كاتبٌ وكتاب
أما الكاتب فهو الدكتور المرحوم محمد أمين المصري، العالم الداعية المربّي المحدّث، خرّيج جامعة كامبردج.
وأما الكتاب فهو "تربية القادة". الذي يرسم ملامح التربية التي يخرّج القادة، لا الأتباع ولا العبيد.
لنبدأ بتعريف الكاتب:
إنه عالم، محدث، مربٍّ، عرفته جامعة دمشق ومساجد دمشق، لا سيما مسجد المرابط، بدروسه المتميزة التي تجمع بين العلم والعاطفة الصادقة القوية. نشأ في دمشق وقرأ على علمائها من أمثال الشيخ بدر الدين الحسني والشيخ أبي الخير الميداني، ثم رحل إلى مصر لطلب العلم في الأزهر، وحصل على الشهادة العالمية عام 1941. رجع إلى سورية مدرساً في ثانوياتها وداعيـاً إلى الله في مساجدها وفي عام 1951 عين ملحقاً ثقافياً في السفارة السورية في باكستان، وهناك استغل فرصة وجوده فنشط في نشر اللغة العربية وألف كتاباً في ذلك. وعقد الصلات القوية مع الشيخ أبي الأعلى المودودي رحمه الله.
سافر عام 1956 إلى بريطانيا للتحضير لرسالة الدكتوراه، وكان موضوعها (معايير النقد عند المحدثين) ورجع إلى سورية عام 1959 مدرساً في كلية الشريعة، ولكنه لم يكتف بالتدريس الأكاديمي كما يفعل الكثير من أمثاله، بل كانت له جلسات علمية، وخاصة في التفسير، وله جولات على القرى يحدّث الناس عن سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم، ولم يكن الشيخ خطيباً مفوهاً ولكنه كان محدثاً بارعاً قلَّ نظيره.
في عام 1965 كان للشيخ تجربة مؤلمة مع بعض الدعاة في دمشق، كما كان له تجربة في مسجد المرابط مع من يشاركه في الدروس، وقد رأى بُعد أحدهم عن منهج أهل السنة، ورأى سكوت الناس وخاصة أهل المال عن الانحراف الواقع، لهذه الأسباب قرر مغادرة سورية وتعاقد مع السعودية مدرساً في جامعة أم القرى. وهناك شارك في تأسيس قسم الدراسات العليا. وكان له طلابه ومحبّوه، وكانت له أحاديث في الإذاعة والتلفاز، ثم انتقل إلى الجامعة الإسلامية في المدينة النبوية رئيساً لقسم الدراسات العليا، ولم ينفك عن دروسه ومحاضراته في التفسير والسيرة النبوية. وفي عام 1977 دعي إلى مؤتمر إسلامي في ألمانيا، سافر بعدها إلى سويسرا لإجراء عملية جراحية، توفي على أثرها ونقل جثمانه إلى مكة ودفن فيها رحمه الله رحمة واسعة.
كان الموضوع الرئيس الذي شغل بال الشيخ هو التربية، والتربية الجهادية خاصة، ولذلك كان يكثر من الحديث عن غزوات الرسول صلى الله عليه وسلم وسيرته وسيرة أصحابه، وكان يقول: إن الطفل في الأسرة المسلمة يجب أن ينام على أحاديث الجهاد، وكان ينتقد طرق التعليم في المدارس الحكومية التي تبلّد الطالب ولا تجعله ينطلق علمياً وتربوياً.
كان للشيخ بحوث مهمة في التربية جمعت في كتاب: المسؤولية وكتاب المجتمع الإسلامي، وجمعت محاضراته في تفسير سورة الأنفال بعنوان: من هدي سورة الأنفال، وله من الكتب: "لمحات في وسائل التربية الإسلامية وغاياتها"، وهو أعظم كتبه، وهو كتاب يصلح أن يكون دليلاً للمربين، و"تعلم العربية لغير الناطقين بها"، وله محاضرات ودروس في سورة آل عمران لم تطبع بعد.
ركائز أفكار الشيخ محمد أمين المصري رحمه الله تعالى:
أولاً: موضوع التربية والتركيز علي تربية المنزل وتربية الأم بالذات، ويستشهد بصحابيات قدمن أولادهن للمعارك الإسلامية، ويقارن بين هذه التربية وتربية الأمهات في هذا العصر والتي من أقصى أمانيها أن يتخرج ابنها موظفاً أو طبيباً، وتصور له الحياة بأنها العيش الرغيد ولا يخطر على بالها أن تربي ابنها على الجهاد.
كما كان يتحدث كثيراً عن تربية المَدرسة وينتقد طرق التربية التقليدية التي لا تزال في مدارسنا وجامعاتنا، كنظام الامتحانات الذي يجعل الهدف من التعليم هو النجاح والشهادة بدل أن يجعل الهدف هو حب العلم.
ثم ينتقل الشيخ إلي تربية الشباب سواء في المدرسة أو المسجد أو المجتمع، ويؤكد هنا على ضرورة تربيتهم تربية القادة لا تربية العبيد.
ثانياً: الجهاد:
الجهاد الذي تركه المسلمون وحوّره وبدّله المتعالمون المنهزمون، أمام ضغط الواقع وضغط الاستشراق الخبيث.
ولذلك كان الذين لا يعرفون الشيخ رحمه الله يظنون أنه لا يتقن غير تفسير سورة الأنفال، وإنما كان يكررها لتأكيد هذا المعنى، كما كان رحمه الله يكثر من تفسير سور: آل عمران والتوبة والأحزاب لتضمنها صور المعارك الكبرى في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم، وللشيخ أبحاث قيمة في مثل هذا الموضوع مثل بحثه حول الحديث الضعيف أو الذي لا أصل له "رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر" وكيف أثر هذا الحديث وأمثاله على نفوس المسلمين.
ثالثاً: الأخطار الداخلية:
هناك أمراض أصيب بها المسلمون، أمراض نفسية وعقلية تنخر في كيانهم وتسبب لهم ضعفاً، هذه الأمراض هي الخطر الداخلي.
إن أكبر المصائب أن يصاب الفرد بنفسه وأن يلقي التبعة دائماً على غيره، ويعلق أخطاءه على مشجب الآخرين، وهذا يريحه من تأنيب الضمير وعَتب العاتبين، فمن أكبر المصائب أن نُسوّغ أخطاءنا ولا نعترف بعجزنا، ونلجأ إلى خداع النفس لكي تتهرب من الواقع.
ومن المصائب أننا لا نبحث أمورنا بشكل جدي بل نبحثها على مستوى السمر والتسلية وهو مرض "استسهال الأمور".
يقول الشيخ رحمه الله تعالى في أحد بحوثه:
"اليأس القتِّال والخوَر المميت والثقة المفقودة كل هذه هي العدو الحقيقي والعقبة الكبرى التي تواجه المسلمين، أما العدو الخارجي فأمره يهون إذا استطعنا أن نغير ما بأنفسنا".
هذا الموضوع كان يستأثر باهتمام الشيخ، لأنه يعدّ الأخطار الداخلية هي السبب الرئيسي لما حصل للمسلمين على مر العصور من تخلف.
رابعاً: كما كان الشيخ رحمه الله تعالى ينعى كثيراً على المسلمين الفهم غير الصحيح لبعض أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وآيات القرآن الكريم، بحيث إنهم يجعلون من هذه الأحاديث تكأة لعجزهم وضعفهم فيوردون أحاديث الفتن، وأن الأمر ليس له مرد، وأن كل زمان أسوأ من الذي قبله ولذلك فلا داعي للعمل والتبليغ، هذا فضلاً عن احتجاجهم بالأحاديث الضعيفة أو الموضوعة التي توهن العزائم وتبرر القعود.
خامساً: لابد من "قلة تنقذ الموقف"، قلة هي النخبة التي تستطيع حمل الأمانة، وحمل الأمانة بنفسه يفجّر الطاقات. هذه النخبة يصفها في أكثر بحوثه، يقول في رسالة "المعاني الدخيلة على التربية الإسلامية": ((فالأمة التي يفقد أبناؤها حمل الرسالة تفقد معاني الجهاد وتفقد قيمة الحياة)).
(مصدر الترجمة: رابطة أدباء الشام، وملتقى أهل الحديث، بتصرّف)
وأما الكتاب فهو "تربية القادة" وهو يترجم ثقافة الكاتب التي تجمع بين التعمّق في علوم الشريعة، والاعتزاز بالانتماء إلى الإسلام، وبين الاختصاص في العلوم التربوية، هذا الاختصاص الذي يمكّنه من معرفة الدوافع النفسية وأصول بناء الشخصية. وسننقل فيما يأتي فقرات من هذا الكتاب، بشيء من التصرف والاختصار لنتعرف إلى المنهج الذي يراه الكاتب في تربية القادة.
كانت أكثر البلاد الإسلامية ترزح تحت نير الاستعمار الصليبي، وكان السيد محب الدين الخطيب يجاهد بقلمه وكان يصدر في مصر مجلة "الفتح"، وكان من عادته أن يتوج الصفحة الأولى من مجلته بحكمة مأثورة أو حديث شريف ليوقظ العيون النائمة، وكان من ذلك حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنت على ثغرة من ثغر الإسلام؛ فلا يُؤتَينّ الإسلام من قِبَلك". أو كما قال عليه السلام، ومن ذلك الجملة التالية:
المسلمون إلى خير ولكن الضعف في القيادة...
لقد فوجئت بهذه الكلمة ورأيت أنها بلغت أعماق نفسي...
إن لدى المسلمين في مجموعاتهم العديدة طاقات هائلة لا تجد من يحسن توجيهها إلى السبيل المؤدية... وكنت طالباً في كلية أصول الدين في الجامع الأزهر، وكنت ألاحظ أن هذه الجامعة والجامعات الإسلامية الأخرى ليس في منهجها أن تخرج للمسلمين قادة ولكنها تخرج أناساً عاديين لا يغنون في الشدائد غناء كبيراً... أين أولئك الذين يتقفّوْن خطا الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام؟!.
القيادة ليست إلا شطر القضية:
كنت أحسب أن وجود القائد هو القضية كلها، ولقد دفعني ذلك إلى تتبع الموضوع فقرأت ما يذكر عن معاهد تنشأ لتخريج القادة، ومعاهد أخرى لعباقرة العلم الذين يرجى منهم أن يقودوا الحركة العلمية في مستقبل أيامهم...
وبعد تتبع الموضوع تبين أن القيادة ليست إلا شطر القضية، وشطرها الآخر الأمة بمجموع أفرادها، ولا بد من شروط تتحقق لتتم استجابة الأفراد للقيادة: شروط في القيادة، وشروط في الأفراد أنفسهم. وكل ذلك يؤدي إلى تفاعل متبادل بين الجانبين وانسجام بينهما. ويمكن السير في سبيل آخر في التعبير: هنالك إلى جانب القيادة الأولى قيادات أخرى عديدة كقيادة المعلم في غرفة درسه والمدير في مدرسته والأم في منزلها والرئيس في مصنعه ودائرته وعالم القرية في قريته، وكل هذه القيادات لها أثر كبير في نجاح القيادة الأولى وحسن سيرها. لقد دعا نوح عليه الصلاة والسلام قومه أحقاباً من الدهر وما آمن معه إلا قليل، أما محمد صلوات الله عليه وسلامه فكان إلى جانب قيادته أفذاذ من الرجال لا مثيل لهم في التاريخ.
المسلمون وُضِعوا موضع القيادة:
إن المسلمين وضعوا موضع القيادة للعالم كله، وطلاب الجامعات الإسلامية أجدر الناس بمعرفة مكانتهم والحرص على استيفاء شروطها، قال تباركت أسماؤه: (كنتم خير أمة أخرجت للناس). وهذه الميزة تستلزم السمو والتفوق، وكل ذلك يؤدي إلى وراثة الأرض والخلافة فيها وقيادة الناس وتصريف شؤونهم. قال تعالى: (وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليَسْتَخلِفَنّهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم، وليُمَكننّ لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمناً، يعبدونني لا يشركون بي شيئاً ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون).
المسلمون يحملون أشرف رسالة:
إن المسلمين خير أمة أخرجت للناس ولذلك كانت لهم قيادة العالم بأسره، وهم خير أمة؛ لأنهم يحملون خير رسالة وأكرمها إلى الناس جميعاً، ولقد فهم ربعي بن عامر هذه الرسالة أوضح فهم حين وقف أمام رستم قائد الفرس يدعو إلى الإسلام قبل مناجزة القتال، لقد قال رستم لربعي: إنما أخرجكم من دياركم الجوع!. فقال ربعي: كان ذلك من قبل، ولكنّا الآن بعد أن بُعث فينا محمد صلى الله عليه وسلم جئنا لنخرج الناس من عبادة الناس إلى عبادة الله، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام... إنها كلمة تحمل في ثناياها سنن الرشد كلها وأسس الخير جميعها:
إن مهمة المسلمين إنقاذ الناس من الشرك بأنواعه، وفي ذلك تعود للإنسان إنسانيته وكرامته، فإذا ترك المرء القوانين التي يضعها الطغاة ليستمسك بشرعة الله كانت النتيجة أمرين:
أولهما: الخروج من ضيق الدنيا إلى سعتها.
وثانيهما: الخروج من أنواع الظلم التي يضعها الإنسان ليستعبد أخاه الإنسان إلى العدل الذي شرعه الله لعباده.
ويقول الباحثون النفسيون إن الفرد الذي يحمل رسالة كريمة هو الفرد المتكامل في شخصيته، والذي لا يحمل رسالة كالقصبة الجوفاء: قلبه خاوٍ وهو لا يعرف معنى الحياة!. إنه يشبه العجماوات في تسلط شهواته عليه، وتملك غرائزه له، ولكنه دونها، لأنها تؤدي رسالة هي خدمة الإنسان، وذاك ليس له رسالة في الحياة.
ويقول الباحثون الاجتماعيون أيضاً: دور حمل الرسالة هو نهوض الأمة وصعودها، ودور التخلي عن الرسالة هو دور الانحدار والهبوط. ولقد ظل المسلمون يصعدون برسالتهم حيناً من الدهر ثم تخلوا عنها شيئاً فشيئاً فعاشوا فترة يسيرون بقوة الدفعة الأولى، ثم كان دور الانحدار...
ليسأل الواحد منا نفسه، ما غرضنا من الحياة، وما رسالتنا؟
والجواب: أنا نعيش لأنفسنا وأغراضنا. إن الرسالة التي نقدمها رسالة قاصرة بتراء هزيلة، وإننا، نحن المربين، لا نخرج للناس رجالاً ولا نخرج أبطالاً مؤمنين حقاً، والأسباب عديدة أولها وأكبرها نقص في أنفسنا، ويتبع هذا نقص مناهجنا ووسائلنا، ويلي ذلك الوسط الذي نعيش فيه الذي يطبعنا بطابعه وينفث فينا سمومه وضعفه ومخدراته.
لا بد أن تكون الرسالة مهيمنة على القلب وتغلب على النفس كلها...
ومثال ذلك: إنسان هيمن حب العلم على قلبه فهو يعكف عليه عكوفاً ينسيه نفسه ومن حوله، وينسيه طعامه وشرابه والملذات التي يطلبها الناس والمتع التي يفرط في السعي وراءها الكبار والصغار.
وفي تاريخ العلم أمثلة كثيرة لهذا النوع من العلماء، ولقد كان الرسل جميعاً من هؤلاء الذين غلبت على نفوسهم فكرة واحدة وهبوها حياتهم كلها، وكان المصلحون الذين يتأسون سيرة الأنبياء من بعدهم من هذا النوع: كان صلاح الدين بن أيوب كالوالهة الثكلى فقدت وحيدها، يتململ في فراشه ويتقلب فيه ولا يجد النوم سبيلاً إلى جفنيه، كانت الفكرة التي غلبت على قلبه استرداد المسجد الأقصى وانتزاعه من أيدي الصليبيين.
كيف نربّي أبناءنا على حمل الرسالة:
يمتص الطفل المعاني التي يستمع إليها من والديه ويشاركهما في انفعالاتهما، وتترك آهات الأم وحسراتها أثراً كبيراً في نفسه، وهكذا تتكون المعاني الأولى في قلبه... ولا يستمع الطفل في البيئة الإسلامية اليوم من أبويه معاني البطولة والتضحية والجهاد وأعمال المسلمين في عصورهم الأولى: ولكن يسمع الآهات والحسرات في سبيل الشهادات العليا التي تجر وراءها النعم الرغيدة.
كان يجب أن يغرس حب هذه الرسالة في قلب الطفل منذ نعومة أظفاره وذلك حين يستمع إلى أبويه يحدثانه بأخبار الأبطال وسير الرجال كيف جاهدوا، وكيف آثروا الرسالة على كل متع الدنيا، وكيف أحبوا الاستشهاد في سبيل الله، وبذلوا الوسع لإدراكه، ولو كان الأمر كذلك؛ لكان للمسلمين شأن آخر في العالم كله.
وكما يتأثر الطفل بما يسمع من أمه وأبيه، يتأثر كذلك بما يسمع من أستاذه ومربيه، ويتأثر تأثراً قوياً بسلوك من حوله، وقد يعجب بأستاذه فيتقمص شخصيته ويتأثر خطاه، والمدرسة في مجتمعنا لا تختلف في الروح والجوهر عن المنزل كثيراً، وليس التنافس في المعاهد العلمية بالأعمال الطيبة والسير الحميدة والإنتاج العلمي الصحيح ولكن بمقدار ما يحفظ الطالب من العلم حفظاً يصدق عليه في الغالب أنه حفظ بدون وعي.
القائد أصدق من يحمل الرسالة:
الصفة الأولى للقيادة حمل الرسالة وقد امتلأ بها قلب القائد فكان أصدق من يحملها وأخلص من يمثلها وينشأ عن ذلك صفات كثيرة نذكر منها ما يلي:
حامل الرسالة يتوجه وجهة واحدة وتخضع غرائزه ودوافعه جميعها لرسالته فهو يغضب ويخاف، ويحب أبناءه، ويجمع المال ويدخره، ويستعلي ويتواضع؛ ولكنه يغضب في سبيل رسالته ويخاف من أجلها ويحب أبناءه إذا أعانوه على حمل رسالته، ويجمع المال لينفقه في سبيل رسالته ويستعلي على أعداء رسالته ويتواضع لأصحابها. وبكلمة واحدة أصبحت قوى النفس ودوافعها جميعها جنوداً طيعة خاضعة لقيادة واحدة وهذا ما يسمى بوحدة النفس وخلوها من التنازع الداخلي، وسلامتها من أنواع الصراع النفسي، وفي مثل هذه الحال يندفع صاحب الرسالة إلى غايته أقوى اندفاع لا يعوقه صراع داخلي، ولا يقف في سبيله عقبة في الخارج.
ومثل هذا الإيمان لا يقر صاحبه ولا يستقر، ولا يعرف كللاً ولا مللاً، ولا يطلب راحة ولا هدوءاً، يقول غوستاف لوبون: إن من الخير أن أمثال هؤلاء قلة في العالم ولو كانوا كثيرين لأحدثوا في كل يوم انقلاباً في العالم.
صاحب الرسالة تتغير مقاييسه فالولاء لمن يوالي رسالته، والعداء لمن يعاديها، والقرب ليس قرب النسب ولكنه القرب من الرسالة، وبذلك كان حمل الرسالة أقوى عامل في دعم روح الود والولاء بين أفراد الجماعة.
ثم إن حمل الرسالة يحتاج إلى غذاء دائم في الناحية الفكرية والوجدانية والعملية. ومن الأخطاء التي تعيش فيها الجامعات الإسلامية أن أبناءها لا يجدون من هذا الغذاء شيئاً ولا سيما الغذاء العملي.
يجب أن يجد الطالب في الجامعات الإسلامية جواً خاصاً يرتفع عن الأجواء العامة؛ لأن مهمة الجامعات أن تنعكس آثارها على المجتمعات العامة فترقى بها، وإذا ارتقى المجتمع عاد إلى الجامعات فزاد في الإنفاق عليها والسهر على إصلاح حالها فعاد ذلك على المجتمع بدرجة أخرى من الرقي...
يجب أن يكون في الجامعات الإسلامية ليالٍ للعبادة والتهجد، وجلسات قرآنية تتلى فيها الآيات بنهم وتدبر فتزيد المؤمنين إيماناً، وجلسات للتذكير بسيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم...
وبكلمة واحدة: يجب أن يكون للجامعات الإسلامية طابع خاص وجو خاص تعبق فيه المعاني السامية والمثل الإسلامية يذكَّر فيه الطلاب إذا نسوا، وينبهون إذا غفلوا، وينشأ لديهم إيمان دافع فعال محرك ليقدموا أنفسهم وأموالهم في سبيل الله.
صاحب الرسالة لا يزحزح عن مبدئه: ولقد كان محمد صلى الله عليه وسلم المثل الكامل لذلك حين يقول: "والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يظهره الله أو أهلك دونه". وكذلك شأن عتاب الله لرسوله في قوله تعالى: (فلعلك باخع نفسك على آثارهم).
وهذا المعنى ينبثق منه الصبر على الملمات، والثبات عند مواجهة العقبات، وهذا شأن القيادة تصبر على المصائب وتثبت في مواجهة الشدائد صبراً مقروناً بالأمل والثقة بنصر الله، والطمأنينة إلى تأييده، ويقترن كل هذا الشعور بالسعادة الكبرى. فصاحب الرسالة سعيد وإن كان يسام سوء العذاب وهو راض مطمئن النفس وإن أحدق به الجاهلون وأحاط به المستهزئون.
وينبثق عن كل هذا أيضاً دراسة الموقف دراسة كاملة مستوعبة، والإحاطة بالمشكلات التي تعترض سبيل الرسالة ودراسة الوسائل التي تحقق أغراض الرسالة، واكتشاف طاقات الأعوان والأنصار، ومعرفة مقدرة كل منهم والمجالات التي يحسنون فيها، ووضع الأمور موضعها. إن معرفة الرجال أمر هام جداً؛ ولقد قال عمر بن الخطاب يثني على أبي بكر رضي الله عنهما: "رحم الله أبا بكر كان أعرف مني بالرجال"، قال هذه الكلمة عمر رضي الله عنه حين عزل خالد بن الوليد رضي الله عنه عن القيادة فقاتل خالد جندياً، وفي معركة من المعارك فتح خالد قنسرين هو وثلة من أصحابه بإبداع حربي.
من صفات القيادة تربية روح حمل المسؤولية لدى أتباعهم:
لقد كان النبي صلى الله عليه وسلم في شتى المناسبات يدرب أصحابه على حمل المسؤولية ليضطلعوا بأعباء القيادة من بعده، فكان يستشيرهم في كل مناسبة وكثيراً ما يعدل عن رأيه إلى رأيهم إذا وجد في رأيهم صواباً:
ففي غزوة أحد أقعد ببعض الصحابة إشاعة مقلقة، حينما نادى مناد بأن محمداً عليه الصلاة والسلام قد مات، وقد مر بهؤلاء أنس بن النضر فقال: ما يُقعدكم؟ قالوا: مات رسول الله، فقال لهم: قوموا فقاتلوا على ما قاتل عليه وموتوا على ما مات عليه. ونزل بعد ذلك قوله تعالى: (وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم، ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئاً وسيجزي الله الشاكرين). وكانت الآية الكريمة عتاباً أليماً للأصحاب الذين تخلوا عن حمل المسؤولية بعد موت القائد.
وفي غزوة بدر ترك عليه الصلاة والسلام رأيه لرأي الحباب بن المنذر حين قال له: أهذا منزل أنزلكه الله يا رسول الله أم الرأي والحرب والمكيدة؟ فقال عليه الصلاة والسلام: "بل هو الرأي والحرب والمكيدة"، فقال الحباب: ما هذا بمنزل.
وفي غزوة الأحزاب يوشك عليه الصلاة والسلام أن يعقد صلحاً مع بني غطفان على ثلث ثمار المدينة على أن يرجعوا عنها، ولما استشار عليه الصلاة والسلام سعد بن معاذ وسعد بن عبادة سألاه أهو وحي أم شيء يحبه عليه الصلاة والصلاة أم هو تدبير الحرب؟ فلما علما أن الأمر من تدبير الحرب، قالا: والله لا نعطيهم إلا السيف؛ فسرّه ذلك عليه الصلاة والسلام ورجع إلى رأيهم.
يحسن بالعالم والمدرس أن يعترفا بالخطأ إذا وقع منهما خطأ:
ومن المؤسف أن كثيراً ممن انتهت إليهم الرئاسة العلمية في مجتمعنا قد نسوا كثيراً من هذه المعاني وأخذوا بتربية أتباعهم على الغلو في تعظيمهم، وتأويل خطئهم وتفسير سلوكهم، وإن خالف القواعد الشرعية، بأن وراءه أسراراً وحكماً لا تدركها عقول الأتباع القاصرة، وبذلك ينتهي هؤلاء الأتباع إلى أن شيوخهم لا يخطئون لأنهم قد بلغوا الكمال.
وبهذه المناسبة أذكر ظاهرة تتعلق بالأساتذة المربين فإنّ أستاذاً في معهد التربية في القاهرة عام 1947م وضع أمام طلابه المشكلة التالية:
أيهما أولى بالمدرس أن يعلن خطأه إذا وقع منه خطأ ويعترف به، أم يتفادى الموقف ويستر خطأه؟
وكان رأي الأستاذ أن يعترف المدرس بخطئه، إذا وقع منه ويعلنه بكل صراحة، وهذا هو الاتجاه الصحيح في رأيي.
إن الشيء الفطري الذي يمكن أن يقع كثيراً أن يفطن أحد الطلاب لأمر قد غفل عنه أستاذه، وأية عظمة في هذا؟ بل إنه لمدعاة إلى الثناء على الأستاذ أن يستطيع دفع طلابه إلى البحث والتفطن لما لم يفطن له.
ليس من الخير أن نعوّد طلابنا تلقي كل ما يلقى إليهم:
يسر كثيراً من المدرسين ذلك الطالب الهادئ الذي يتقبّل كل ما يلقى إليه ولا يعارض في شيء، ويسوؤهم أولئك الذين يكثرون من السؤال ويطلبون زيادة في الإيضاح. وليس من شك أن الطالب الذي يسأل للشغب وللظهور أمام رفاقه بمظهر المعترض هو طالب يحتاج إلى إصلاح، ولكن ليس من الخير أن نعود أبناءنا أن يتقبلوا كل ما يلقى دون سؤال أو استفهام. إن هذا المعنى فيه نمو الاستعداد للتقبل وضمور روح النقد لدى الطالب، وقد يكون الدافع إليه المداجاة والمراءاة... يجب أن يحترم الطالب أستاذه ويدلي في الوقت نفسه بما يجول في خاطره من سؤال بأدب وصدق وإخلاص.
لقد انحرف المسلمون بكل أسف عن المعنى الذي ربى رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه: الجرأة في الحق وإعلانه والصدع به بصدق وإخلاص. وكان العهد الذي أخذ على الأصحاب في بيعة العقبة الكبرى أن يقولوا بالحق حيثما كانوا لا يخشون في الحق لومة لائم.
وحين كمت الأفواه وأصبح المسلم يخشى أن يقول كلمة الحق تودع من الأمة، وانتهينا اليوم إلى أحد رجلين: معارض وقح لا يريد الحق ولا يبغي الخير، أو موافق مراءٍ مُصانع يقول بلسانه ما لا يعتقد بقلبه.
أما الصنف الثالث الذي يفطن للحق، ويصدع به، ويلتزم الأدب والخلق في ذلك فقد أصبح نادراً جداً.
ألا من رغبة صادقة، وعزم حديد على تربية أجيالنا على قيم الإيمان وتحمّل المسؤولية ليكونوا قادة أحراراً، لا أتباعاً ولا عبيداً؟!.
وسوم: العدد 969