الداعية الشهيد محمد صالح عمر
(1350 - 1390ه / 1930 - 1970م)
مولده ونشأته
وُلد سنة (1350ه / 1930م) في مدينة الخرطوم بالسودان، وتخرج في كلية الحقوق قسم الشريعة بجامعة الخرطوم سنة 1959م، ونال درجة الماجستير من جامعة لندن، وكان أستاذ الشريعة الإسلامية بجامعة الخرطوم، وهو من قادة الحركة الإسلامية في السودان، ومن الرواد الكبار لثورة أكتوبر سنة 1964م، وكان وزيرًا في حكومة الثورة سنة 1964م، وقد أكرمه الله بالشهادة، حيث استشهد في أحداث جزيرة (أبا) بالسودان سنة 1970م أيام الحكم الديكتاتوري في السودان.
معرفتي به
التقيته أول مرة في بيروت أوائل الستينيات الميلادية من القرن العشرين، وكنا نتدارس قضايا المسلمين وأوضاع العالم الإسلامي وموقف العاملين في الحقل الإسلامي من التحديات التي تواجههم، ومؤامرات قوى الكفر التي تكالبت على حرب الإسلام والمسلمين، وحرّكتْ عملاءها من الدمى والأقزام والفراعنة الصغار لضرب الحركة الإسلامية المعاصرة، وتصفية الدعاة إلى الله وقادة الفكر الإسلامي بكل وسائل البطش والتنكيل باعتبارهم الخطر الذي يهدد إسرائيل والشوكة التي تكدر صفو استقرارها بالمنطقة، وقد رسمت الخطط الجهنمية لتكون هذه الضربة للدعوة والدعاة أعظم وأعم من سابقاتها سنة 1948م، وسنة 1954م.
وبالفعل اعتقل عشرات الآلاف من الشباب المسلم، وصُفي الكثير منهم بأيدي الجلادين في السجون، أو على أعواد المشانق، وعاش العالم الإسلامي في ظلام دامس لغياب مصابيح الهدى وأعلام الحق، وانطلق شياطين الإنس والجن وخفافيش الظلام وفئات المرتزقة والمنافقين والمتأكلين بالدين يصفقون للفرعون ويباركون إجرامه في حق المؤمنين، وانطلقت أبواق الطاغية وإعلامه الفاجر يرعد ويزبد ويتهدد ويتوعد، وصار التدين أو ارتياد المسجد أو إطلاق اللحية أو الحديث عن الإسلام جريمة يعاقب عليها قانون الفراعنة ولم يقف الأمر عند الدعاة وحدهم، بل شمل البطش عوائلهم من النساء والشيوخ والأطفال الذين زُجّ بهم في السجون، بتهمة إيصال بعض القروش للعوائل المحتاجة من أسر الشهداء والمعتقلين.
ولما بلغ السيل الزبى، تداعى رجال الحركات الإسلامية في العالم العربي والإسلامي، وكان منهم الأخ الشهيد محمد صالح عمر للبحث في سبل التصدي لهذه الهجمة الشرسة على الإسلام والمسلمين عامة وعلى الحركة الإسلامية المعاصرة وقادتها خاصة.
والأخ محمد صالح عمر من شباب الحركة الإسلامية في السودان، نشأ في أحضان الدعوة الإسلامية وتربى على منهج الإسلام منذ كان في مقاعد الدراسة ثمّ برز داعية مثقفًا واعيًا، يتحرك بالإسلام وينتصب بقوة لتفنيد مقولات الشيوعيين والعلمانيين في أوساط الجامعة وخارجها حين تقام الندوات والمناظرات وتعقد الحلقات والاجتماعات.
وأثمرت هذه الجهود المباركة المبذولة من الأخ الشهيد محمد صالح عمر وإخوانه الإطاحة بالنظام الديكتاتوري في السودان، وتشكلت حكومة ائتلافية كان (رحمه الله) أحد وزرائها، ولم يدم الأمر كثيرًا حيث تداعى أعوان الاستعمار وقاموا بانقلاب عسكري آخر نصبوا عليه إحدى الدمى المتعاونة معهم، ليستأنف الحرب على الإسلام ودعاته.
لقد كان الأخ الشهيد من رموز الحركة الإسلامية في السودان بل إنه انتُخب لقيادتها فترة من الفترات أثبت فيها حنكة وجدارة ومرانة في سياسة الأمور ومعالجة القضايا وحلّ المعضلات.
وحين شَكّلتْ الحركة الإسلامية أواخر الستينيات كتيبة لمناوشة اليهود على الحدود، وأقامت معسكرًا لتدريب المجاهدين التحق فيه الكثير من الشباب المسلم، من مصر والسودان وسوريا والأردن ولبنان وفلسطين واليمن والعراق، وخاضوا المعارك الشرسة مع يهود التي طار صوابها حيث كانت تظن أن الضربات المتتابعة على الدعاة والتصفيات الجسدية والاعتقالات ستمنع أبناء الحركة الإسلامية من معاودة الكرة لحرب إسرائيل، وقد استشهد عدد من الإخوة الكرام من مصر وفلسطين وسوريا واليمن، كما سقط الكثير من الجرحى والمصابين بعد أن أصابوا من العدو اليهودي مقاتل موجعة وضربات قاتلة.
وحين استشرى الشر في السودان وأوغل الديكتاتور العسكري في الظلم والبطش وعمّ البلاء سائر طبقات الشعب واستعملت كل وسائل التنكيل، بما فيها هدم البيوت على ساكنيها، واستعمال الطائرات لقصف مناطق المسلمين، كان الأستاذ محمد صالح عمر مع إخوانه السودانيين في خط الرباط وميدان القتال ضد يهود فاستأذن للعودة مع مجموعة من إخوانه إلى السودان لمحاربة الطاغية والتصدي لظلمه، وشارك في المعارك التي خاضها الشعب السوداني في جزيرة (أبا) ولقي ربه شهيدًا متقبلاً؛ إن شاء الله.
إن الأستاذ محمد صالح عمر داعية دمث الخلق لين الجانب مع إخوانه، صلب متمرس في ميادين القتال، سياسي محنك داهية يعرف ألاعيب السياسة ودروبها، فلا ينخدع بمعسول الكلام الذي يجري على ألسنة السياسيين، ولا يغتر بالوعود الكاذبة التي يطلقونها هنا وهناك.
وفي نفس الوقت هو داعية عالمي النزعة يتجاوز الحدود الإقليمية ويستعلي على الروابط الطينية وينتظم في صف العاملين لوحدة الحركة الإسلامية انطلاقًا من عالمية الإسلام ومن أمة الإسلام الواحدة.
لقد تكررت لقاءاتي مع الأخ الشهيد محمد صالح عمر، فلم تزدني إلاّ حبًا له، وإكبارًا لمواقفه، وثقة بدينه وإعجابًا بثاقب رأيه وبُعد نظره.
كما كنت أغبطه على الحرص الشديد للقاء ربه شهيدًا في ميادين القتال ضد أعداء الله، وكان مستشرفًا للشهادة في فلسطين مع إخوانه الذين سبقوه، فشاء الله أن يكرمه بالشهادة مع إخوانه السودانيين في جزيرة (أبا).
قال عنه الشهيد عبد الله عزام في كتابه: «الدعوة الإسلامية فريضة شرعية وضرورة بشرية»:
«وهذا المجاهد محمد صالح عمر - الوزير السوداني - يدوس الدنيا بقدمه، ليعيش في الخيام مجاهدًا فوق أرض فلسطين، ويواصل جهاده حتى يلقى ربه شهيدًا في جزيرة أبا».
رثاه الأستاذ الداعية فتحي يكن بقوله:
«.. عرفتكَ أيها الشهيد الجديد فعرفتُ فيك الإخلاص والصدق والجرأة في الحق والنظر الثاقب والفكر النّير والرأي السديد. إن خسارتنا بك كبيرة وإن تك خسارة السودان أكبر.. كان أمل الإسلام في السودان يلتمع في عينيك، وكانت الثقة بانتصار الإسلام تبدو من خلال أفكارك وتصرفاتك فكنت - حقًا - صورة للمسلم داعيةً وجنديًا وقائدًا.
واليوم نفتقدك في الليلة الظلماء، نفتقدك ونحن أحوج ما نكون إليك، نفتقدك وأنت في أوج عطائك ونضجك.. ولكنك أيها الراحل العزيز ستكون كما كان الذين سبقوك شحنة إيمان وقبسًا من نور في طريق الزحف الإسلامي الكبير..» انتهى.
رحم الله أخانا الشهيد محمد صالح عمر، وجمعنا وإياه في الجنة مع النبيين، والصديقين، والشهداء، والصالحين، وحسن أولئك رفيقًا.
وسوم: العدد 911