أبو عبيد بن مسعود الثقفي
[ القائد الخبير الشجاع... ولكن! ]
[مختصر من مقال الأستاذ أحمد تقيّ الدين. مجلة الأزهر: المحرّم 1422ه]
في الوقت الذي سَحقت فيه جيوش المسلمين بقيادة خالد بن الوليد جيوشَ الروم في اليرموك، كان الوضع في العراق شديد الحرج، حيث استغل الفرس فرصة خروج خالد بجيشه إلى الشام لمحاولة استرداد ما استولى عليه المسلمون منهم، وبذل المثنى بن حارثة الشيباني جهوداً فائقة في الحفاظ على الفتوحات الإسلامية في العراق، وأدرك حرج الموقف، فسافر على عجل إلى المدينة المنورة للقاء الخليفة الصدّيق ليعرض عليه الأمر، فوجده مريضاً مرض الموت، فأطلعه على حقيقة الموقف، وأنه لا يستطيع أن يحتفظ بما فتحه المسلمون من أرض العراق بتسعة آلاف مقاتل في مواجهة جحافل الفرس الجرارة، فصاح الصدّيق بمَن حوله: "عليّ بِعُمر"، فجاء عمر، فقال له الصدّيق: "إن أنا مت فلا تمسين حتى تندب الناس مع المثنى".
وينتقل الصدّيق إلى جوار ربّه ويتولّى عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، مقاليد الخلافة، فيكون أول عمل له أن نادى في المسجد: "الصلاة جامعة"، فاجتمع الناس، فدعاهم عمر إلى الجهاد لحرب الفرس، فلم يُجِبْه أحد، فلمّا تكرر ذلك ثلاثة أيام تكلّم المثنى بن حارثة وشجّع الناس على قتال الفرس. والتزم الجميع الصمت، وعمرُ ينظر في وجوه القوم حتى سُمِع في المسجد صوت رجل يقول: "أنا لها يا أمير المؤمنين". وتَشْخص الأبصار صوب مصدر الصوت، فإذا هو "أبو عبيد بن مسعود الثقفي"، وكان شاباً شجاعاً خبيراً بالحرب والمكيدة، فتتابعت أصوات القوم معلنة التطوع للجهاد في سبيل الله حتى بلغ عددهم ألف مقاتل.
ويتقدّم عمر صوب هذا الرجل الذي لم تكن له صحبة مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ليُؤمِّرَه على القوم. فلما اعترض بعضهم بمقولة: "أمِّر عليهم رجلاً له صُحبةٌ مع السابقين من المهاجرين والأنصار"، غضب عمر وقال: "والله لا أفعل. يا أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم لا أنْدُبُكم فتَنْكُلون، وينتدب غيركم فأؤمِّركم عليه، إن الله إنما رفعكم بسبقكم وسرعتكم إلى العدو، فإذا جَبُنْتُم وكرهتم اللقاء فأولى بالرياسة منكم مَن سبق إلى الدفع وأجاب إلى الدعاء".
ولكن الفاروق عاد واستدرك موجّهاً الخطاب إلى أبي عبيد فقال له: "اسمع من أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم وأشركهم في الأمر، ولا تجتهد مسرعاً حتى تتبيّن، فإنها الحرب، والحرب لا يُصْلحها إلا الرجل المِكّيث الذي يعرف الفرصة والكفّ، ولقد بعثتُ معك رجلاً هو أفضل منك إسلاماً فاقبل مشورته". وأشار إلى سليط بن قيس.
وتتابع المسلمون يلبّون نداء الجهاد حتى بلغ عددهم خمسة آلاف، فسار بهم أبو عبيد نحو (الحيرة)، وجعل لا يمر بحيّ من أحياء العرب إلا استنفرهم للجهاد في سبيل الله، حتى انتهى إلى مكان قرب الكوفة حيث كان المثنى يعسكر بجنوده قريباً من جيوش الفرس.
والتقى الجمعان في 8 من شعبان سنة 13ه حيث دار بينهما قتال شديد هُزِمَ فيه الفُرس وسقط (جابان) قائد الجيوش الفارسية أسيراً بيد رجلين من المسلمين، وهما لا يعرفان مَن هو، وهو يُخفي حقيقته، وطلب منهما الأمان وأن يُدخلاه على أميرهم، فأمّناه وأدخلاه على أبي عبيد، وهناك كشف أمرَه بعضُ بني ربيعة وأشاروا بقتله. لكن أبا عبيد قال: "معاذ الله من ذلك. إني أخاف أن أقتله وقد أمّنَه رجل مسلم". فقالوا له: إنه الملك! فردّ عليهم: "وإن كان. والله لا أغدُر!".
وواصل أبو عبيد مطاردة الفرس حتى وقع قتال عنيف أحرز فيه المسلمون نصراً مؤزراً. وبعث أبو عبيد خُمس الغنائم إلى الخليفة عمر رضي الله عنه.
ثم تمكّن الفرس من تجميع جنودهم مرة أخرى، لكن أبا عبيد انقضّ عليهم وفرّق جمعهم.
ولم ييأس الفرس، فأعادوا حشد جيوشهم في المدائن استعداداً لجولة جديدة تحت قيادة (بَهْمَن جاذويه) الذي زحف بجيش جرار تجاه (الحيرة) والتي اتخذها أبو عبيد مقرّاً لقيادته. ويعلم أبو عبيد بذلك فخرج من فوره من الحيرة حتى بلغ نهر الفرات، في حين وقفت جيوش الفرس على الجهة المقابلة من النهر التي تُعرف بـ (قس الناطف)، وأرسل (بهمن جاذويه) أحد رجاله إلى أبي عبيد يقول: "إما أن تعبروا إلينا وندعكم والعبور، وإما أن تدعونا نعبر إليكم".
وهنا تحدُث المأساة، ويرفض أبو عبيد الثقفي مشورة قادة جنده (سليط بن قيس) و(المثنى بن حارثة الشيباني)، حيث ألحّا عليه بأن يدع الفرس يعبرون أولاً، لكن أبا عبيد رفض ورماهما بالجبن، فقال له سليط: "أنا والله أجرأ منك نفساً، وقد أشرنا عليك بالرأي فستعلم".
وهكذا بدأت الهزيمة قبل أن تبدأ المعركة، نسي أبو عبيد بن مسعود الثقفي أوامر الخليفة له يومَ ولّاه قيادة الجيش: "اسمعْ مِن أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم وأشركهم في الأمر، ولا تجتهد مسرعاً حتى تتبيّن"، بل وخَصّ الخليفة سليطاً بن قيس بالذكر بقوله: "قد بعثت معك رجلاً هو أفضل منك إسلاماً فاقبل مشورته". لكن حماسة القائد الشاب وتتابع النصر أنساه تعليمات قائده الأعلى فضلاً عن استفزاز رسول (بهمن جاذويه) حيث قال لأبي عبيد: "إن الفرس قد عيروكم بالجبن".
وكان الجسر الذي سيعبر عليه المسلمون قديماً ضيقاً لا يسمح بحرية الحركة لجيش زاحف، فما أن توسط جيش المسلمين الجسر حتى انقضّ عليهم الفرس يمطرونهم بالسهام والمنجنيق قبل أن يكتمل عبورهم.
وعندما وصلت بعض القوات إلى ضفة النهر في مواجهة القوات الفارسية فوجئوا بسلاح جديد لم يألفوه من قبل: الفِيَلَة.. والخيل المغطاة بالدروع، مما أفزع خيل المسلمين، فأجفلت وولّت هاربة.
فترجّل أبو عبيد عن فرسه وتبعه جنوده في شجاعة نادرة لمواجهة الفِيَلة، وصاح أبو عبيد في رجاله: "احتوشوا الفيلة وقطّعوا بُطُنها واقلبوا عنها أهلها".
وواثب أبو عبيد فيل المقدّمة الأبيض فتعلّق بحزامه وقطعه، فسقط مَن كانوا على هودجه، وأراد أبو عبيد أن يقتل الفيل وقال: "يا معشر الناس، إني حامل على هذا فانظروا إن قتلتُه وهزمتُ مَن حوله فأنا أميركم، وإن قُتِلتُ فأخي الحَكَم أميركم، فإن قُتل فولدي وهب، فإن قُتل فولدي مالك، فإن قُتل فولدي جبر، فإن قُتل فأبو القاسم، فإن قُتل أبو القاسم فعليكم بالمثنى".
وسقط أبو عبيد شهيداً بعد أن وطئه الفيل، فحمل اللواء أخوه الحكم، فقاتلَ الفيلَ حتى استخلص أخاه من تحت أقدامه جثةً ممزّقة، ثم حاول أن يقتل الفيل لكنه سقط تحت أقدامه، فحمل اللواء وهب بن أبي عبيد فقاتل حتى قُتل، فانتقل اللواء إلى جبر بن أبي عبيد فقاتل بدوره حتى قُتل.
وهكذا آثر البطل الشاب أبو عبيد بن مسعود الثقفي، هذا المجاهد الذي كان الصوت الوحيد الذي لبّى النداءَ يومَ سكت القوم بقوله: "أنا لها" أثرَ أن يموت وأبناؤه شهداء تحت راية الحق.
وسوم: العدد 941