سَلَمَة بن الأكوع [نموذج من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم]
قد لا يكون هذا الصحابي من مشاهير الصحابة، لكنه كان نموذجاً لمن تلقّوا التربية النبوية: إيماناً ملأ قلوبهم، وخُلقاً قوّم سلوكهم، وتضحيةً بذلوا فيها كل ما يملكون:
دفعوا ضريبتهم للدين من دمهم والناسُ تحسَبُ نصرَ الدين مجاناً!
وإذا كان التديُّن عند بعض الناس يقتصر على نوافل الصلاة والصيام، وكان الخُلُق عندهم يقتصر على الدماثة والرفق والسماحة... فإن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم تعلّموا أن الدين عندهم هو أن يجعلوا حياتهم كلها لله: توحيداً وصلاةً وصياماً وجهاداً وبِرّاً وصلة رحم وحُسنَ جوار... وأن الخُلُق عندهم يعني الذلّة على المؤمنين، والشدّة على الكافرين، والسماحة والصدق والوفاء والصبر والشجاعة...
ولا بد أن يختص كل صحابي بخصائص تجعله يتميز فيها، "فكلٌّ مُيَسَّر لما خُلق له"، كما قال سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيما رواه الشيخان.
فهذا الصحابي سَلَمَة بن عمرو بن الأكوع كان من رُماة العرب المعدودين، وكان عدّاءً لا يسبقه أحد، وكان شجاعاً لا يكاد يضاهيه في الشجاعة أحد، وكان من المبرّزين في الكرم وفعل الخيرات، وكان صَدُوقاً حتى قال عنه ابنه: ما كذب أبي قط! وكان من أهل العلم حتى ذُكر أنه كان يفتي في المدينة.
وهو من أهل بيعة الرضوان، وممن أبْلَوا بلاءً حسناً في عدد من الغزوات، لا سيما في غزوة ذات قَرَد عام 6ه، فلقد قام بما قد تعجِز عنه كتيبة من الأبطال.
روى البخاري: عن يزيد بن أبي عبيد قال: سمعتُ سَلَمَة بن الأكوع رضي الله عنه يقول: غزوتُ مع النبي صلى الله عليه وسلم سبع غزوات، وخرجت فيما يَبعث من البعوث تسع غزوات، مرةً علينا أبو بكر، ومرة علينا أسامة بن زيد.
على ماذا بايع سَلَمَة النبي صلى الله عليه وسلم في بيعة الرضوان؟
عن يزيد بن أبي عبيد قال: قلتُ لسَلَمَة رضي الله عنه: على أي شيء بايعتم النبي صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية؟ قال: على الموت.
مشاركة سَلَمَة في بيعة الرضوان:
روى مسلم من حديث سَلَمَة بن الأكوع رضي الله عنه قال: قدمنا الحديبية مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن أربع عشرة مئة، قال: فقعد رسول الله صلى الله عليه وسلم على جبا الركية [أي: طرف البئر]، فإما دعا وإما بصق فيها، قال: فجاشت فسقينا واستقينا، قال: ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعانا للبيعة في أصل الشجرة، قال: فبايعته أول الناس، ثم بايع وبايع، حتى إذا كان في وسط من الناس، قال: بايعْ يا سَلَمَة. قال: قلت: قد بايعتك يا رسول الله في أول الناس، قال: وأيضاً، قال: ورآني رسول الله صلى الله عليه وسلم عزلاً [يعني ليس معي سلاح] قال: فأعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلم حجفة [الحجفة: الترس]، ثم بايع حتى كان في آخر الناس، قال: ألا تبايعني يا سَلَمَة؟ قال: قلت: قد بايعتك يا رسول الله في أول الناس وفي أوسط الناس. قال: وأيضاً، قال: فبايعته الثالثة، ثم قال لي: يا سَلَمَة أين حجفتك التي أعطيتُك؟ قال: قلت: يا رسول الله لقيني عمي عامر عزلاً فأعطيتُه إياها، قال: فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: إنك كالذي قال الأول، اللهم أبغني حبيباً هو أحب إليّ من نفسي.
قال سَلَمَة: ... وكنا راجعين إلى المدينة مع النبي صلى الله عليه وسلم فنزلنا منزلاً بيننا وبين بني لحيان جبل، وهم المشركون، فاستغفر رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن رقي هذا الجبل الليلة، كأنه طليعةٌ للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، قال سَلَمَة: فَرقيتُ تلك الليلة مرتين أو ثلاثاً، ثم قدمنا المدينة، فبعث النبي صلى الله عليه وسلم مع غلامه رباح بظهره [أي فرسه]، وأنا معه... فإذا عبد الرحمن الفزاري قد أغارَ على ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم [أي على خيوله] فاستاقه أجمع وقتل راعيه... فخرجتُ في آثار القوم أرميهم بالنبل [السهام] وأرتجز أقول:
أنا ابن الأكــــوع واليوم يوم الرُّضَّع
قال: فوالله ما زلتُ أرميهم وأعقر بهم... حتى إذا تضايق الجبل فدخلوا في تضايقه، علوت الجبل فجعلت أرديهم بالحجارة، قال: فما زلت كذلك أتبعهم حتى ما خلق الله من بعير من ظهرِ رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا خلّفته وراء ظهري، وخلّوا بيني وبينه، ثم اتبعتهم أرميهم، حتى ألقوا أكثر من ثلاثين بردة وثلاثين رمحاً يستخِفّون... حتى أتوا متضايقاً من ثنية فإذا هم قد أتاهم فلان بن بدر الفزاري، فجلسوا يتضَحَّون [أي يتغدون]... فصعد إليّ منهم أربعة من الجبل، قال: فلما أمكنوني من الكلام، قال: قلت: هل تعرفوني؟ قالوا: لا، ومَن أنت؟ قال: قلت: أنا سَلَمَة بن الأكوع، والذي كرّم وجه محمّد صلى الله عليه وسلم لا أطلب رجلاً منكم إلا أدركته، ولا يطلبني رجل منكم فيدركني.
قال: فما برحت مكاني حتى رأيتُ فوارس رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخلّلون الشجر [أي: يدخلون من بينها]، قال: فإذا أولهم الأخرم الأسدي، على إثره أبو قتادة الأنصاري، وعلى إثره المقداد بن الأسود الكِندي. وتبعت جيش المشركين أعْدو على رِجْليّ حتى ما أرى ورائي من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ولا غبارهم شيئاً، حتى يعدلوا قبل غروب الشمس إلى شِعب فيه ماء، يقال له ذو قَرَد، ليشربوا منه وهم عطاش، قال: فنظروا إليّ أعدو وراءهم فخليتهم عنه [أي: أجليتهم عنه]، فما ذاقوا منه قطرة، قال: ويخرجون فيشتدون في ثنية، قال: فأعدو فألحق رجلاً منهم فأصكّه بسهم... وتركوا فرسين، قال: فجئت بهما أسوقهما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: ولحقني عامر بسطيحة [إناء من جلد] فيها مذقة [شربة] من لبن، وسطيحة فيها ماء، فتوضأت وشربت، ثم أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على الماء الذي أجليتهم عنه، فإذا هو قد أخذ تلك الإبل، وكل شيء استنقذته من المشركين، وكل رمح وبردة، وإذا بلالٌ نحر ناقة من الإبل الذي استنقذت من القوم، وإذا هو يشوي لرسول الله صلى الله عليه وسلم من كبدها وسنامها.
قال: قلت: يا رسول الله! خلّني فأنتخب من القوم مئة رجل، فأتبع القوم فلا يبقى منهم مخبر إلا قتلته، قال: فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه في ضوء النار، فقال: يا سَلَمَة، أتراك كنت فاعلاً؟ قلت: نعم والذي أكرمك. فقال: إنهم الآن ليقرّون في أرض غطفان.
فخرجوا هاربين، فلما أصبحنا، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كان خير فرساننا اليوم أبو قتادة، وخير رجّالتنا سَلَمَة. قال: ثم أعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلم سهمين، سهم الفارس وسهم الراجل، فجمعهما لي جميعاً.
مشاركة سَلَمَة في غزوة خيبر:
قال: فوالله ما لبثنا إلا ثلاث ليال حتى خرجنا إلى خيبر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فجعل عمي عامر يرتجز بالقوم:
تــــــاللّهِ لـــــــولا الله مــا اهـتـــــــــديـنــــــا ولا تصــــــدّقنا ولا صـــــلّينا
ونحن عن فضلك ما استغنينا فثبّت الأقـــــــدام إن لاقينا
وأنـــــزلن سـَـــــكينةً علينــــا
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مَن هذا؟ قال: أنا عامر. قال: غفر لك ربّك. قال: وما استغفر رسول الله صلى الله عليه وسلم لإنسان يخصه إلا استُشهد.
قال: فلما قدمنا خيبر قال: خرج ملكهم مَرْحَب يخطر بسيفه ويقول:
علمتْ خيبر أني مَرْحَبُ شاكي السلاح بَطَلٌ مُجرَّب
إذا الحروب أقبلتْ تلهّب
قال: وبرز له عمي عامر، فقال:
علمت خيبر أني عامر شاكي السلاح بطل مغامر
قال: فاختلفا ضربتين، فوقع سيف مرحب في ترس عامر، وذهب عامر يسفل له، فرجع سيفه على نفسه، فقطع أكحله، فكانت فيها نفسه.
قال سَلَمَة: فخرجتُ فإذا نفر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يقولون: بَطَلَ عملُ عامر، قتل نفسه!. قال: فأتيتُ النبي صلى الله عليه وسلم وأنا أبكي، فقلت: يا رسول الله، بطل عمل عامر؟!. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مَن قال ذلك؟... بل له أجره مرتين.
شجاعة علي بن أبي طالب رضي الله عنه:
... ثم أرسلني إلى عليّ وهو أرمد، فقال: لأعطينّ الراية رجلاً يحب الله ورسوله، أو يحبّه الله ورسوله. قال: فأتيتُ عليّاً فجئتُ به أقوده، وهو أرمد، حتى أتيتُ به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبصق في عينيه فبرأ، وأعطاه الراية، وخرج مرحب فقال:
علمت خيبر أني مرحب...
فقال عليّ:
أنا الذي سمّتني أمي حيدرهْ كلَيثِ غابات كريه المنظره
أوفّيهم بالصاع كيل السندره
قال: فضرب رأس مرحب فقتله، ثم كان الفتح على يديه. (أخرجه مسلم).
عن يزيد بن أبي عبيد رحمه الله قال: رأيتُ أثر ضربة في ساق سَلَمَة، فقلت: يا أبا مسلم ما هذه الضربة؟ فقال: هذه ضربة أصابتني يوم خيبر، فقال الناس: أصيب سَلَمَة، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم، فنفث فيه ثلاث نفثات فما اشتكيتها حتى الساعة. (أخرجه البخاري).
سرعة سَلَمَة في تنفيذ أوامر النبي صلى الله عليه وسلم:
عن إياس بن سَلَمَة بن الأكوع عن أبيه قال: أتى النبي صلى الله عليه وسلم عين [جاسوس] من المشركين وهو في سفر، فجلس عند أصحابه يتحدث ثم انفتل. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اطلبوه واقتلوه. فقتله فنفّله سلبه. (أخرجه البخاري).
هكذا كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يقتحمون المخاطر، ويفْدون دين الله بأرواحهم. وهكذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُثْني على الرجل الذي يبدي كفاءة ومهارة وشجاعة.
فصلّى الله وسلّم وبارك على هذا النبيّ وعلى أصحابه الغرّ الميامين.
وسوم: العدد 908