الأستاذ سليمان خالد الدرويش رحمه الله
نعما رجالٌ عرفتهم (28)
1358-1442هـ
المروءة ُ خُلُقٌ جليل،وأدبٌ رفيع يتميَّز بها كرامُ النَّاس ، وهي سَمْتُ الأنبياء، وصِفَةُ الأولياء ، وحِلْيَةُ الصَّالحين ، وهي خُلَّةٌ كريمة ، وخَصْلةٌ شريفةٌ تحملُ صاحبَهَاعلى الوقوف عند مكارم الأخلاق ،وجميل العادات، وكريم الطَّبــائع، لترى الصِّدقَ والكرم ، والنخـوةَ والهِمم، وجمالَ النَّفس والرُّوح وبذلَ المعروف بوجهٍ طلق، والجودَ والنَّدى بالرَّاح والمحيَّا ، ونعمَّا هم أصحابُ المروءةِ فهم أهل الفضل في كل زمانِ ومكان ،أجل
هذه الصِّفةُ وتلك الخُلَّةُ تزيد في لحمة المجتمع وتماسكه ،وتقوي وشائجه وصِلاته ليكون أقوى وأصلب كيف لا! وبالأخلاق الفاضلة يرقى المجتمع ويسمو إلى أحسن حالاته تكافلاً وبراً ، تواصلاً وحُبَّاً، وصِلةً وودَّا
وقد جاء ديننا الحنيف ليحثَّ على مكارم الأخلاق فقد روى أبوهريرة رضي الله عنه أن حبيبنا المصطفى صلى الله عليه وسلم قال :( إنَّما بُعثتُ لأتمم مكارم الأخلاق )
وقول سيد الخلق محمدصلى الله عليه وسلم:( إنَّ أحبَّكم إليَّ وأقربَكم مني منزلةً يوم القيامة أحاسنُكم أخلاقاً)
ورحم الله أمير الشعراء أحمد شوقي مؤكداً أن الأخلاق هي ضمان وأمان وسلامة المجتمعات بقوله:
حديثي بعد طول غياب عن رجلٍ فاضل جسَّد المروءة بفعاله ،والأدب بمقاله، والأناةَ والحِلْمَ بحاله أجل حديثي عن رجلٍ كريم ، وامرؤٍ حليم،وأستاذٍ قدير ، مربٍ للأجيال عرفته منذمايقارب من ثلاثة عقود، وصاحبته صحبة العارف القريب، ورافقته في الحل والترحال داخل المملكة وخارجها ، وتعاملت معه بالدرهم والدينار فكان نعماهو في جميع حالاته ، كان نِعِمَّا الأخُ والصَّاحب ، ونعمَّا الجليسُ والرَّفيق ،ونعمَّا الصَّديقُ والودُّ إنَّه الأستاذ الفاضل ،والمربي القدير، عميد أسرة الدرويش الأستاذ سليمان خالد الدرويش الذي توفاه الله هذا العام 1442هـ رحمه الله وطيب ثراه ،وأحسن مثواه ،وتقبله في عليين وقصتي معه ابتدأت في أواخر أيام عملي مع الحرس الوطني السعودي في الأحساء عام 1413هـ بعد أن حصلت على رخصة واستثناء من وزير الصحة لافتتاح عيادة خاصة لي في الأحساء فبتُّ أبحث عن موقع مناسب للعيادة واستشرت أهل الرأي والحكمة في هذه البلدة الطيبة وكان ممن استشرت في ذلك الأستاذ الفاضل عبد العزيز سليمان العفالق حفظه الله ورعاه رجل الأعمال المعروف بدماثته وخُلُقه ، وبُعد نظره وحِكمته والذي تبوأ قبلُ منصب رئيس الغرفة التجارية بالأحساء ،ونائب رئيس الغرف التجارية في المملكة العربية السعودية ،حيث زرته في مكتبه في شارع الظهران في المبرز ،وكان بيننا صحبةٌ وودٌ ، وأخبرته بجديدي وبحثي عن موقعٍ مناسب لعيادتي الخاصة ،وبعد التشاور ماكان منه إلا أن رفع سماعة الهاتف ،واتصل بالأستاذ سليمان خالد الدرويش رحمه الله الذي يملك عمارة ً في ناصية شارع الظهران في واجهة المبرز وأهم تقاطعٍ فيها.. كان حينها رحمه الله من أعمدة رجالات التعليم ومديراً لمدرسة عمار بن ياسر المهم أنه اتصل به وأعلمه بالأمر بعدما زكَّاني له فرحب الأستاذ سليمان الدرويش وأجاب لأتواصل بعدها معه، وتمت كتابة عقد استئجار العيادة في المدرسة بحضوره وإياي وحضور كل من الأستاذ الفاضل عبد الله حماد الهثلان والأستاذ أحمدسعد الشهاب حفظهما الله تعالى كان هذا بتاريخ 15/8/1413هـ.
والحقيقة التي أحبُّ أن أسطِّرها أنه مُذ عرفته في ذلك التَّاريخ عند كتابة العقد إلى قبيل وفاته بشهر رحمه الله حيث عُدته في مرضه في منزله في الخبر مع الأستاذالفاضل أحمد العيسى حفظه الله بقيت واستمرت علاقتنا طيلة عقودٍ ثلاث كأننا من رحمٍ واحدٍ متميزةً راقيةً وعلى أحسنها وأتمِّها أخوةً وصحبة ً ،مودَّةً وألفةً ، تعاملاً ورفعةً ، كان بحق نعما الأخُ والصَّاحب ، ونِعْمَ الصَّديقُ والرَّفيق ، وما أجمل جلسات السَّمر معه وما يكنزه في ذاكرته من ذخيرةٍ أدبيةٍ وشعريةٍ لأتذكَّر ماسمعته منه من قصائد غاية في الجمال من لُبِّ ذاكرته ومكنون حفظه أذكر أني سمعت قصيدة الأرملة الفقيرة للشاعر القدير معروف الرصافي لأول مرةٍ من فيه عذبةً رائعةً!! وكم تأثرت بها تلك التي يقول الرصافي فيها:
لقيتـــــها ليتنــي ماكنــــت ألقــــــــاها
تمشـــــي وقد أثقل الإمــلاق ممشاها
أثوابها رثّــــة والرِّجْـلُ حافيـــــــــــة
والدّمعُ تذرفــــهُ في الخــدّ عينــــاها
بكَــتْ من الفقر فآحمـرت مدامعهـــا
وآصفرّ كالورس مــن جـوعٍ محياها
مات الذي كـان يحميهــا ويســعدها
فالدّهــر مــــن بعده بالفقــر أنساها
الموت أفجعهـا والفقـر أوجعهـــــــا
والهــــــمّ أنحلهـا والغــــمّ أضنــاها
فمنظــر الحـزن مشهود بمنظــرها
والبؤسُ مـــرآة مقـــرون بمرآهـــا
تمشــي وتحمـلُ باليسرى وليدتهـا
حمــلاً على الصّـر مدعوماً بميناها
تقــولُ يارب لا تتــرك بلا لبــــــــن
هـذي الرّضيعــة وآرحـمني وأياها
كانــتْ مصيبتهـا بالفقــرِ واحــــدة
وموت والدهــــا باليتــم ثناهـــــــا
هـــذي حكايـة حالٍ جئتُ أذكرهــــا
وليس يخفى على الأحـرار مغزاها
ليس هذه القصيدة التي أسمعنيها فحسب بل غيرها وغيرها كثير ،وكم كنت آنس بحكمته وأدبه ، ورزانته وحِلمه، ولم أسافر في حياتي مع أحد كماسافرت معه فقد صحبته للبحرين وقطر والأمارات العربية المتحدة ولبنان وتركياعدا عن سفرنا في المملكة كان يحبُّ رفقتي وكنت كذلك أحبُّ صُحبته.كان نعمَّا التعامل معي منذ استأجرت العيادة منه وطيلة عقودٍ ثلاثة ، بل كان يعتبرني كأني صاحب حلال !!وهذا من خلقه الرفيع ودماثته ولطفه لأتصرف كأني المتصرف في العمارة في غيابه ،ولي في ذلك قصَّةٌ معه ففي إحدى سفراته مع أسرته في الصيف إلى لندن كأنها كانت عام 1426هـ ،حدَّثته عن حاجة العمارة إلى تغيير واجهتها القديمة وضرورة ذلك خصوصاً أنَّها تقع في واجهة مدخل الأحساء وناصية شارع الظهران وبوابة المبرز فكان أن أجابني ووافق على ذلك ،وأوكل الأمر إليَّ، ثمَّ سافربعدها إلى لندن فكان أن تصرفت في غيابه كأن الأمرَ لي وأتيت بالمقاولين والمهندسين واتفقت معهم لتغيير واجهة العمارة ومدخلها ودفعت من مالي الخاص كل المبالغ اللازمة على مدار أكثر من شهرين.. ولما عاد من سفره كانت الواجهة بأبهى حُلَّةٍ وعلى أحسن صورةٍ وهيئة ٍ وهي الصُّورةُ التي عليها الآن فسُرَّ بما تم َّ،وسألني عما دفعت والكلفة دون أن يسأل عن الفواتير !!والله على ماأقول شهيد ، فأخبرته بذلك ومادفعته ،وقدمت له الفواتير بمايزيد بقليل عن مائة ألف ريال ،وقد ظن أنه سيدفع مبلغاً يزيد عن ضعف المبلغ الذي قلته له ،وكان سرورُهُ حينَها عظيماً لأقول:
إنَّ شجرة علاقتنا نمت وترعرعت وزهت وأزهرت لتكون مثمرةً على الدَّوام،ولنكون قريبين ماانقطعنا عن بعض طيلة عقودٍ ثلاث ، وقددعاني في السنوات الأولى من تعارفنا
إلى دارية متميزة تضم نخبةً من أهل الأحساء ونخبة من رجالات التعليم القديرين كنا نجتمع فيها كل أسبوعين نقطف فيها من ثمار الأدب والحكمة والشعر والبيان ،بأماسي ماأجملها من ليال ، وماأبهى أنسها تحت ظلال النخيل والقمر يتلألأ ضاحكاً من خلال سعفها .
ضمَّت هذه الدارية خيرةً أفاضل َمنهم الأستاذ إبراهيم الحسيني مدير تعليم البنين سابقاًرحمه الله، والأستاذ علي الألمعي مدير تعليم البنات في الأحساء سابقاً ،والأستاذ عبد المحسن المديرس ،والأستاذ أحمد العيسى، والأستاذ أحمد المغلوت مدير الأحوال المدنية بالأحساء رحمه الله ،والأستاذ عبد الله الفويرس مدير جوازات الأحساء سابقاً رحمه الله ،والأستاذ عبد الله الرشيد ،والأستاذ محمد المهاوش ،حفظهم الله تعالى وقد كنت معهم في هذه الدارية لأكثر من عقدٍ من الزمان رحم الله من سبقنا إلى دار البقاء، وأطال عمر من بقي بالخيروالصحة
والبروالعطاء.
كان رحمه الله دمثَ الأخلاق ، طيِّبَ المعشر ،كريمَ الطبع، صاحبَ ودّ، أديباً ذواقاً للشعرمن طرازٍ فريد ، يحب السَّكينة والهدوء ، ويكره الصَّخب والضَّجيج ،ندي َّ الراحات في الإنفاق ، عرفه أهل ُ الأحساء بذلك ،وعرفته جمعية البِرِّ التي كان أحدَ أعمدتها ورموزها وكان من داعميها،
كما كان صاحب هِمَّةٍ ونشاط ٍ يُسابق في مشيته ونشاطه الشباب وكانت رياضة المشي صباحاً بعد الفجر من أموره الاعتيادية اليومية حتى ناهز الثمانين قبل أن يقعده المرض في العامين الأخيرين وقد عُدته في مرضه قبيل وفاته بشهر في الخبر مع الأستاذ الفاضل أحمد العيسى صديقه ورفيقه وصاحبه وحضر حينها ابن عمه المهندس عبد العزيز الدرويش حفظه الله وكان ولده الأستاذ محمد حينها وكان رحمه الله حاضر الذهن ،سريع البديهة ، يسأل ، ويطمئن ،ويستفسر، ويحاور وهو على سريره إلا أن لكل أجلٍ كتابٌ، وهكذا هي الدُّنيا متاعٌ قليل ، وظلٌ زائل، وأملٌ مُنقطع، تأخذُ الأحباب، وتُفرِّق الأصحاب ، لاتُبقي على أحد، ولايدومُ لها حال
رحم الله أباخالد رحمه الله رحمةً واسعةً وقد أخبرني ولده الأستاذ محمدسليمان الدرويش حفظه الله بعد وفاته أن العمارة التي فيها العيادة أوقفها والده رحمه الله للبر والخير وقفاً دائماً غير منقطع وقفاً لله فهنيئاً له أياديه البيضاء في البروالخير رحمك الله ياأباخالد رحمك الله وطيب ثراك وأحسن مثواك وتقبلك في عليين وجمعنا بك في جنات النعيم وفي مستقر رحمته ،فهو أرخن الراحمين والحمد لله رب العالمين
وسوم: العدد 938