لاجتثاث اليسار الذي كان يعمل على إسقاط السادات وكان للإخوان مصلحة في استئناف عملهم الإسلامي في هذا القطاع الهام.
وفي الطور الثاني: عندما علا صوت الجماعات الإسلامية في الجامعات حاول السادات ووزير داخليته، الاستفادة من مكانة التلمساني بين الشباب لتهدئتهم وضبط انفعالاتهم لقد فشلت الدولة في استيعاب ظاهرة التدين عند الشباب عبر تعبئة أجهرتها الإعلامية. بينما تمكن الإخوان من استيعاب الظاهرة.
وفي الطور الثالث : عندما وقع السادات مع إسرائيل معاهدة الصلح، ووقف الإخوان في وجهه، بدأ يهاجم الأستاذ عمر في كل خطبة من خطبه وفي إحدى المرات قال له عمر : لقد اتهمتني ظلماً وعدواناً وإني أشكوك إلى الله وعندما طلب الرئيس السادات من الأستاذ عمر أن يسحب شكواه..أبى وقال: أرفعها إلى الله الذي لا يظلم عنده أحد.
لقد بدأت صلة السادات بالإخوان بالعناق، والرغبة في انضمام الأستاذ التلمساني إلى مجلس الشورى فرفض، وانتهت هذه العلاقة باعتقال عمر التلمساني وعدد كبير من قيادات العمل الإسلامي والطلابي.
وحين طلب د. صوفي أبو طالب من الإخوان التصدي لمظاهرة قام بها الطلاب الناصريون رفض الإخوان ورد عليه د. محمد عبد اللطيف بأن الجماعة لن تكون قفازاً في يد الحومة لضرب زملائنا من الطلاب.
النقابات المهنية:
كانت أول نقابة يرشح الإخوان فيها أنفسهم في أواسط العام 1983 هي نقابة الأطباء وأول اتحاد للطبة دخلوه هو في كلية الطب، وحصلوا على خمس لجان بينها الأمين العام والأمين العام المساعد والوكيل وأمين الصندوق على الرغم من أنهم كانوا سبعة من أصل 24 عضواً، كان هذا في نيسان من العام 1984م، ثم حصلت الجماعة على 20 مقعداً عام 1992م ثم دخلوا في عام 1986م نقابة المهندسين ثم توالت الانتصارات داخل نقابات الصيدلة والمعلمين والمحامين.
وتمكنت الجماعة في آذار 1995م من الفوز بمقعدين في مجلس نقابة الصحفيين ( 3000 عضواً).
وفاته:
توفي الإمام الداعية عمر عبد الفتاح التلمساني يوم الأربعاء 13 رمضان 1906م الموافق ( 22 مايو/أيار 1986م) بعد معاناة مع المرض عن عمر ناهز 82 عامًا. وكانت جنازته يوماً مشهوداً في تاريخ مصر الحديث، حيث توافد الشباب المسلم من كل فجّ لحمل الجنازة .
مذكرات الزعفراني
التلمساني: قلت للسادات في الإسماعيلية.. لو اتهمني أحد لشكوته إليك.. أما أنت فأشكوك إلي أعدل العادلين
٧/ ٩/ ٢٠٠٦
يروي الشيخ عمر التلمساني، المرشد الأسبق للإخوان المسلمين، واحداً من أبرز مواقفه الحاسمة مع الرئيس السادات، والتي كانت سبباً في اعتقاله ضمن حملة سبتمبر، ورواها مرشد الإخوان الراحل في كتابه «أيام مع السادات» والذي يقول فيه: قمت بزيارة إلى وزير الثقافة والإعلام منصور حسن في مقر عمله بناء علي طلب الوزير.. وحاول أن يقنعني بحضور اللقاء الفكري للرئيس السادات بالإسماعيلية يوم ٢٨ رمضان (عام ١٩٧٩).. وفي النهاية ومع إلحاح الوزير، وافقت علي الحضور.
وعندما وصلت إلى مكان الاجتماع جلست في آخر الصفوف، وبعد دقائق جاءني المشرف علي تنظيم الحفل، وألحّ وأصرّ علي أن أجلس في الصف الأول، وقلت إن ذلك تكريماً منهم لي، فتفاءلت خيراً، ولعل هناك بدءاً لتفاهم جديد، ولكن هذه الجلسة كانت لغرض كشفت عنه أحداث الحفل، فقد أجلسني منظم الحفل في الصف الأول على كرسي، لو مددت منه خطاً مستقيماً لوجدته ينتهي عند الكرسي الذي يجلس عليه السادات في المنصة، وكأنهم أرادوا بذلك أن أكون أقرب ما أكون من السادات عندما بدأ سيل اتهاماته المنهمر، يترامى من حولي شمالاً وجنوباً ويساراً ويميناً، رجاء أن يصيبَ مني مقتلاً. تهم لي وللإخوان لا حصر لها بتخريب وعمالة وإثارة للطلبة، والعمالة والفتنة الطائفية، وكل ما في أجواء الخيال والانسجام مع الجو الشاعري الذي كنا نجلس فيه، بين أحضان حدائق الإسماعيلية الندية الوارفة الظلال، تهم من النوع الذي اعتاد السادات أن يلقيها علي كل ما لا يري فيه نابغة الزمان، وباتعة العصر والأوان.
وطال السباب، وضاق الصدر، ونفد الصبر، واستثارتني عاطفة الحب للإخوان، فقاطعته قائلاً: «إن هذا كلام يحتاج إلي ردود» فأجابني: «لما أخلص كلامي رد كما تشاء»، وظل سادراً في غلوائه، وغاب الحاضرون في أنفسهم، والذين سمعوه علي أجنحة الأثير، أنه كان في نهاية كل مقطع من كلامه يقول: «مش كده يا عمر؟!»، استنكر الشعب كله، حتي بعض من كان معه، أن يخاطبني باسمي مجرداً، غير مراع في ذلك حرمة السن، ولا طهارة شهر الله، ولا الصفة التي منحتني إياها الجامعة عندما أعطتني ليسانس الحقوق، ولا حرمة المنصب الذي يشغله، والذي يجب أن يزدان بكل لياقة وتهذيب، ولكن العيار انفلت، والبيبة صهللت، والخيال انفتح، ولم يكن في كل عيب من العيب الذي يحلو له دائماً أن يردده، وإني لأحمد الله علي أن أسلوبه لم يسؤني كما أساءه، ولم ينل مني كما نال منه، أليس البغي مرتعه وخيم؟! وكان طوال مدة حديثي يشد الأنفاس الملتهبة، من بيبته الأنيقة، حتي ظننت أنها تدانيه بكل ما أراد، وتوحي إليه بما شاء من نسج الخيال، كان الله في عوني وعونه.. عوني علي الصبر، وعونه علي الابتداع، وما إن انتهي من حديثه، حتي وقفت أمام الكرسي الذي كنت أجلس عليه، ولم يكن أمامي مذياع ولا مكبر للصوت، ولم يكن في ذهني رد معد، ولكن الله ألهم منظمي الحفل أن يأتوني بمكبر للصوت، أتحدث من خلاله، ولعلهم حرصوا من وراء ذلك أن يسمعوا العالم اعتذاراتي وأسفي وحسرتي علي ما بدر مني، فيبعث ذلك الراحة إلي صدره المثقل بعدوانه للإخوان المسلمين، ولكن أراد عمراً وأراد الله خارجة، فكان في تصرفهم ما أوضح للناس جميعاً أن من بين من في مصر، من يقول للظالم لقد جُرت وتعديت.. فندت كل التهم التي وجهها إلي وإلي الإخوان واحدة واحدة، بالدليل والبرهان وختمت ردي بالعبارات الآتية: «لو أن غيرك وجه إلي مثل هذه التهم لشكوته إليك، أما وأنت يا محمد يا أنور يا سادات صاحبها، فإني أشكوك إلي أحكم الحاكمين، وأعدل العادلين، لقد آذيتني يارجل وقد أُلزَم الفراش أسابيع من وقع ما سمعت منك»، وأشهد صادقاً أن البيبة ارتعشت بين شفتيه، وقال: «إنني لم أقصد الإساءة إلي الأستاذ عمر ولا إلي الإخوان المسلمين.. اسحب شكواك بقي»، فأجبته بأنها رفعت إلي من لا أستطيع استرداد ما وضعته بين يديه.. كانت أول مرة يخاطبني فيها بكلمة أستاذ، طوال خطابه الممل الطويل!! وانتهي الاجتماع، وأرسل لي في أعقابه فوراً وزير الأوقاف ومنصور حسن وزير الثقافة والإعلام، يبلغاني أمام من كان موجوداً، أن سيادة الرئيس لم يقصد الإساءة إلي، وأنه سيحدد موعداً لمقابلتي.. هذا اللقاء الذي لم أطلبه في يوم من الأيام، والذي زعم في خطاب ٥ سبتمبر سنة ١٩٨١، أنني طلبته ورفض، ويا له من رجل يستطيع أن يقلب الحقائق في غيرما تأثم ولا تخرج، ثم انصرف كل منا إلي شأنه، ولم أتصور أنه سيتعرض لهذا الموقف علي الشكل الذي صوره في خطاب ٥ سبتمبر سنة ١٩٨١، وهي بعيدة كل البعد عما حدث في ذلك اللقاء.
في سجن الواحات
عمر التلمساني وقضايا الأمة:
وكتب (علاء محمد عبد النبي) في ذكرى الأستاذ عمر التلمساني يقول:
يأتي رمضان من كل عام بذكرى أستاذنا فضيلة المرشد الثالث: عمر التلمساني
أول محامى يلتحق بجماعة الإخوان المسلمون.
من هو عمر التلمسانى؟
الأستاذ عمر التلمساني - المرشد الثالث للإخوان المسلمين
ولد المرشد الثالث للإخوان المسلمين: الأستاذ عمر عبد الفتاح التلمسانى يوم4-11-1904 بحي الغورية بالقاهرة، ويرجع أصله إلى تلمسان الجزائر وكان جده من الأثرياء,
هذا غيض من فيض من بعض القضايا التي تكلم عنها الأستاذ التلمساني، ولو تتبعنا ما كتبه الرجل لوجدناه أفاض في السياسة وشئون المجتمع وتزكية النفس والتعامل مع الشباب، كما لم يهمل جانب الأمة الآخر وهم الأقباط فتحدث عن حسن معاملتهم والتعاون معهم لأنهم من نسيج المجتمع، كما لم يهم الأستاذ التلمساني جانب النصيحة للحاكم ولم يخش يومًا في الله لومة لائم، كما أعطى قضايا التطرف جانبًا كبيرًا وندد بها وشدد على الشباب في حسن تفهم الإسلام وأنه ليس دين يدعو إلى التطرف والمغالاة لكنه دين يدعو إلى التسامح وحسن التعامل مع مقتضيات الأمور، كما ركز الأستاذ التلمساني على تكوين الشخصية الإسلامية وكيف تكون.
لقد كانت حياة التلمساني مليئةً بالأحداث وقد رحل، وما زالت بصماته واضحة في جوانب المجتمع.
المراجع:
1- عبد الرحيم بن محمد الجوهري: عمر التلمساني مجاهدًا، مفكرًا، كاتبًا، المؤسسة الإسلامية الدولية للطبع والنشر والتوزيع، 1406هـ- 1986م.
2- مصطفى العدوي: عمر التلمساني بين حماس الشباب وحكمة الشيوخ، دار الأقصى للكتاب، 1407هـ- 1987م.
3-عمر التلمساني.. المربي بين أركان بيعة
4-عمر التلمساني.. رجل أحيا الأمة.
5- الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان (ويكبيديا الإخوان).
6- الإخوان المسلمون في مصر – مصطفى الطحان ، 239، 263
7- عمر التلمساني شاهد على العصر – إبراهيم قاعود.
8- مقالات الأستاذ عبده دسوقي .