المسلم العامل والطبيب الإنسان الدكتور محمد سعيد النجار

المستشار عبد الله العقيل

(1334 - 1392ه / 1916 - 1972م)

مولده ونشأته

ولد الدكتور محمد السعيد النجار يوم 27/1/1916م بمدينة (دمنهور) بالوجه البحري، بمصر، ووالده المهندس محمد علي النجار. أما جدّه فهو الشيخ العلامة عبد الوهاب النجار. التحق بمدرسة (دمنهور) الابتدائية، وبعد أن أكمل المرحلة الثانوية، التحق بكلية الطب بجامعة القاهرة، وكان مثال الطالب الناجح في دراسته العلمية، ومثال الطبيب الناجح في حياته العملية، وكان شعلة من النشاط في خدمة الناس وتقديم الخير لهم، وبذل المستطاع من الجهد لتخفيف معاناة الفقر والمرض عنهم، وله في هذا المجال سجل حافل هو برنامج حياته اليومية في مصر والكويت وغيرهما إلى أن لقي الله (عز وجل)، ولا أعرف من استطاع أن يسد مسده.

قدم إلى الكويت سنة 1957م للعمل فيها بعد أن ضاقت نفسه بالأجواء التي يعيش فيها الشعب المصري تحت وطأة الدكتاتورية العسكرية، التي أهدرت الدماء، ونهبت الأموال، وصادرت الحريات، وحاربت الدعاة، حتى عمَّ الفساد والخراب أرض الكنانة، وأصبح الإنسان غير آمن على نفسه من الجواسيس وجنود إبليس. وبقي في الكويت إلى أن توفاه الله في شهر أكتوبر سنة 1972م، دون أن يزور مصر سوى مرة واحدة، عاد بعدها سريعًا إلى الكويت وقد أعيد إلى مصر ليدفن فيها بعد غربة طويلة.

شخصيته وصفاته

كان مفتاح شخصيته: المحبّة والإيثار، والعمل لسعادة الإنسان وحفظ كرامته، وكان الإسلام هو الأساس في كل تحركاته ومنطلقاته، وطلب مرضاة الله (عز وجل) هو الهدف من كل أعماله.

والإسلام الذي يفهمه الدكتور محمد سعيد النجار هو الإسلام الشامل الذي ينظم شؤون الحياة كلها، وينظر إلى المسلمين كأمة واحدة يسعى بذمتهم أدناهم.

وهو يسعى في عمل الخير ليشمل كل الناس، المسلم وغير المسلم؛ باعتبار الأخوة الإنسانية التي تنتظم البشر جميعًا باعتبارهم أبناء آدم وحواء.. فكلهم إخوة في الإنسانية وأصلهم من تراب.

وهو يرى أن الإسلام الذي جاء به محمد (صلى الله عليه وسلم) يُعنى بالفرد والأسرة والأمة والدولة على حد سواء. وأن العرب لم يصبح لهم شأن ولم تتجمّع منهم أمة، ولم يقيموا دولة ولا حضارة إلا بفضل الإسلام.

ومنهجه في العمل ليس فيه روح الحزبية والتعصب، بل كان يكره انحراف الأحزاب وإيثارها المصالح الحزبية على مصالح الأمة والوطن.

ولقد تألَّم غاية الألم من خطبة مصطفى النحاس باشا في وزارته الأخيرة حين قال: «إن كعبة قلوبنا اليوم هي (جزيرة كابري) حيث يصطاف الملك فاروق»!!

إن الدكتور محمد سعيد النجار صورة مشرقة للمسلم العامل، ترك آثارًا طيِّبة في نفوس الناس بمصر والكويت، لا يمكن أن تمحوها الأيام.

معرفتي به

عرفت الأخ الدكتور محمد سعيد النجار من خلال نشاط إخواننا الأطباء بمصر، ودورهم في حرب فلسطين سنة 1948م ومحاربة الإنجليز في قناة السويس، ثم سعدت به حين جاء إلى الكويت التي سبقني إليها قبل عامين، وكانت لقاءاتي به تتكرر في أماكن شتى، وجهوده في خدمة الناس تلتقي مع جهود إخواننا الآخرين أمثال: الحاج رسلان الخالد، والأستاذ محمد عبد الحليم الشيخ، والمهندس حلمي الكاشف، والحاج عبد الرزاق الصالح، والشيخ يوسف الحجي، والحاج علي الخضيري، والشيخ عبد الله النوري، ويعقوب الغنيم وغيرهم من روَّاد العمل الخيري بالكويت من الكويتيين والمقيمين على حد سواء.

ولا أظن أن من في الكويت ممن التقى أو سمع عن الدكتور محمد سعيد النجار إلا وفي جعبته من مآثره الكثير، فلا تكاد تدخل مجلسًا إلا وتسمع من روَّاد ذلك المجلس، القصص والروايات التي لا تحصى عن هذا الرجل المبارك، الذي غمره الله بفيض من رحمته وأسبغ عليه نعمه، وصارت حياته كلها بركة للناس ورحمة لهم، فقد بورك له في وقته وجهده وماله وأهله وعياله وبدنه، حتى إن هذا الذي يقوم به في الليل والنهار ومع جميع الناس، لا يمكن النهوض به من طائفة كبيرة، وطاقات هائلة، ولكنه فضل الله يمنّ به على من يشاء من عباده، والأخ الدكتور محمد سعيد النجار أحسبه منهم إن شاء الله.

ولن أستطرد في ذكر رواية الآخرين وما عرفوه عنه وشاهدوه منه، ولكني أذكر حادثتين فقط جرتا معي وبيني وبينه فقط:

جاءني مرة في أول الشهر، وبعد أن قبض الموظفون رواتبهم، وكان الوقت ظهرًا، وعقب عودتي من العمل، طرق جرس البيت، وحين استقبلته قال لي: يا أبا مصطفى.. هذا مبلغ بسيط أرجو أن توصله لفلان لعله يسهم في فك ضائقته، وهو من روَّاد الديوانية عندكم مساء الجمعة، وأرجو ألا يعلم مصدر العطاء. فذهلت لذلك وجادلته في الأمر، لأن الشخص المذكور معرفته بالدكتور قليلة، وأنا أعرف به منه؛ لأنه من المواظبين على حضور الندوة الأسبوعية مساء الجمعة في منزلنا، فكيف عرف عن أحواله وضائقته ولم أعرف أنا، وهو من الزوَّار الدائمين لنا؟! وبالفعل تبيَّن أن الدكتور سعيد النجار على صواب وأنه سبّاق في الخير لا يجاريه أمثالي.

والحادثة الثانية: أننا - ونحن نصارع الطغاة، ونبذل قصارى الجهد في كشف عوارهم، وبيان جرائمهم نحو شعوبهم، وبخاصة شعب الكنانة بمصر، الذي أصابه الطغيان بطامة كبرى أحرقت الأخضر واليابس، وحاربت الدعاة الصادقين والعاملين المخلصين، واحتضنت المرتزقة من العملاء، الذين يتبعون كل ناعق، ويركضون وراء المطامع، ويدوسون على القيم والفضائل، وكنا عقب استشهاد الأستاذ سيد قطب وإخوانه الأبرار - قد أعددنا الكثير من الكتب والنشرات، والبحوث والمقالات وبذلنا قصارى الجهد لمساعدة الأسر وعوائلهم، وكان التحرك يشمل الإخوان المسلمين من الكويتيين والمقيمين على حد سواء، بالتعاون مع الإخوان الآخرين من الأقطار العربية الأخرى وفي المهاجر، أقول بينما نحن كذلك، فإذا بالدكتور سعيد النجار يسهم بالمال دون توقف منه ومن الآخرين بوساطته، وإذا به يفاجئنا: أرجو ألا تتحدثوا أمامي في أي أمر ترون كتمانه، فإنني أخشى أن ينزلق لساني، واطلبوا مني ما شئتم من المال أو الجهد فأنا جندي أنتظر الأمر.

هذا التواضع الجمّ والعمل الدؤوب، والبعد عن الظهور، والحرص على مرضاة الله (عز وجل) في نفع العباد، وتقديم الخير لهم، وقضاء حوائجهم، وفك أزماتهم، ومشاركتهم أفراحهم وأحزانهم، والاستمرارية التي لا تعرف التوقف والمبادرة التي لا تعرف التردد، كل هذه الصفات التي تميّز بها الدكتور سعيد النجار تجعلنا نتقاصر أن نصل إلى مستواها أو نقاربه فيها، فهو نسيج وحده.

قالوا عنه

يقول رفيق دربه الدكتور حسَّان حتحوت مؤلف كتاب «الطبيب الإنسان» وهو الكتاب الذي اعتمدت عليه كثيرًا:

«إن سعيد النجار هو القمة الوحيدة المتفرِّدة، وأشعر أن أمثاله كانوا قلة محدودة منذ الفترة التي تلت صدر الإسلام إلى يومنا هذا.

عرفت غربته في هذا الزمان منذ عرفته، وامتدت معرفتي به اثنتين وثلاثين سنة، ويوم عرفته أبصرتُ رجلاً من أهل الجنة يمشي على الأرض، ويوم ودعته أبصرت رجلاً من أهل الأرض يمشي إلى الجنة.

من البداية ركز سعيد النجار حياته على دعامتين:

الأولى: أن تكون حياته من وسائل رحمة الله بعباده.

والثانية: أنه في كل الأمور يعامل الله لا الناس.. فهو في كل موقف طرف، والطرف الثاني هو الله.. وكانت حياته فعلاً من أسباب رحمة الله بعباده. كان في عون من يعرف ومن لا يعرف.. وفي عون من يثق به ومن لا يثق.. وفي عون من قصد إليه ومن لقيه مصادفة.. وظل سعيد النجار كالمصباح ليس في جعبته إلا النور.. ولقد عرفنا سعيد النجار فليس منا من لم يشعر أو يصرح بأن هذا الرجل ولي من أولياء الله الصالحين، وأن ولي الله قد يكون خريج جامعة، وأفنديًا يلبس بدلة، وطبيبًا يعالج المرضى، ورجلاً حليق اللحية، يسعى بينهم من بيت إلى بيت يؤدي هنا خدمة تبدو صغيرة وهناك خدمة أخرى وفي مكان ثالث خدمة ثالثة.

لقد عرفته أول ما عرفته، أيام كنا طلبة في كلية الطب، لم أكن زميلاً له، بل كان يسبقني ببضع سنوات. ولم يكن من خطباء المحافل، ولا كان من أبطال الرياضة، وإنما لفت نظري إليه وميّزه عندي وعند غيري صفة من أظهر صفاته، هي التفاني في خدمة الغير، كنت لا ألقاه في المستشفى إلا وهو ممسك بذراع مريض فقير يسعى به إلى الطبيب ويوصيه به خيرًا.

وظننتُ أول الأمر كما ظنَّ غيري أن هؤلاء المرضى لا بد أن يكونوا من أبناء قريته، وسألته عن هذا المعين الذي لا ينضب من المرضى الفقراء، فعلمت أن زميلنا لا تربطه بهم صلة ولا معرفة، ولكنه كلما وجد في المستشفى عاجزًا يؤوده أن ينهض، أو ضالاً لا يجد الطريق، أو ضعيفًا حيل بينه وبين الطبيب، أو مغتربًا لا أهل له، توقف ركبه ليعين أخاه في الإنسانية، وليؤدي حق الله عليه في الفقراء والضعفاء، فإن الله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه.

حدث أن اتفقت مع السيدة زوجته على الشروع في شراء فيلا في مصر.. يدفع عربونًا ويفي بالباقي على أقساط.. وهي تجتهد في الادخار ومع ذلك تراه يعطي الناس حتى ظنَّت أنه لابد يدّخر مبلغًا من المال، فأرادت أن تطمئن على ذلك. ولكنه في بساطته قال لها عن النقود:

«أبدًا.. أنا مش شايلهم إلا عند ربنا..». ولما مات وجدوا في أوراقه أكداسًا من كعوب الشيكات لا تنبئ كيف صرفت ولا كم ولا لمن..»

لطائف ومواقف

ويكمل الدكتور حسان حتحوت:

«ومن اللطائف الظريفة أن الدكتور سعيد كان يقود سيارته مرة ليلاً عائدًا من عيادة مريض.. ولحظ الشرطي أن السيارة تترنح يمنة ويسرة، فظن أن قائدها سكران، ولم يدر أنه النعاس.. وأخذه إلى المخفر، فما كاد الضابط المناوب «النوبتجي» يراه حتى قام فعانقه وقال للشرطي: إلا هذا.

تخرج قبلي بسنوات، فلم ألقه على الصعيد السياسي، إلا أوائل عام 1948م، وكانت الثورة في فلسطين قد بدأت، احتجاجًا على قرار التقسيم، وكان الثوار عربًا من فلسطين، ومتطوعين من البلاد العربية، كان منهم من مصر بعض الضباط، وفرق من متطوعي الإخوان المسلمين، وعناصر من حزب مصر الفتاة.. وكان له دور كبير في تأمين ما يُحتاج إليه من عتاد ومؤونة، أتيح لي أن أشهد طرفًا منه، وأنا أتأهب للسفر لعلاج المتطوعين في أبريل سنة 1948م بعد تخرجي بكلية الطب بأشهر قليلة. وانتهت مأساة 1948م، وصدر قرار حل جماعة الإخوان المسلمين، وأعيد متطوعوها تحت الحراسة من الميدان إلى المعتقلات.. ثم ما تلا ذلك من مقتل النقراشي ثم مقتل الإمام الشهيد حسن البنا مؤسس ومرشد الإخوان المسلمين.. وكانت هذه الفترة من أخصب فترات حياة سعيد النجار، وأغناها في العمل الوطني.. فقد فتح الشباب الجامعي معسكرًا دائمًا للتدريب على أرض جامعة القاهرة.. وجد ركيزته في شباب الإخوان المسلمين الذين حاربوا في فلسطين، وكان قائده حسن دوح الذي كان آنذاك طالبًا بكلية الحقوق بجامعة القاهرة.

ووجد الدكتور سعيد النجار نفسه ملتحمًا أشد الالتحام بهذا العمل، من حيث إقناع هيئة التدرس بالجامعات بتبني هذا الجهد الطلابي من الناحيتين الأدبية والمادية.. وجمع الأموال من هيئة التدريس لتمويل المعسكر. وما زلتُ أذكر بالفخر والعرفان أنه لما بدأت الجامعة معسكرها التدريبي لكفاح الإنجليز افتتحه أستاذنا الدكتور عبدالوهاب مورو.. وكان مدير الجامعة آنذاك وأعطاهم شيكًا على بياض وخصص مستشفى مورو «الخاص» لعلاج المصابين بالمجان».

ويقول تلميذه وزميله الدكتور عصام الشربيني:

«إن الدكتور محمد سعيد النجار ظاهرة فذة جديرة بالتسجيل، لأنه لم يكد يعرفه أحد إلا كان لسعيد يد عليه في نفسه أو أهله أو أصدقائه، صورة تقفز إلى ذهني حين كان الطبيب منا يكاد يهلك من العمل في الحر القائظ، ويسرع الواحد منا إلى غرفة باردة، حتى نرى الدكتور سعيد النجار قد جاء بمريضه للمستشفى الأميري واستمر في علاجه ورعايته فننهض معه مستحيين من أنفسنا.

ولقد عرفته مدرسًا لي بكلية الطب المصرية سنة 1944م ثم لم أره بعدها إلا في المحكمة العسكرية في أوائل الخمسينيات، ومصر تمر بأعنف إرهاب بوليسي لم تشهده من قبل حتى كان من يسأل عن هؤلاء المتهمين يعرض نفسه لأشد أنواع الأذى.

في هذا الجو المشحون كان الدكتور سعيد النجار يدخل قاعة المحكمة العسكرية، وهي تحاكم بعض المتهمين الإسلاميين، ليدلي بشهادته وسط ذهول الحاضرين وهمس القضاة، ليقول عن التعذيب في السجون والزنازين، الذي شاهده حين استدعي لعلاج أحد المعذبين، وأصرَّ على نقله إلى المستشفى للعلاج رغم معارضة ضابط السجن.

وحينما قامت حركة الفدائيين في قناة السويس عام 1951م ظهر الدكتور محمد سعيد النجار عملاقًا بطلاً، فقد كان يصحب الفدائيين لشراء الأسلحة لمحاربة الإنجليز، ويجمع من أساتذة الجامعات وغيرهم الأموال اللازمة للجهاد وكان لا يرضى بالتبرع بالمال القليل بل يحث المتبرعين على المزيد...».

 

ويقول عنه الأستاذ الدكتور عبد الفتاح طيرة صديق عمره منذ الطفولة:

«كانت حياته أسطورة لا يكاد يصدقها الناس، لولا أنهم يرونها وينعمون بها.. كان مجرد وجوده في مجتمع ما كفيلاً بأن يجعل كل من فيه يشعر بالطمأنينة وعدم الخوف، وكأنه حصن يحمي كلاً منهم من الحاجة والضيم والمرض والوحدة واليأس والحزن.

عرفته منذ الدراسة الثانوية، ودخلنا معًا كلية الطب، فكنا رفيقين وصديقين حتى آخر حياته، كانت لديه مقدرة عجيبة على أن يؤلف بين قلوب الناس، ويقنعهم بأسلوب ما على التزاور وعلى أن يحب بعضهم بعضًا، وكانت صفة «قريب أو صديق محمد سعيد النجار» تصريح دخول إلى قلوب الناس وشهادة ثقة، وضمانًا كنا نقضي نهارنا معًا في الكلية، ونقضي الليل معًا ساهرين نذاكر وندرس، وأشهد الله أنه لم ينطق عيبًا ولا غيبة ولا نميمة، كان يعطي الفقير بعض المال أو يشتري له الدواء، وكان المرضى يلقبونه بالشيخ سعيد. وكان الأساتذة يتنبؤون بفشله بالامتحان ففاجأهم بنجاح مبين.

بذل ما بذل في حرب فلسطين سنة 1948م، وفي حرب الفدائيين بالقناة سنة 1951م، ومنذ توظف كان سعيه في حاجات الناس مثار اعتراض رؤسائه أو أساتذته الذين ينهرونه لإحضار مرضى لهم فإذا به في اليوم التالي يحضر مزيدًا من المرضى...».

وكتب الدكتور أحمد شوقي الفنجري في 20/10/1972م بجريدة «الرأي العام الكويتية» تحت عنوان: «من الأولياء الصالحين» ما خلاصته: «إذا كان ممكنًا في عصرنا هذا أن يوجد على الأرض إنسان ممن نسميهم أولياء الله الصالحين، فلا ريب أنه كان المغفور له بإذن الله الدكتور محمد سعيد النجار.

ولقد مات سعيد النجار.. والأحرى أن نقول استشهد لأنه مات وهو يسعى على حاجات المحتاجين ويبحث عن عمل للعاطل، ومال للمدين، وحل لكل مشكلة.

تدخل بيته الفجر فتراه مليئًا.. وتذهب للمطار في الليل فتجده يودع أو يستقبل من يعرف ومن لا يعرف.. وتزور المستشفيات في حرّ الظهيرة فتجده يوصل مريضًا أو يعود مريضًا، ويأتيه الإنذار الأول بمرض القلب فيتصرف تصرف من لا يخاف الموت ولا يتمسك بأهداب الحياة ولا يغير من منهاجه شيئًا، أيام كان طالبًا في الطب لفت نظر الأساتذة بالأعداد الكبيرة من المرضى الذين كان يحضرهم ويوصي عليهم وحسبوه سمسار مرضى، فأخذوا يسألون المرضى فعلموا - والحقيقة لا تقبل الشك والتأويل - أن ذلك الرجل الإنسان كان ظاهرة نادرة في مجتمعنا قل ما تجد إنسانًا في مثل وضعه. وهذه الظاهرة النادرة الجميلة بوفاته تختفي من المجتمع، رحم الله الدكتور الإنسان محمد سعيد النجار».

قصص تروى عنه

يُروى أنه حين كان معيدًا في كلية الطب تسامع أن أربعة من طلبته سطا على مسكنهم لص وسرق ما كان منشورًا على حبل الغسيل من ثيابهم، ويفاجأ الطلبة في المساء بالدكتور النجار يطرق بابهم وقد حمل لكل منهم ثيابًا جمعها من بيته.

ويطلب منه بعض طلبته أن يشرح لهم أحد الموضوعات ويضيق الوقت الرسمي، فيدعوهم إلى بيته ويشرح لهم الدرس ويطول الوقت فيقدم لهم العشاء المتيسر ثم يستأنف الشرح حتى يفهموا الدرس على خير وجه وينصرفوا.

ويروى أنه كان يركب الترام في القاهرة يومًا فإذا بشاب يعاكس إحدى الفتيات فيسمعها عبارات غير مهذبة، ويبدو أن الشاب ظن أنه في مأمن من الناس؛ لأنه كان ضخم الجسم، بارز العضل، فكأنه مصارع، وبالفعل سكت الناس عنه فلم يتصدّ له إلا سعيد النجار، بدأ بالحسنى معه وبصوته الناعم الخفيض يذكره أن المروءة تقتضي أن يعتبر كل فتاة كأخته، فيحافظ عليها ولا يرضى لها ما لا يرضاه لأخته، وهذا الأسلوب اللين الرقيق من الدكتور سعيد النجار أغرى الشاب به، فأقذع له القول والدكتور سعيد يزيد رقّة، وهو يحاول أن يقنع الشاب دون أن يحرجه أو يجرح كرامته، ولكن الشاب زاد نزقًا، فدفع سعيدًا في صدره، وهنا كانت المفاجأة، وفي لمحة طرف كان الشاب العملاق كالعصفورة في يد سعيد النجار، وذراعه ملوية وراءه وهو يتأوه من الألم، وسعيد يهمس في أذنه معتذرًا بأنه هو الذي اضطره إلى هذا، ويستفسره إن كان في نيته أن يكف عن معاكسة الفتاة، وكانت الصدمة بالغة على نفس الشاب العملاق، فما أفلت سعيد يده حتى قفز الشاب من الترام أثناء سيره ليخفي خجلته وسوأته.

وقال أحدهم: «مرت بي ظروف ذات مرة فإذا أنا مودَع في السجن وأهمني أمر العيال ولا عائل لهم إلا ما أتكسبه من عملي يومًا بيوم، فلما خرجت من السجن وجدت أن طعامهم كان يأتي إليهم كل يوم من بيت الدكتور سعيد النجار».

وقال آخر: «جمعنا مجلس مرة مع الدكتور سعيد النجار ودار الحديث بصدفة غير هادفة، فعلم أن ابني التلميذ يجد صعوبة في مادة الرياضيات.. وفوجئت بعد أيام بمدرس يطرق الباب ليعطي ابني درسًا خصوصيًا ويقول: إن حسابه خالص من سعيد النجار».

ولقد أثنى عليه الكثيرون ممن عرفوه فضلاً عن زملائه الأطباء ومن هؤلاء: الأخ الدكتور يعقوب يوسف الغنيم والدكتور عبدالوهاب راشد والأستاذ محمد محمود صيام والشيخ عبدالرحمن البرغوثي والأستاذ سعد الناهض وغيرهم كثير في الكويت وخارجها.

أما أستاذنا الداعية الكبير الشيخ البهي الخولي صاحب كتاب «تذكرة الدعاة» فقال عنه: «هذا رجل يغضب له كل ملاك في السماء وكل ملاك على الأرض».

من أقواله

- «أضيئوا الأنوار يتبين لكم الخبيث من الطيب، واعلموا أن الشعب الذي يخاف من العصا لن يثبت أمام الدبابة».

قال هذا الكلام في اجتماع لأعضاء هيئة التدريس بجامعة القاهرة بحضور عدد من أعضاء مجلس قيادة الثورة، في الوقت الذي كان صاحب الرأي لا يستطيع الجهر برأيه من شدة الظلم والطغيان العسكري بمصر.

وفاته

توفي إلى رحمة الله في شهر أكتوبر سنة 1972م في الكويت، وكان الأصل أن يدفن فيها لأن ذلك هو الأولى، حيث يدفن المسلم في المكان الذي يموت فيه ما دامت من بلاد المسلمين لكن بعض أقاربه وأصدقائه استحسنوا أن يحمل جثمانه إلى مصر ليدفن في مقابر الأسرة هناك.

رحم الله أستاذنا الكبير الطبيب الإنسان الدكتور محمد سعيد النجار، وحشرنا الله وإياه مع النبيين، والصديقين، والشهداء، والصالحين، وحسن أولئك رفيقًا.. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

وسوم: العدد 909