الشيخ العلامة المفكر د. عبد العظيم محمود الديب
(1348- 1431 هـ/ 1929- 2010م)
هو الشيخ العلامة المحقق الدكتور عبد العظيم محمود الديب الداعية المصري المعروف، ورفيق الشيخ د. يوسف القرضاوي في الدعوة والجهاد، وأحد أبرز رجالات الإخوان المسلمين في مصر.
كان بحق عالمًا فاضلاً وفقيهًا بارزًا وأصوليًّا قديرًا، آثر العمل في صمتٍ وجدٍّ واجتهادٍ، في ميدان تحقيق تراث الأمة الفقهي، وتقديم رؤية جديدة للتاريخ الإسلامي".
مولده، ونشأته:
وُلد عبد العظيم محمود الديب في قرية كفر إبري التابعة لمركز زفتى في محافظة الغربية بمصر في 1348للهجرة / الموافق عام 1929م.
الدراسة، والتكوين:
وحفظ القرآن الكريم منذ صغره في كتّاب القرية، وهو دون العاشرة، التحق بالمدرسة الإلزامية لمدة 5 سنوات تمهيدًا للالتحاق بالأزهر؛ حيث كان لزامًا على من يدخلون الأزهر أن يكونوا من حفظة القرآن، ثم أتمَّ تعليمه في المعهد الديني الثانوي بمدينة طنطا في محافظة الغربية، أنهى دراسته الثانوية بمعهد طنطا الديني بعد 9 سنوات دراسية، وهو في سن الثامنة عشرة.
التحق بكليتي أصول الدين بجامعة الأزهر ودار العلوم في وقت واحد، وفي السنة النهائية علمت إدارة كلية دار العلوم أنه يدرس في كليتين في آنٍ واحد فخيرته بين إحداهما، فاختار استكمال الدراسة في كلية دار العلوم وتخرَّج فيها عام 1956م.
التحق بكلية التربية لمدة عام، وحصل منها على الليسانس حتى يكون مؤهلاً للعمل بالتدريس.
ثم حصل على الماجستير عام 1970م في تحقيق كتاب "البرهان" لإمام الحرمين الجويني.
ثم حصل على شهادة الدكتوراه عام 1975 عن "الإمام الجويني: علمه ومكانته وأثره ومنزلته".
شيوخه:
تربى عبد العظيم الديب على أبي فهر محمود محمد شاكر، كما تتلمذ أيضًا على يد عبد السلام هارون، ومصطفى أبو زيد، والأصولي عبد الغني عبد الخالق.
فعبد العظيم الديب من تلك المدرسة التي أنشأها آل شاكر، أحمد بن محمد شاكر أشهر هذه المدرسة ومنشئها، أبا فهر محمود محمد شاكر هو الذي فرخ التلاميذ ورباهم ورعاهم.
ولعل أكثر العلماء والدعاة أثراً في نفسه هو الإمام الشهيد حسن البنا، والشيخ المربي البهي الخولي.
الوظائف، والمسؤوليات:
غادر الشيخ عبد العظيم الديب مصر متوجهًا إلى قطر عام 1976م؛ حيث أصبح أستاذًا، ورئيس قسم الفقه، والأصول بكلية الشريعة جامعة قطر سابقًا، ومدير مركز بحوث السيرة والسنة فيها بالنيابة.
وكان يمقت الخلاف، ويكره العنف، ويكف يده ولسانه، لا يجهل على جاهل، أو يرد على متطاول، قضى ما يقرب من عشرين عامًا في التنقيب في حروف كتاب واحد كبير لإمام الحرمين الجويني- هو نهاية المطلب في فقه الشافعية- وهو أحد الكتب التي قام على خدمتها.
كان العلامة عضوًا في لجنة جائزة الشيخ علي بن عبد الله آل ثانٍ الوقفية العالمية لسنوات طويلة.
ورئيس قسم الفقه والأصول بكلية الشريعة بجامعة قطر.
ومدير مركز بحوث السيرة والسنة بها بالنيابة.
وعضو لجنة إحياء التراث بوزارة الأوقاف.
التجربة السياسية:
بدأ وعيه السياسي واهتمامه بقضايا وطنه مبكرًا، فقد شارك منذ التحاقه بالأزهر في المظاهرات ضد الاحتلال البريطاني لمصر، التحق بدعوة الإخوان في وقت مبكر، وتربَّى على يد الأستاذ البهي الخولي، والذي كان أحد تلاميذ الإمام البنا وصاحب جهد بارز في نشر الدعوة بطنطا، يقول الدكتور يوسف القرضاوي: لقد تلاقينا منذ حوالي ثلثي قرن من الزمان، في المعهد الديني في طنطا، ونحن في مقتبل العمر، وريعان الشباب، وجمعتنا الدراسة الأزهرية، كما جمعنا الانضمام إلى دعوة الإخوان المسلمين، والتتلمذ على إمام الجماعة في طنطا الداعية الكبير الشيخ البهي الخولي الذي كنا نلتقي عنده بعد صلاة الفجر من كلِّ أسبوع، في حلقة أطلق عليها كتيبة (الذبيح)، إشارة إلى إسماعيل، الذي قال له أبوه:﴿يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنْ الصَّابِرِينَ﴾(الصافات: من الآية 102).
كان موجعًا بقضية فلسطين وعبر عنها بقوله: "هي القضية التي ملكت عليّ شعوري وعواطفي، وسَرَت مع الدماء في عروقي حتى آخر لحظات عمري"، فقد شارك بجهده في حرب فلسطين عام 1948م، كما شارك علماء الأمة وقادة الحركات الإسلامية في إصدار بيان في الإثنين 2 جمادى الآخرة 1422 هـ، الموافق 21 أغسطس 2001م، تحت شعار: "أقصانا لا هيكلهم" للتضامن والمناصرة مع أهل فلسطين، وفي 26 رجب 1428 هـ، الموافق 9 أغسطس 2007م، أصدر مع لفيف كبير من علماء الأمة نداء لفك الحصار الخانق عن شعب غزة وعن العالقين في رفح.
جهوده العلمية ومؤلفاته:
اشتهر عبد العظيم الديب بملازمته لكتب ومؤلفات الإمام الجويني، فلقد اختار الديب طريق التحقيق العلمي مع الفهم لما يحقق.
1- فأخرج كتاب "البرهان" في أصول الفقه لإمام الحرمين، ومن قرأ مقدمة الكتاب ناله العجب من معاناة محققه العظيمة لإخراج الكتاب، ومن قرأ الكتاب ففهمه وفهم كلام المحقق علم الفرق بين التحقيق والادعاء.
2-نهاية المطلب في دراية المذهب: وهو أكبر كتاب مطبوع في الفقه الشافعي نهاية المطلب في دراية المذهب لأبي المعالي عبد الملك بن عبد الله بن يوسف بن محمد الجويني الملقب بإمام الحرمين، المتوفى سنة 478 صدر عن دار المنهاج للنشر والتوزيع - جدة، بتحقيق عبد العظيم الديب المتخصص في حياة وفقه إمام الحرمين وهو مكون من 21 مجلداً. ولعله يكون الآن أكبر كتاب مطبوع في الفقه الشافعي.. « نهاية المطلب في دراية المذهب » والتي تسمى أيضاً « المذهب الكبير » هي شرح لمختصر المزني، واشتهر عند فقهاء الشافعية أنه (منذ صنف الإمام « نهاية المطلب » لم يشتغل الناس إلا بكلام الإمام)وصرَّح في بداية كتابه بأنه قصد به تحرير المذهب وتنقيحه، كما يدل على ذلك عنوانه «نهاية المطلب في دراية المذهب» فقال في مقدمته: (وأبتهل إلى الله سبحانه وتعالى في تيسير ما هممت بافتتاحه من تهذيب مذهب الإمام الشافعي المطلبي) يقول النووي: (نقل إمام الحرمين هو عمدة المذهب).
قال ابن النجار عن «نهاية المطلب»: (إنه يشتمل على أربعين مجلدا) تتجلى أهمة هذا الكتاب كون كثير من الكتب الفقهية للشافعية اعتمدت عليه، فاختصره الغزالي في البسيط، ثم اختصر البسيط في الوسيط، ثم اختصره في الوجيز، ثم شرح الرافعي الوجيز في (فتح العزيز)، ثم اختصر فتح العزيز القزويني في (الحاوي الصغير)، ثم اختصر الحاوي الصغير ابن المقرئ اليمني في (الإرشاد)، ونظم الحاوي الصغير ابن الوردي في (البهجة) التي شرحها شيخ الإسلام زكريا بشرحين كبير وصغير.. وهما من أهم كتب المتأخرين.. وشرح ابن حجر الهيتمي الإرشاد بشرحين أيضاً وهما من أهم كتب المتأخرين أيضا.. وإنك لتعجب كيف بقي هذا الكنز دفيناً حتى الآن رغم حاجة الأمة إليه ومكانته المرموقة بين كتب المذهب، والتي تنتسب إليه نسبةَ الكواكب إلى القمر المنير ولكن الله جل جلاله ادَّخر هذا الفضل وأخَّره ثم أجراه على يد محقِّقنا الفذِّ ودارنا المتميزة ولله الحمد ؛ وذلك الفضلُ من الله ؛ ﴿ قل إن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم ﴾ من غير سبق تصميمٍ من محقِّقنا - كما سترى في مقدمة التحقيق - أراد الله عزَّ وجلَّ لهذا المحقق الكبير أن يتَّجه نحو خدمة إمام الحرمين الجويني وكتبِه التي كانت مطمورةً ؛ كالكنوز العتيقة التي تنتظر من يستخرجها ويمسح الغبار عنها حتى تصير في أبهى محاسنها، ويتحف بها أولي المعرفة، ويسرَّ به مكتبة الإمام الشافعي.
كتابٌ نفيسٌ نادرٌ غالٍ، ومؤلفٌ إمامٌ مجتهدٌ مبدعٌ، ومحققٌ خبيرٌ عريقٌ غوَّاصٌ، ومنهج تحقيق غايةٌ في الدقة والكمال.
وهو يبرز لأول مرة إلى عالم الطباعة الرحيب بعد ما يقارب نحو ألف سنة على تأليفه، وتكتحل أعين الفقهاء بمباحثه، بعد طول انتظار.
فطوبى لمن حقق، وطوبى لمن نشر ودقق، وهنيئاً للجميع بما حازوه من شرف الخدمة للفقه الشرعيّ. نفعنا الله وإياكم وكافة المسلمين، ووفقنا لخدمة دينه، إنه سميع قريب
أما الكتاب: فذخيرةٌ ثمينةٌ من ذخائر تراثنا الفقهي، وهو من أمَّات كتب الشافعيَّة الكبار ؛ يحوي تقرير القواعد، وتحرير الضوابط والمقاصد، وتبيين مآخذ الفروع، وهو خلاصة مذهب الشافعية، وخلاصة حياة إمام الحرمين وفكره ؛ كما جَلَّى ذلك عن الكتاب بقوله: (نتيجةُ عمري، وثمرةُ فكري في دهري).
قال عنه المؤرخ الكبير ابن عساكر في « تبيين كذب المفتري »: (ما صُنِّف في الإسلام مثله).
واعتبره الإمام النووي في « المجموع » أحد كتب أربعة تعدُّ أساساً في المذهب.
وقال الإمام ابن حجر في « التحفة »: (إنه منذ صنف الإمام كتابه « النهاية » لم يشتغل الناس إلا بكلام الإمام) ؛ وذلك لأن الكتب المعتمدة التي ألفت بعد إنما استمدت منه، واعتمدت عليه أصلاً.
وهذا الكتاب وإن كان على « مختصر المزني » إلا أنه لم ينهج فيه منهج الشرح المكرر، وإنما كانت غايته تهذيب المذهب وتقعيده، وتأصيل الأبواب والفصول ووضع الضوابط ؛ كما قال: (فإن غرضي الأظهر في وضع هذا الكتاب: التنبيه على قواعد الأحكام ومثاراتها؛ فإن صور الأحكام والمسائل فيها غير معدومة في المصنفات، فهذا أصل الباب ومنه تتشعب المسائل).
يقول الدكتور القرضاوي: جَهَد د. الديب جُهده حتى جمع من الكتاب عشرين نسخةً، صورها من مكتبات العالم في القاهرة والإسكندرية وسوهاج من مصر، ودمشق وحلب من سوريا، والسلطان أحمد وآيا صوفيا من تركيا، ولكن لم توجد منه نسخة كاملة، وبلغ عدد مجلداتها (44)، وعدد أوراقها (10336)، ونسخت بخط اليد في (14590) صفحة"، "بالإضافة إلى المختصرات والنصوص المساعدة، وهي 9 نسخ، بلغ عدد مجلداتها (15) وعدد أوراقها (3750) تقريبًا"
. وبين أن الدكتور الديب ينتمي إلى مدرسة متميزة في التحقيق، شيوخها الكبار: آل شاكر: أحمد ومحمود، وعبد السلام هارون، والسيد أحمد صقر وأمثالهم.
وكتاب (نهاية المطلب في دراية المذهب) تمَّ في 19 مجلدًا موسوعة المذهب الشافعي لإمام الحرمين، دليل صبره على البحث العلمي، ومضاء عزمه، أمضى في تحقيقه ما يزيد على 20 عامًا، وبذل له من المال والجهد، وسهر الليالي الطوال ما تضيق به همم الرجال، أخرجه في غاية الضبط والإتقان، وهو ديوان فقهي قل نظيره.
كما منَّ الله على الأمة العربية والإسلامية وعلى الدكتور عبد العظيم حتى أخرج لنا موسوعته الفقهية "نهاية المطلب في دراية المذهب"، التي قدم لها العلامة الشيخ يوسف القرضاوي رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، واصفًا تلك الموسوعة بـ"الخدمة الجليلة للمكتبة الإسلامية".
عن جهوده في تحقيق هذه الموسوعة يقول الأستاذ جمال سلطان:
"هل يتصور أحد أن يعكف رجل واحد على جمع وتحقيق موسوعة علمية ضخمة تبعثرت أجزاؤها ومجلداتها في بلاد كثيرة من القاهرة إلى دمشق إلى إسطنبول إلى فاس إلى غيرها؛ لكي يضم شتاتها، ثم يعكف على سبرها وتحقيقها ثم ضبطها ثم إخراجها خلقًا آخر.. ليس كتابًا من مائة أو مائتي صفحة، ولكنها موسوعة من أربعة وأربعين مجلدًا، بلغت عدد صفحاتها قرابة أحد عشر ألف صفحة من القطع الكبير، هذا إنجاز وحيد من إنجازات العلامة الكبير عبد العظيم الديب، مع موسوعة "نهاية المطلب في دراية المذهب" لإمام الحرمين الجويني، ولم يقف أمام هذا العمل أحد من أهل العلم والراسخين في التحقيق إلا أذهله الجهد المبذول فيه، ولتقريب حجم هذا الجهد الذي استغرق عشرين عامًا من عمره وسهره وجهده، فإن ما قدمه في الموسوعة كان يكفيه لتأليف ضعف عدد مجلداتها كتبًا في قضايا العلم والفكر والتاريخ والمعرفة.
3-من جهده أيضًا كتاب (الغياثي غياث الأمم في التياث الظلم)، وهو من أعظم ما ألف في السياسة الشرعية، أخرجه إخراجًا علميًا محققًا، مثاليًا.
4-وكتاب (الدرة المضيئة فيما فيه الخلاف بين الشافعية والحنفية) يُنشر لأول مرة عن نسخة وحيدة نادرة.
6-إمام الحرمين أبو المعالي عبد الملك بن عبد الله الجويني، حياته وعصره- آثاره وفكره.
7- ورسالة الدكتوراه (فقه إمام الحرمين عبد الملك بن عبد الله الجويني، خصائصه- أثره- منزلته).
8-الندوة الألفية لإمام الحرمين الجويني.
9-والغزالي وأصول الفقه.
10- والمنهج في كتابات الغربيين عن التاريخ الإسلامي: من إصدارات كتاب الأمة.
11-نحو رؤية جديدة للتاريخ الإسلامي.
12-جنوب السودان وصناعة التآمر ضد ديار المسلمين
13-المستشرقون والتراث.
14-الحوار والتعددية في الفكر الإسلامي.
15-أبو القاسم الزهراوي أول طبيب جراح في العالم.
16-التبعية الثقافية: وسائلها ومظاهرها.
17-العقل عند الأصوليين.
18-العقل عند الغزالي.
19-الرسول في بيته.
20-نحو موسوعة شاملة للحديث النبوي الشريف الكمبيوتر حافظ عصرنا.
21-فريضة الله في الميراث والوصية.
22-الإخوان المسلمون والعمل السري والعنف.
23-كلمة لابد منها (مجموعة مقالات).
24- إريتريا.. المأساة والتاريخ
25-الاستشراق في الميزان
26-الحزن في حياة رسول لله
27-بضعة أسطر في كتاب التاريخ (مجموعة مقالات)
28-رعاية العرف في بناء الأحكام عند إمام الحرمين
29-الجهاد في الإسلام.
ناهيك عن وكتب أخرى ألفها هو في الفقه وأصوله حيث كان تخصصه، وكذلك في التاريخ حيث كان راسخ القدم في الإحاطة به والوعي بسننه".
عبد العظيم الديب بعيون معاصريه:
قال عن نفسه: "إنه امرؤ يخشى أن يطلع على الناس بشيء فيه نقص أو خلل، أو بشيء لا طائل من ورائه، فيكون قد أضاع منهم وقتًا أو جهدًا، فيلقى الله بعد ذلك مسئولاً عنه".
وقال د. القرضاوي عنه: إن الراحل نذر حياته للعلم وتعليمه ونشره وخدمة تراث الأمة، وحقَّق كتبًا في الفقه وأصوله تعتبر علامات بارزة في فنِّ التحقيق، كلُّها من تراث إمام الحرمين الجويني. وأضاف أن د. الديب عاش حياته في قطر أستاذًا جامعيًا، تخرَّجت الأجيال على يديه، وأحبَّه تلاميذه حبًا جمًا، طلاَّبا وطالبات؛ لأنه كان يعتبر التعليم رسالة، ولا يعتبره مجرَّد وظيفة، وعاش حياته بعيدًا عن أضواء الإعلام، رغم إلحاح الإعلاميين عليه، ولقي ربه خالصًا مخلصًا غير مشوب بشائبات الدنيا، بل أخلص دينه لله، وأخلصه الله لدينه، نحسبه كذلك والله حسيبه ولا نزكي على الله أحدًا.
عرفت فيه الحماس والغيرة لما يؤمن به.. لا يضن بجهد ولا وقت ولا نفس ولا نفيس في سبيل ما يؤمن به، مدافعًا عنه.
ويقول د. عبد الوهّاب إبراهيم أبو سليمان: مدرسة علمية في أدائه، وأفكاره، مدرسة علمية في تأليفه، وتحقيقاته، وكتاباته، مخلص لما يتفرغ له من أعمال علمية، يهمه الإتقان، والضبط، يبذل له وقته كله، ولا يضن في الإنفاق عليه؛ هذه هي مفتاح شخصيته، يتحراها ويجد الباحث لمساتها في كل أعماله.
وأعرب المفكر الكبير عمر عبيد حسنة مدير إدارة البحوث والدراسات الإسلامية بوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية عن حزنه العميق لوفاة الدكتور عبد العظيم الديب، مؤكدًا أن الأمة فقدت علمًا من أعلام الدعوة والفكر الثقافة الإسلامية.
وقال حسنة: رحم الله أخانا وشيخنا الكبير عبد العظيم الديب، عاش كبيرًا ومات كبيرًا؛ فلقد كان كبيرًا في علمه، ذكرنا بالرواد الكبار في تاريخنا العلمي والثقافي، لقد كان كبيرًا في عزمه على اقتحام المشروعات الصعاب وشجاعًا في إقدامه على العمل والتحقيق لموسوعات فقهية تنوء بها عزائم الرجال.
تعلمنا منه إجلال العلماء، وتقديم العذر، وترك الخلاف، واحترام الاختلاف الراشد، وتعلمنا منه تقدير جهد الناس، وعدم التفريط في الوقت، وتعلمنا عدم التسليم بما تقوله الميكروفونات، ولا الإذاعات ووسائل الإعلام؛ لأنها دائمًا تتحدث بصوت مالك السلطة لا صاحب الحقيقة، وأن هذه الحقيقة كثيرًا ما تطمر تحت أثقال وأوزار من التعمية والإيهام والليّ والمخادعة، وتغيير الجلود والأشكال.
أخلاقه، وصفاته:
كل من رافق الشيخ أو جلس معه لاحظ بشدة مدى حب الشيخ—لأساتذته الذين تعلم عليهم واستفاد منهم، ودوام ثنائه عليهم والدعاء لهم، خصوصًا العلامة الشيخ محمود شاكر، فقد كان كثير الذكر له والحديث عنه والإعجاب به (وحُقَّ له)، وكذلك الأستاذ عبد السلام هارون،. كانت الحياة قد عركت الشيخ وعاصر من الأمور ما جعل الجلوس إليه والحديث معه متعة ما بعدها متعه، خصوصًا ما يتعلق بتاريخ الأمة (والذي ذكر الشيخ أنه ما طرق بابه إلا دفاعًا عن الأمة وغيرةً عليها)، وأدوار الدعوة فيها والنظرة الثاقبة للمستقبل، وما ينبغي أن يقوم به الدعاة تجنبًا لكبوات الماضي.. وقد كان الشيخ مرجعًا في التاريخ، ذا نظرة ثاقبة واعية ودراسة وافية، يعلم هذا كل من جلس إليه واستمع منه، أو حضر له محاضراته ودروسه.
والمعروف عن الدكتور عبد العظيم محبته وحرصه على الخمول وعدم الشهرة، مع تواضعه الجم وأدبه الرفيع وعفة لسانه، ولم يُعرف عنه يومًا أنه ذكر أحدًا بسوء أو ذمَّ أحدًا من العلماء، وإن أراد تنبيهًا لخطأ فبمنتهى الأدب والإنصاف.
من كلماته:
يقول الشيخ عبد العظيم الديب: كان من أكثر أساتذتي تأثيرًا شيخي الجليل الأستاذ محمود محمد شاكر.. فقد رأيت هذا العملاق العلامة يطيل التدقيق في كل ما يكتب، رأيت هذا من شيخي الجليل، فوعيت وتعلمت، واقتديت بل وجدتني أولى بالتردد، والخشية ألف مرة. ولقد أدرك ذلك مني بعض الأساتذة الأجلاء، والكرام الباحثين فكانوا يستفزونني، ويحثونني على أن أنشر ما أكتب.
قال لي الشيخ عبد الجليل شلبي: أنت تريد أن تقول آخر كلمة في الموضوع الذي تكتبه، وهذا -يا بني- مستحيل، إن الكلمة الأخيرة لن تقال أبدًا.. انشر ما تكتبه، غيرك يكمله أو يبني عليه، أو يصححه، ولا حرج في ذلك.
هذه الصحوة المباركة التي يعيشها العالم الإسلامي اليوم هي ثمرة طبيعية للجهود المخلصة للدعاة الذين صدقوا الله ما عاهدوا الله عليه، فأثمرت جهودهم من حيث لا يشعرون ولا يتوقعون. وهذا الاختلاف الآن بين الجماعات الإسلامية يجب أن يظل في مجاله المعقول والمقبول، والمسموح به، وهو اختلاف الوزن والتقدير، للمناهج والبرامج، أما الهدف فهو هدف واحد، نرجو أن يظل واضحًا، ولا يغيب ولا يغيم فنضيع الطريق، أعني أنه إذا ظل الهدف واحدًا واضحًا، واختلفت الوسائل والمناهج فهذا لا خطر منه إن شاء الله، وهو ما يمكن أن نعبر عنه بتعدد الألوية ولكن الكتيبة واحدة والمعركة واحدة. ولذلك أوصي دائمًا بالمحافظة على الوحدة ونبذ الفرقة والاختلاف، بالبعد عن الإثارة والجدل والمراء، ولتنظر الجماعات الإسلامية المختلفة الموجودة في الساحة إلى عناصر الاتفاق بين بعضها وبعض، ولا ننظر إلى عناصر الاختلاف.
وأعتقد أن أجدى علاج لهذه الآفات هو حسن التربية، وتزكية النفس وتطهيرها من العُجب والرياء، وحب الظهور، فكل عملٍ فيه شائبة من هذه الآفات حابط هالك فاسد والعياذ بالله. فلو عرفت كل هذه الجماعات وتحققت تمام التحقق بأن عملها في مجال الدعوة هو عبادة لله سبحانه جل وعلا، لأدركت أنه لا يقبل منها إلا بالإخلاص، وحينئذ لن يكون بين هذه الجماعات إلا التعاون والحب، وهذا ما نرجوه ونعمل له.
وليعلم الجميع أن الحقل الإسلامي يسع الجميع ويحتاج الجميع، من يشتغل بتصحيح العقيدة، ومن يشتغل بالتربية الروحية، ومن يشتغل بالمسلمين وهمومهم، ويقدم لهم الإسلام بشموليته، ويعمل على إقامة دولته، المهم ألا تعترض جماعة سبيل الأخرى، ولا تشوه عملها.
قضية التعامل مع الأنظمة الحاكمة تحتاج إلى قراءة واعية للواقع والمستقبل والماضي، وممن يقرأ ذلك بوعي يدرك أن الصدام مع هذه الأنظمة لا يصح أن يكون واردًا في منهج العمل الإسلامي. بل على العمل الإسلامي أن يتجه بكل إمكاناته وقوته وحيويته ويقظته إلى تربية الشباب وتنشئة الأجيال، على الإسلام عقيد ة وشريعة، ونظام حكم، ودستور عدالة، ومنهج يعث، ووسيلة إحياء لأمة تتطلع لاستعادة مجدها الضائع وعزها المسلوب.
هذه الأجيال هي التي ستغير وجه الحياة، وتحول وجهة الأمة إلى الإسلام، وبشائر ذلك أخذت في الظهور، حيث حملت مؤسسات كثيرة ونقابات كثيرة راية الإسلام، وبدأت تؤكد للمسئولين ولغير المسئولين أن الإسلام هو الحل. ومع تربية الأجيال والاهتمام بها يجب أن نحاول دائمًا مد الجسور مع الأنظمة الحاكمة (مع أنها هي داؤنا وبلاؤنا) إعذارًا إلى الله سبحانه وتعالى، فهذا واجبنا، وكذلك أملاً في أن يفسحوا الطريق للأمة كي تمارس حقها الطبيعي في التعبير عن نفسها، العودة إلى الإسلام ومنهج الإسلام.
الانتفاضة الفلسطينية المباركة: هي الخطوة الناجحة الوحيدة على طريق حل القضية الفلسطينية، وذلك أنها أعادت القضية إلى الوضع الصحيح، بعد ضياع الطريق، وتشتيت الجهود سنين طويلة تنام فيها الهدف.
الانتفاضة هي التي أعادت القضية إلى نطاقها، ووضعتها في نصابها، وهذه الوضعية هي التي كان يخشاها اليهود ويعملون لها ألف حساب.
وإن ما اكتسبته القضية بهذه الانتفاضة سياسيًا يقوم ما اكتسبته بكل الجهود السابقة منذ كانت هناك جهود، بل إن ما اكتسبته القضية الفلسطينية إعلاميًا بهذه الانتفاضة يفوق كل الجهود الإعلامية التي بذلت وستبذل إلى ما شاء الله. وإن خطورة الانتفاضة وقيمتها في الواقع لا يتمثل في الكسب السياسي، ولا في الكسب الإعلامي، ولا فيما كبدته لإسرائيل من خسائر، وخلل اقتصادي، ولكن فيما أشرنا إليه من وضع القضية على طريق الحل الصحيح، وإحياء معناها الذي ظن المدوعون أنه مات، ومن هنا أصبح الأمل المستحيل ممكنًا، في عودة الحق كاملاً إلى أهله. وأما ما يجب على الأمة نحو الانتفاضة، فأول ما نرجوه أن ترفع الأنظمة يدها عن الانتفاضة، ولا تتاجر بها، ولا تسرق جهودها، ولا تحاول احتواءها وتشتيتها وتفتيتها، وكل ذلك له ملامح بادية لمن يتأمل، والله من ورائهم محيط.
كذلك ينبغي على الأمة الإسلامية أن تدعم هذه الانتفاضة بالمال والسلاح، وعلى الشباب أن يجعلها أمام عينه أنشودة وأغنية وتمجيدًا، وأن يبذل لها كل ما يستطيع وبخاصة الشباب الفلسطيني الذي يستطيع أن يعود إلى الداخل.
كما يجب أن نسجل على إعلام الأمة العربية والإسلامية تخاذله وتهاونه تجاه الانتفاضة، فهي بحاجة إلى وضعها دائمًا في دائرة الضوء، حتى تكون في بؤرة الشعور لهذا العالم (المتحضر) حتى يعرف كيف صنعت دُوله العظمى المأساة ويدرك أبعادها.
مراهنة أعداء الإسلام على الزمن في إبعاد المسلمين عن إسلامهم الصافي خاسرة فاشلة، فقد بذلوا جهودهم المضنية، وفكروا وقدروا، وخططوا ونفذوا، ورحلوا لبعض ما يريدون، لكن انقلب اسحر على الساحر، فباءوا بالخسران. فمنذ تأسيس مراكز التبشير والإفساد الثقافي في منطقة لبنان التي خرجت (كل) الصحفيين والمسرحيين والكتّاب ووزعتهم على العالم العربي من أمثال بشارة نفلا، وجبرائيل نفلا، وسليم نفلا، وجورجي زيدان، وإميل زيدان، وشكري زيدان.
منذ ذلك التاريخ وهذه المدرسة التغريبية تسيطر على منابع الفكر، فتسممها، لتشل طاقات الأمة، وتصرفها عن وجهتها وتفننها عن حقيقتها، وسارت على الطريقة نفسه وتولت المهمة نفسها مدرسة لطفي السيد وطه حسين وأتباعهما.
ومع ذلك استعصت الأمة على التغريب رغم ضراوة أجهزته، ودأب القائمين به، فقد سلمت شخصية الأمة ولم تلين قناتها، واستجابت للصوت الوحيد الذي تعرفه، وللنداء الوحيد الذي يحركها، وهو صوت الإسلام ونداء الإسلام. وهاهم شباب الصحوة الإسلامية في كل مكان دليل واضح على أن هؤلاء التغربيين ومن وراءهم قد خسروا الرهان، فلم يبلغوا من الأمة إلا شريحة ضيقة من أتباعهم لا وزن لها، برغم من وقوف هؤلاء وراءهم وتلميعهم. ومن هنا كان على الشباب المسلم في هذه المرحلة أن يكون يقظًا للسموم الفكرية التي تتدسس إليه، وليعلم أنها تغير لبوسها من حين لآخر، وعلينا أن نتابع برامج التربية، ومناهج التكوين، بحيث تظل كافية ونامية، وقادرة على حماية الشباب، وذلك بأن تشمل على الثقافة الإسلامية الأصيلة، وعلى التعريف بواقع العالم الإسلامي، وعناصر القوة فيه، وعلى التعريف بما يراد بالأمة وما يخطط لها، وكذلك التعريف بوسائل الإعداد وتطورها، ومن قبل كل ذلك العناية بجانب التزكية وتطهير النفس، وربطها دائمًا بالعناية الحقة التي من أجلها كان الإنسان على هذه الأرض {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدونِ}.
الوسطية: التي يتحدث عنها الدعاة والعلماء العاملون في مجال الدعوة هي من خصائص التصور الإسلامي، ويمكن أن نحدد معالمها في مجال العمل الشبابي بأنها التوازن بين العلم والعمل، أي بين النظر والتطبيق والتنفيذ، فلا يكفي في مجال التزكية والتطهير والتربية الروحية أن يستكثر الشباب من الدروس وسماع المواعظ وحفظها ما لم يعمل بما يسمع وبما يتعلم، وهذا جانب جد خطير، فالإخلاص والتخلص من آفات العُجب والرياء والشعور بالذات وحظوظ النفس آفات خطيرة لا يكفي في علاجها القراءة والوعظ وإدمان استماع المتحدثين والمربين، بل لابد من الممارسة العملية والمجاهدة الفعلية للنفس، بالطاعات والإكثار من النوافل.. كذلك يجب التوازن بين الدراسة والعمل في مجال الدعوة، فلا عذر لمن يتأخر في دراسته بحجة أنه مشغول بالدعوة، كما أنه لا عذر لمن يتصرف في مجال الدعوة بحجة أنه مشغول بالدراسة. كما يجب التوازن بين الوطن والأمة، والفرد والجماعة... إلخ.
تاريخ الأزهر تاريخ ناصع ولكن أعداء أمتنا التفتوا إلى دوره وخطورته منذ موقفه الذي أدى إلى اندحار سفاح أوروبا المير نابليو، وبدأت المؤامرة تحاك بإحكام وخبث حتى صار إلى ما صار إليه.
وأما السبيل إلى إعادته إلى ما كان عليه فذلك يكون بإعادة استقلاليته إليه، وخروجه من سيطرة السلطة، وأن يعود لهيئة كبار العلماء مكانها ومكانتها، وأن يعين شيخه الانتخاب، وأن تكون للأزهر ميزانيته المستقلة، وموارده المستقلة التي لا سلطان لأحد عليها.
كذلك يجب تحديد الأهداف التي يعمل لها الأزهر بوضوح وهي (حفظ ما حصل وطلب ما لم يحصل) على حد تعبير القدماء، والمعنى أن يحافظ على تراث الإسلام، ويقوم بالعمل على إعادة الإسلام إلى مكانه من قيادة وتوجيه الأمة الإسلامية، ثم بعد ذلك دعوة غير المسلمين إلى الإسلام، فإذا وضحت هذه الأهداف وجب أن تتخذ الوسائل وتعد الخطط لتحقيق هذه الأهداف.
أما عن الشباب المسلم في ديار الغربة فكلما رأيناه شعرنا بالأمل والثقة في المستقبل، فهذا الشباب الذي استعلى بإيمانه على هذا المجتمع، وارتفع فوق تواضعاته وبهجته وزخرفه، ونظر إليه معتزًا بقيمه وعاداته وتقاليده، ومحتقرًا لملذاته وانحرافاته، هذا الشباب الذي استطاع أن يحافظ على هويته في خضم هذه المجتمعات يستحق كل تقدير واعتزاز وإعجاب.
وكل ما أوصيه به أن يعلم أن الدعوة ليست بالكلام والوعظ فقط، فذلك مفهوم ضيق لمعنى الدعوة، ولكن يستطيع هذا الشباب أن يكون دعوة مجسدة تمشي على قدمين، إذا قدم صورة مشرفة مضيئة للمسلم، حيث يرى القوم تفوقًا من الطالب المسلم ومهارة من العامل المسلم، وبراعة من الطبيب المسلم، مع طهارة في السلوك ونظافة في اليد واللسان وسماحة في التعامل، وتميزًا في البيت المسلم والمؤسسة المسلمة، حتى يشار إليهم بالبنان (هؤلاء مسلمون)، عندها سيأتيهم القوم سائلين عن الإسلام وعن الهداية باحثين.
وحينا يعود الشباب المبتعث إلى بلده يكون آية في التفوق والمهارة والبراعة والقدرة، فيقود المؤسسة التي يعمل بها هناك، ويكون صورة ناصعة، وقدوة يهتدى بها.. حينما كان.
وفاته:
تُوفي الدكتور عبد العظيم الديب صباح الأربعاء 20 محرم 1431 هـ، الموافق 6 يناير 2010م، وقد وافته المنية في مستشفى حمد العام، بعد جهاد طويل في خدمة دينه ومعاناة طويلة مع المرض الذي ألم به منذ سنين.
وقد فقدت الأمة الإسلامية واحداً من أفاضل علمائها ورجالات العلم فيها بعد جهاد طويل في خدمة دينه ومعاناة طويلة مع المرض الذي ألم به منذ سنين.
وكان الدكتور القرضاوي قد أمّ المصلين على جثمان الدكتور الديب في مسجد مقبرة مسيمير، كما شارك في تشييعه إلى مثواه الأخير، كما شارك في تشييع الجنازة الشيخ عبد المعز عبد الستار- والذي تربطه بالشيخ الديب علاقة أخوة منذ الإمام البنا وعلاقة مصاهرة، وحشد من العلماء والدعاة من محبي الدكتور الديب وتلاميذه.
القرضاوي والديب.. رحلة الأخوة والعلم:
أفي كلِّ حين لي حبيب أودِّع؟ ** فلا أنا أقفوه ولا هو يرجع!
لقد ودَّعَنا صباح الأربعاء الماضي، 20 من المحرَّم 1431هـ الموافق 6 يناير 2010م، أخ ولا كل الإخوان، وصديق ولا كل الأصدقاء، إنه صديق العمر، وشقيق الروح، ورفيق الدرب، وزميل الدراسة والدعوة، وصاحبي في الشباب والكهولة والشيخوخة، إنه أخي الحبيب عبد العظيم الديب.
لقد ودَّعَنا فجأة وبدون إنذار ولا مقدِّمات، بل مات في صمت، كما عاش في صمت، رحمه الله، وفقدت الأمة الإسلامية، والدعوة الإسلامية، والدراسات الإسلامية، فحلا من فحول العلم، وعَلَمًا من أعلام الأمة، ورائدا من روَّاد الدعوة والتربية بحقٍّ.
لقد تلاقينا منذ حوالي ثلثي قرن من الزمان، في المعهد الديني في طنطا، ونحن في مقتبل العمر، وريعان الشباب، وجمعتنا الدراسة الأزهرية، كما جمعنا الانضمام إلى دعوة الإخوان المسلمين، والتتلمذ على إمام الجماعة في طنطا الداعية الكبير الشيخ البهي الخولي، الذي كنا نلتقي عنده بعد صلاة الفجر من كلِّ أسبوع، في حلقة أطلق عليها كتيبة (الذبيح)، إشارة إلى إسماعيل عليه السلام، الذي قال له أبوه: {يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} [الصافات:102].
ولعل كثيرا من الناس لا يعرف مَن هو عبد العظيم الديب، لأنه لم يكن ممَّن يظهرون على الشاشات، ولا يتعرَّضون للأضواء.
عالم عامل مُعلِّم:
إنه أحد العلماء (الربانيين) في هذه الأمة، والرباني - كما فسَّره السلف - هو الذي يَعْلم ويعمل ويعلِّم، فهو يجمع بين الأمور الثلاثة: العلم والعمل والتعليم. وقد قال تعالى: {وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ} [آل عمران:79].
أما علمه، فقد شهد له به شيوخه، وشهد له به إخوانه، وشهد له به تلاميذه، وشهدت به آثاره التي خلَّفها، تأليفا وتحقيقا.
وفي شهادة أساتذته، نقل الأخ الدكتور علي السالوس زميل الديب في دار العلوم: أن المشرف على رسالة الديب للدكتوراه، الأستاذ الجليل الدكتور مصطفى زيد، قال بعد مناقشة الرسالة: إن هذه أفضل رسالة قُدِّمت إلى دار العلوم، لا أستثني رسالتي (رسالة الدكتور زيد نفسه).
وقد لقيتُ الدكتور زيدا يوما بالمدينة، وهو أستاذ معار إلى جامعتها، وكان أول مَن سألني عنه، وحمَّلني السلام إليه، هو عبد العظيم، الذي أصبح صديقا من أقرب الناس إلى أستاذه.
ولثقتي بعلمه وفقهه وأصالته، كنتُ في كتبي المهمَّة، أعرضها عليه، وأطلب إليه أن يقرأها، ويبدي رأيه فيها، ويُعمل قلمه في شطب ما يرى، أو إضافة ما يرى كذلك.
وأما عمله فقد شهد له كلُّ مَن عرَفه، وكلُّ مَن عايشه - وأنا منهم - أنه كان طوال حياته رجلا عاملا لا عاطلا، وجادًّا لا هازلا، وبانيا لا هادما، يُعطي قبل أن يأخذ، ويضحِّي قبل أن يستفيد، وإذا عمل أتقن، وإذا قال أحسن، يقول ويفعل، ويَعِد وينجز، ويعاهد فيوفِّي، ويؤتمن فيؤدِّي.
وكان رحمه الله عفَّ اللسان، لا يسيء إلى أحد في حضرته، ولا يذكر أحدا بسوء في غيبته، فقد شغله الحقُّ عن الباطل، وشغله العلم عن الجهل، وشغله الإيمان عن اللغو، وقد قال أبو الطيب:
وأكْبِرُ نفسي عن جزاءٍ بغيبةٍ ** وكُلُّ اغتيابٍ جهدُ من لا له جهدُ
وقد وصف الله المؤمنين بقوله: {وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ} [المؤمنون:3].
وكان إذا وكِّل إليه عمل استفرغ فيه جهده، ووفَّى له حقَّه، صغيرا كان كالاشتراك في لجنة، أو كبيرا كرئاسته لقسم الأصول والفقه، الذي قام به حقَّ القيام، متعاونا مع كلِّ إخوانه. ولما وكِّل إليه إنهاء الكتاب الذي تكفَّلت به (كلية الشريعة)، بمناسبة بلوغي السبعين: أخرجه خير إخراج، متعاونا مع بعض المخلصين من زملائه.
وحين ضمَّ إلى وزارة الأوقاف بعد تقاعده من الجامعة، كان يقوم بما يكلَّف به بكلِّ دقة، رغم ما أُصيب به من مرض القلب.
وأما تعليمه، فقد كان معلِّما بالنظرة، ومعلِّما بالدراسة، ومعلِّما بالخبرة والممارسة، وقد علَّم أولا في المدارس الثانوية، ثم أمضى معظم حياته أستاذا جامعيًّا، وقد استكمل كلَّ مقوِّمات الأستاذ أو المعلِّم الناجح. وهي: قوَّته في المادَّة التي يعلِّمها، وتمكُّنه منها، ثم حسن طريقته في تعليمها، ثم أن تكون له شخصية تجذب طلاَّبه إليه، وهو ما توافر لعبد العظيم بجدارة، وعُرف به في جامعة قطر، ولا سيما في قسم الدراسات الإسلامية وكلية الشريعة.
والحقيقة أنِّي منذ أُنشئت (كليتا التربية) في قطر نواة للجامعة المنشودة، وكُلِّفتُ فيها بتأسيس قسم للدراسات الإسلامية، حرصتُ على أن يكون عبد العظيم بجانبي، وكان أمامه عدَّة أشهر حتى يحصل على الدكتوراه من كلية دار العلوم، فلما حصل عليها استقدمتُه، فتحمَّل مسؤوليته من أول يوم، وشدَّ أزري، وقوَّى ظهري، كما قال الله تعالى لموسي: {سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ} [القصص:35].
كان أبا وصديقا لطلابه:
وقد كان نعم العضد لي، كما كان نعم الزميل لإخوانه، كما كان نعم المعلم لطلاَّبه، وقد تخرَّجت على يديه أجيال بعضهم من النوابغ، كان لهم معلِّما وأبا وصديقا، وكانوا يحبُّونه حبًّا جمًّا، طلبة وطالبات، لغزارة علمه، وسَعَة أفقه، ورقَّة حِسِّه، وحسن خُلقه، وتفانيه في تدريس مادَّته.
وقد عزَّاني بعض طلابه وطالباته من خريجي كلية الشريعة، ومنهم د. عائشة المناعي عميدة الكلية الآن، فذكرت لي أن آثاره لا تزال مغروسة في فكرها ووجدانها، وأنه كان يدرِّس مادَّته في الفقه وأصوله، وهي مادَّة صعبة، لكنه يدرِّسها بـ(مزاج)! ويحبِّبها إلى طلابه بما يُضفي عليها من رُوحه. وهكذا كلُّ مَن درَّسه لا زال موصولا به فكريا وعاطفيا، فقد كان يمارس التدريس كأنه فنان يمارس هوايته.
وذلك لأنه لم يكن يعتبر التدريس مجرد وظيفة، بل يعتبره رسالة يؤمن بها، وعبادة يتقرَّب إلى الله بأدائها!
أستاذ جامعي متميز:
والحقُّ أن عبد العظيم الديب يعدُّ أستاذا جامعيًّا متميِّزا، بكلِّ المقاييس، باعتراف كلِّ مَن عايشوه من العمداء والزملاء.
وأشهد أنه منذ جاء عبد العظيم إلى قطر، قد حمل العبء معي، وكان الساعد الأيمن لي، وقد هضم نظام الساعات المكتسبة، وأصول الإرشاد الأكاديمي، وساهم في تيسير ذلك للطلاب مساهمة فعالة. كما أنه رجل مخلص في تدريسه، يتعب على دروسه، ويعدُّ محاضراته، ويقترب من تلاميذه، ويبتكر في طرائقه، حتى إنه كان يدرس كتاب (الحلال والحرام في الإسلام)، فاخترع له أسئلة على الطريقة الأمريكية، بملء الفراغات، أو الإجابة بعلامة (ü) أو (û)، أو بكلمة (نعم) أو (لا)، أو اختيار إحدى الإجابات، إلى غير ذلك.
ولهذا كان قريبا من الطلبة والطالبات، محبَّبا إليهم، محوطاً بعواطفهم، حتى بعد أن يتخرَّجوا، يظلُّون على صلة به، وقرب منه، وسؤال دائم عنه. وهذا ما لم أجده إلا عند القليلين من الأساتذة.
فمن الأساتذة مَن يحبه الطالب، ولا يحترمه، لأنه طيب القلب، دمث الأخلاق، جيَّاش العاطفة، فمثله يُحبُّ، ولكن ليس عنده من العلم والموهبة والشخصية ما يجعل الطالب يحترمه.
ومن الأساتذة: مَن يحترمه الطالب لقوَّة شخصيته، وسَعَة علمه، وضبطه لقاعة الدرس، ولكنه لا يحبُّه، لفظاظته أو كبريائه، أو جلافة طبعه، أو نحو ذلك، مما لا يجذب القلوب إليه.
ومنهم: مَن لا يحترمه الطالب ولا يحبُّه، فليس عنده من العلم والشخصية ما يحترمه الطالب ويقدِّره لأجله، ولا عنده من العاطفة، وحسن المعاملة، وانبساط الشخصية: ما يحبِّبه إلى الطالب.
ومنهم: مَن يجمع له الطلاب بين التقدير والحبِّ معًا، لما وهبه الله من علم، وما منحه من مواهب، وما يبذل من جهود: تفرض على كلِّ مَن اتَّصل به أن يقدِّره ويحترمه، ويعطيه حقَّه من الإكبار والتقدير، كما أن لديه من الفضائل النفسية، والمكارم الأخلاقية، والسلاسة والعذوبة في الشخصية: ما يجعله يألف ويؤلف، ويُحِب ويُحَب.
وأحسب أن عبد العظيم كان - إلى حدٍّ كبير - مع طلابه من هذا الصنف. ليست هذه شهادة صديق لصديق، وإنما هي شهادة رئيس أو عميد لأستاذ. على أن شهادة الصديق لصديقه ليست دائما موضع تهمة، فالله تعالى يقول: { وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} [الأنعام:152] .
ومن الأصدقاء مَن يجور على صديقه، أو لا يعطيه حقَّه من الثناء إذا كان أهلا لذلك، حتى لا يُتَّهم بالتحيُّز، وهو بهذا قد ظلم صديقه، وظلم الحقَّ معًا. كما قيل: إن بعض القضاة حكموا على بعض الأمراء ظلما ليشتهروا بالعدل! وقد شاهدتُ بنفسي بعض الأساتذة، وأنا عميد لكلية الشريعة ظلم ابني، ولم يعطِه الدرجة التي يستحقُّها، حتى لا يقال: إنه جامل ابن العميد!!
لم يركض وراء الشهرة والمال:
لقد عاش عبد العظيم الديب حياته راهبا ومتفرِّغا للعلم، لم يركض وراء الشهرة، ولم يسعَ إلى الأضواء، مثل كثير من زملائه، وغير زملائه. بل الحقيقة أن الأضواء سَعَت إليه، وركضت خلفه، ولكنه أبى أن يستجيب لإغرائها.
لقد كلَّمني كثير من أهل العلم أن تتاح لهم الفرصة ليظهروا في برنامج (الشريعة والحياة) الذي أقدمه في قناة الجزيرة، حين أغيب عنه لسبب أو لآخر. إلا عبد العظيم الذي ظلَّت الجزيرة تحاول أن تظفر به في حلقة من الحلقات، وهو العالم الكفء القدير على إيفاء أي موضوع يختاره حقَّه، فلم تصل إلى ما تريد، وقد وسَّطوني في ذلك لإقناعه، فلم أستطع، فقد كان موقفه مبدئيًّا.
وظهرت المصارف (البنوك) الإسلامية، وهيئات الرقابة الشرعية فيها، وفيها مجال للإغراء، وهو من رجال الفقه المعدودين، فلم يقبل أن يدخل في هذا الميدان أيضًا، في حين نرى كثيرين من زملائنا قد أصبح هذا شغلهم الشاغل، الذي يستهلك كلَّ وقتهم أو جُلَّه، ويشغلهم عن العطاء العلمي المنشود من مثلهم.
ولقد شغله الاستغراق في خدمة العلم عن مجاملة الناس، وزيارتهم في مجالسهم، والتعرُّف على كبار الشيوخ الذين لهم منزلة وتأثير في البلد، كما فعل كثيرون. ولا غرو أن أُعطيت الجنسية القطرية لعدد من زملائه، وكلُّهم من أهل الفضل، وكان هو أحقَّ بها وأهلها، فهو أقدم منهم في البلد، وأعظم كفاية، بشهادتهم أنفسهم، ولكن الكثيرين لا يعرفونه.
مشغول بهموم الأمة:
ومع عكوفه على العلم، واستغراقه فيه، كان أبدا مشغولا بهموم الأمة، أمَّة الإسلام في المشارق والمغارب، ومشكلاتها السياسية والاقتصادية، وقضاياها الثقافية والاجتماعية، وله فيها رأي ورؤية، وما لقيتُه مرَّة أو حدَّثتُه بالهاتف إلا أخذتْ هذه الهموم جُلَّ وقتنا، فلا يستطيع العالم الحقُّ - وإن ترهَّب وتفرَّغ - أن ينفصل عن أمَّته وما تشكو منها، وهو جزء منها، وعضو في جسدها، ومن لم يهتمَّ بأمر المسلمين فليس منهم.
اشتغاله بالتحقيق أكثر من التأليف:
اشتغل عبد العظيم بالتحقيق أكثر مما اشتغل بالتأليف، مع أنه قادر على التأليف بمنهجية وجدارة، ولقلمه نفحة أدبية ظاهرة، وله اهتمام بالثقافة العامَّة، وبالتاريخ الإسلامي خاصَّة، وله فيه دراسات وكتابات جيدة، نشرت له (الأمة) في سلسلة كتبها الدورية: كتابا منها بعنوان: (المنهج في كتابات الغربيين عن التاريخ الإسلامي)، حتى إنه كتب قبل ذلك كتابا عن (أبي القاسم الزهراوي)، الطبيب الجراح المسلم المعروف، وقلما يعنى المشايخ بمثل هذه الأشياء! كما له عناية فائقة باللغة والأدب والشعر، ولا غرو فهو ابن دار العلوم الأصيل.
ولم يؤلِّف فيما يُدرِّسه إلا كتاباً واحداً في الميراث والوصية، ليوفِّر وقته لتحقيق الكنوز التي عكف عليها.
مقدمتي لتحقيق (نهاية المطلب):
وقد كتبتُ مقدِّمة طويلة لعمله العلمي الكبير، وهو تحقيقه لكتاب (نهاية المطلب) لشيخه ومعشوقه إمام الحرمين، تضمنت ثلاث كلمات: كلمة عن إمام الحرمين، وكلمة عن كتاب (نهاية المطلب)، وكلمة عن المحقِّق، ولا بأس أن أقتبس هنا بعض ما كتبته عن المحقِّق، قلتُ:
(وأما المحقق، فهو الأخ الصديق الصدوق: الأستاذ الدكتور عبد العظيم محمود الديب، الذي أعرفه منذ كان طالبا في القسم الابتدائي بمعهد طنطا الديني، وتربطني به منذ ذلك الزمن صلة وثيقة، لم تزدها الأيام إلا قوَّة، وإن كان يصغرني ببضع سنوات.
عرَفتُ الدكتور الديب – منذ يفاعته - رجل صدق: صدق مع نفسه، وصدق مع ربِّه، وصدق مع إخوانه، وصدق مع الناس أجمعين، مستمسكا بالعروة الوثقى لا انفصام لها. عرَفتُه قوي الإيمان، عميق اليقين، نيِّر البصيرة، نقي السريرة، يقظ الضمير، حيَّ القلب، جيَّاش العاطفة، طاهر المسلك، بعيدا عن الريبة.
وعرَفتُ فيه الحماس والغَيرة لما يؤمن به، لا يضنُّ بجهد ولا وقت ولا نفس ولا نفيس في سبيل ما يؤمن به، مدافعا عنه، وإن خالفه الناس. وقد يغلو في الدفاع عن بعض الفصائل الإسلامية، حتى يكاد يحسبه سامعه من المتشدِّدين، وما هو منهم.
تجسَّدت فيه الأخلاق العريقة للقرية المصرية – قبل أن تُغزى بآفات الحضارة الحديثة - من الحياء والإباء، والشهامة والوفاء، والبرِّ والصلة، كما يتجلَّى ذلك في إهداءاته لكتبه، وشكره لشيوخه وزملائه، وكلِّ من عاونه بجهد. أحسبه كذلك، والله حسيبه، ولا أزكيه على الله تعالى.
وقد تجلَّت هذه الفضائل التي عُرف بها الديب يافعا وشابًّا، في حياته العلمية المباركة، كهلا وشيخا، ومَن شبَّ على شيء شاب عليه.
وإذا رأيت من الهلال نموَّه ** أيقنت أن سيصير بدرا كاملا!
المحقق المتميز:
فالدكتور الديب رجلٌ عالم بحاثة دؤوب، طويل النفس، دقيق الحسِّ، نافذ البصيرة، متمكِّن من مادَّته، قادر على الموازنة والتحليل، له مَلَكَة علمية أصيلة يقتدر بها على الفَهم والفحص، والنقد. صبور على متاعب العلم، وللعلم متاعب ومشقَّات لا يدركها إلا مَن مارسها وعايشها، كما قال الشاعر:
لا يعرف الشوق إلا مَن يكابده ** ولا الصبابة إلا مَن يعانيها!
وكما ذكرتُ أن الدكتور الديب رجل له قلم رشيق بليغ، كما تجلَّى ذلك في بعض ما كتب من مقالات ورسائل وكتب.
ومع هذا لم يشغل (التأليف) وقته، كما شغله (التحقيق) فقد اختار الطريق الوعر، والمهمَّة الأصعب، وهو لها بتوفيق الله: بما لديه من مؤهِّلات عقلية وعلمية ونفسية؛ فقد حفظ القرآن من صِغَره في الكتاب، وتكوَّن في معاهد الأزهر، الابتدائية والثانوية، ثم في كلية (دار العلوم) بالجامعة، وكان فيها فحول في علوم العربية والشريعة، وملك مفاتيح العلم، وعاش يقرأ ويدرس ويناقش، ويتعلَّم من كبار الشيوخ، وأساتذة التحقيق، وقد اكتملت له الخصال أو المزايا الست، التي أوصى بها شيخه الإمام الجويني طلاَّب العلم، فيما أنشدوا له من شعر، حيث قال:
أصغ، لن تنال العلم إلا بستة ** سأنبيك عن تفصيلها ببيان
ذكاء، وحرص، وافتقار، وغربة ** وتلقين أستاذ، وطول زمان
وقد عكف الأخ عبد العظيم منذ دخل ميدان التحقيق على تراث إمام الحرمين، فهو مُولَع بالرجل منذ عَرَفه في دراسته عنه بالماجستير والدكتوراه بدار العلوم.
بل هو في الحقيقة (عاشق) لإمام الحرمين، كما تحسُّ بذلك إذا تحدَّث عنه أو كتب عنه. والعاشق تهون عليه الصعاب، ويجد البعيد قريبًا، والحَزَن سهلا، في سبيل معشوقه.
أخرج الدكتور الديب قبل ذلك من كتب إمام الحرمين (البرهان) في أصول الفقه، وهو كما قال التاج السبكي (لغز الأمة). وقد أمضى في تحقيقه سبع سنوات كاملة. وأخرج بعد ذلك له أثرين مهمين
و(الدرة المضية في الخلاف بين الشافعية والحنفية)، وقدم لها بدراسة مهمة ونافعة كذلك. أما تحقيق (النهاية) أو نهاية المطلب، فقد كان حلما وأمنية له، منذ عرف إمام الحرمين، ثم غدا أملا ورجاء، ثم تحول إلى حقيقة، منذ بدأ يبحث عن نسخه منذ سنة 1975م، ومنذ وصل إلى قطر سنه 1976م، وهو مشغول بالكتاب.
وظلَّ نحو عشرين عاما، وهو عاكف على (النهاية) أو (نهاية المطلب)، عايشه هذه السنين ورافقه: يقرؤه على مهل ، ويجتهد أن يفهمه على الصواب ما أمكن، وأن يفسر غامضه، ويفك طلاسمه.
وأنا أدرى الناس بما عاناه الدكتور الديب في تحقيقه لهذا المخطوط، من حيث جمع أصوله المبعثرة في شتى مكتبات العالم، فقد ظل يقرأ فهارس المخطوطات، ويتتبعها، ويزور المكتبات هنا وهناك بنفسه، ويسأل العارفين، ويستعين بالأصدقاء - وأنا منهم - ليبحثوا له عن نسخ من الكتاب، حتى جمع أقصى ما يمكن الحصول عليه من أجزاء الكتاب من مظانه في العالم، عن طريق التصوير طبعا.
جَهَد د. الديب جَهده، حتى جمع من الكتاب عشرين نسخة صوَّرها من مكتبات العالم: في القاهرة والإسكندرية وسوهاج من مصر، ودمشق وحلب من سورية، والسلطان أحمد وآيا صوفيا من تركية. ولكن لم توجد منه نسخة كاملة. وبلغ عدد مجلداتها (44)، وعدد أوراقها (10336) ونسخت بخط اليد في (14590) صفحة.
هذا، بالإضافة إلى المختصرات والنصوص المساعدة، وهي تسع نسخ، بلغ عدد مجلَّداتها (15) وعدد أوراقها (3750) تقريبًا.
ثم بدأ يقرأ النص قراءة العارف الخبير، ولكنه يقرأ نصًّا غير عاديٍّ، لرجل غير عاديٍّ، فبعض المصنَّفات تكون ترديدا لكلام السابقين، أو تكرارا وتأكيدا له، فيستطيع قارئها أن يبحث عنها فيما نقلت عنه.
أما إمام الحرمين فهو مستقلٌّ في تفكيره، مستقلٌّ في تعبيره، فيحتاج من محقِّقه إلى فَهم دقيق، وتأمُّل عميق، وصبر جميل، ومراجعة طويلة، حتى يفهم ما يريد المصنِّف.
على أن إمام الحرمين كثيرا ما يغرب في تعبيره، فيظلُّ المحقِّق يبحث طويلا في المعنى المراد، حتى يجده باليقين أو بالظنِّ. وقد يظلُّ أسابيع أو شهورا، يفتِّش عن المعنى، ويبحث عن المظانِّ، ويشاور مَن يثق به، إلى أن يشرح الله صدره لما يختار.
أضف إلى ذلك ما تعانيه المخطوطات أبدا من كلمات مطموسة، أو مخرومة، كلها أو بعضها، أو لعلها سقطت من المصنف نفسه أثناء الكتابة، كما يحدث لكلِّ مؤلف، زيادة عما يصنعه النسَّاخون بالكتب من تصحيف وتحريف، ومسخ وتغيير، وخصوصا الجهلة منهم!
زد على ذلك ما يستشهد به المصنِّف رحمه الله من أحاديث، بعضها لا يكون معروفا عند الفقهاء، وفي كتب الفقه المألوفة، بحيث نجده، في تلخيص الحبير، أو سنن البيهقي، أو غيرهما من الكتب التي هي مظان هذا اللون من الأحاديث.
ليس هيِّنًا ما قام به الدكتور الديب من تحضير وتهيئة للعمل الكبير الذي نهض له، وهو له أهل، ليخرج (النهاية) إلى النور، ويحيلها من مقبور إلى منشور.
وقد قال بعض العلماء: من نشر مخطوطة، فكأنما أحيا موءودة!. فكيف إذا كانت هي (النهاية)؟!
مدرسة متميزة في التحقيق:
ينتمي الأخ الدكتور الديب إلى مدرسة في التحقيق، متميزة، شيوخها الكبار: آل شاكر: أحمد ومحمود، وعبد السلام هارون، والسيد أحمد صقر، رحمهم الله، وأمثالهم.
وهي مدرسة تُعنى بخدمة النص ذاته، وتقديمه للقارئ بيِّنا واضحا مفهوما، كما أراده مصنفه، بقدر الاستطاعة، ولا تثقل كاهل المتن المحقق بكثرة التعليقات التي لا لزوم لها، وتوسيعها بغير حاجة، كما يفعل الكثيرون.
ولقد زرت الدكتور الديب في (مخبئه العلمي) أو في (ورشة العمل) التي يزاول فيها مهنته، ويمارس تحقيقه، وهي حجرة كبيرة فيها عدة مكاتب، مجهزة بما سماه الدكتور (حافظ عصرنا) الكومبيوتر، وبالجهاز القاريء للمخطوطات، وبالمراجع المختلفة: من فقهية وحديثية ولغوية، وغيرها.
وقد قدم الدكتور الديب من قبل دراسة عن إمام الحرمين: حياته وآثاره، حصَل بها على درجة (الماجستير) من كلية دار العلوم، وأخرى عن (فقه إمام الحرمين) حصل بها على درجة (الدكتوراه) مع مرتبة الشرف، والتوصية بطباعة الرسالة وتبادلها مع الجامعات. وهذا كله ساعده على فهم إمام الحرمين، وكتابه المتميز (نهاية المطلب).
لقد قدم الدكتور عبد العظيم الديب للمكتبة الإسلامية خدمة جليلة، بتحقيق هذا الكتاب الفذ، ولا يسعنا، بل لا يسع أي مسلم يهتم بدينه وثقافته وحضارته إلا أن يشكر للدكتور الديب ما قام به من جهد وعناء طوال تلك السنين) اهـ.
مرض الشيخ بالقلب:
لم يكن عبد العظيم من المرفَّهين ولا المدلَّلين، فهو ابن القرية حقًّا، الناشئ في ربوعها، الآكل من ثمارها، الشارب من لبانها، المتمتِّع بهوائها، وكان تكوينه البدني قويًّا، ولكن شاء الله تعالى أن يصيبه من أمراض العصر مرض القلب، وسافر إلى لندن لعمل عملية جراحية منذ سنوات، تمَّت بنجاح والحمد لله.
ولكنه ظلَّ تحت تأثير هذا المرض، فقلَّل من قُدرته على العمل، ومن لقائه بالناس، وما زال به حتى أصابته جلطة في رجله، دخل من أجلها المستشفى، وأُجريت له عملية، وكان قدر الله أن تكون فيها وفاته، رحمه الله.
العناية بتراث الشيخ ونشره:
وأعتقد أن عبد العظيم قد ترك وراءه أشياء كثيرة جديرة أن تُنشر، سواء في باب التأليف أم في باب التحقيق، وإني لأرجو من تلميذه القطري الوفيِّ المخلص الذي كان ساعده الأيمن في تحقيقه، الأخ علي الحمادي حفظه الله: أن يحرص على كلِّ ورقة تركها، وأن ينشر ما هو جاهز للنشر منها، وأن يبحث مع بعض إخوان الشيخ على ما وصل إلى مرحلة قابلة للإتمام، للعمل على إتمامه، وفاء بحقِّ الرجل. ونرجو من جامعة قطر، ووزارة الأوقاف ووزيرها الشهم أحمد عبد الله المري، أن تساهما في ذلك بما للرجل من حقٍّ عليهما.
على طلاَّب الدراسات العليا تقديم أطروحات عن تراث الشيخ
كما أرجو من طلاَّب العلم في جامعاتنا العربية والإسلامية: أن يتناولوا سيرته العلمية وآثاره المنشورة، بالدراسة والتحليل، في أطروحات أكاديمية للماجستير أو الدكتوراه، لتنتفع بها أجيال الأمَّة القادمة.
أسأل الله تبارك وتعالى أن يغفر لأخي عبد العظيم ويرحمه، ويتقبَّله في الصالحين من عباده، ويسكنه الفردوس الأعلى، ويجزيه خير ما يجزى به العلماء العاملين، والمعلِّمين الربانيين، والدعاة الصادقين، {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلاَّ اللَّهَ} [الأحزاب:39] وأن يرزق أهله وإخوانه وتلاميذه ومحبيه الصبر والسلوان، وأن يعوِّض الأمة فيه خيرا، وألاَّ يحرمنا من بشرى الصابرين، {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ *أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة:157،156].
وكان الفقيد في بداية حياته ونشأته أحد طلاب المعهد الديني بمدينة طنطا في محافظة الغربية، وأحد خرِّيجي كلية دار العلوم بالقاهرة، وعكف منذ دراساته العليا وأثناء دخوله ميدان التحقيق على تراث الإمام الجويني؛ حيث حصل على درجة الماجستير من كلية دار العلوم حول دراسة عن حياة الإمام الجويني وآثاره، كما حصل على درجة الدكتوراه مع مرتبة الشرف برسالة جامعية أخرى عن فقه الإمام الجويني (كما جاء في موقع إخوان أونلاين بتصرف).
لقد اشتهر العلامة الدكتور عبد العظيم الديب بملازمته لكتب ومؤلفات الإمام الجويني رحمه الله تعالى، واعتنى بها عناية كبيرة ـ بل كانت هي كل حياته ـ حتى يصح له بلا منازع أن يُلقب بـ"صاحب إمام الحرمين".
لقد فهم العلامة الدكتور عبد العظيم الديب عن إمام الحرمين وأنصت له ووعى علمه حتى تسنى له أن يحقق كتبه بحق وعلم، ولكتب إمام الحرمين في علمي الفقه والأصول منزلة عظيمة جداً.
إن العلامة الدكتور عبد العظيم الديب نموذج من أولئك المحققين الأفراد في عالمنا العربي والإسلامي؛ فقد تربى على العلامة المحقق شيخ العروبة فريد العصر إمام العربية أبي فهر محمود محمد شاكر رحمه الله تعالى، كما تتلمذ للعلامة المحقق عبد السلام هارون والعلامة الفقيه مصطفى أبو زيد والعلامة الأصولي عبد الغني عبد الخالق رحمهم الله تعالى.
إن العلامة الدكتور عبد العظيم الديب من تلك المدرسة التي أنشأها آل شاكر رحمهم الله تعالى، وأهم ما يميز تلك المدرسة أن كل من تخرج منها علماء مشايخ أفراد بين أقرانهم.
فإذا كان العلامة المحدث الفقيه الأصولي اللغوي محدث الديار المصرية باعث النهضة الحديثية شمس الأئمة أبو الأشبال أحمد بن محمد شاكر أشهر هذه المدرسة ومنشئها، فإن أخاه وربيبه وتلميذه العلامة المحقق شيخ العروبة فريد العصر إمام العربية أبا فهر محمود محمد شاكر رحمه الله تعالى هو الذي فرخ التلاميذ ورباهم ورعاهم.
ولقد كان من أثر هذه المدرسة علماء كانوا أفراداً بين أقرانهم، فمن هؤلاء العلامة المحقق اللغوي عبد السلام هارون والعلامة المحقق محمد رشاد سالم والعلامة المحدث المحقق السيد أحمد صقر والعلامة اللغوي محمود الطناحي رحمهم الله تعالى وغيرهم كثير.
ومن الأحياء من هذه المدرسة العلامة المؤرخ بشار عواد معروف، والعلامة اللغوي محمد محمد أبو موسي، والعلامة المحقق عادل سليمان جمال، والدكتور الوزير ناصر الدين الأسد وغيرهم كثير حفظهم الله تعالى ونفع بهم. وغني عن القول مكانة هؤلاء وأثرهم في بابات العلم والتحقيق.
لقد اختار الدكتور العلامة عبد العظيم الديب (صاحب إمام الحرمين) منذ وعى طريقاً للعلم وعرة وصعبة لا يقدم عليها إلا الأفذاذ من أولي الهمم العالية، فاختار طريق التحقيق العلمي الحقيقي - لا كالذي انتشر بين طلبة العلم اليوم- واختار معه الفهم والوعي لما يحقق وينشر من علم بخلاف كثير من الذين ينشرون الكتب ويحققونها ولم يفهموها. ولو أنه اكتفى بذلك لكفاه، ولكن أبت عليه همته وعلو نفسه إلا أن يختار أن يلازم ويصاحب كتب إمام من أئمة الدين يصعب على كثير من أهل العلم قراءة كتبه بله فهمها وتحقيقها، ومكانة إمام الحرمين بين أئمة الدين في غنى عن التنويه بها.
فأخرج العلامة الدكتور عبد العظيم الديب رحمه الله تعالى كتاب "البرهان" في أصول الفقه لإمام الحرمين، ومن قرأ مقدمة الكتاب ناله العجب من معاناة محققه العظيمة لإخراج الكتاب، ومن قرأ الكتاب ففهمه وفهم كلام المحقق علم الفرق بين التحقيق والادعاء.
ولقد منّ الله تعالى على الأمة العربية والإسلامية وعلى الدكتور عبد العظيم حتى أخرج لنا "نهاية المطلب" في دراية المذهب، وليس لمثلى أن ينوه بالكتاب أو الجهد المبذول في تحقيقه، فكفى بالكتاب فخراً أنه لإمام الحرمين وكفي بالكتاب فخرًا أنه من تحقيق خاتمة المحققين الفقيه الأصولي اللغوي المؤرخ العلامة الدكتور عبد العظيم الديب (صاحب إمام الحرمين) رحمه الله تعالى، وكفى بالدكتور عبد العظيم الديب فخرًا أن ينشر في الأمة فقه إمام الحرمين.
ويُعدُّ ما قام به د. الديب في تحقيق الكتاب إنجازًا كبيرًا وذخيرةً ثمينةً من ذخائر التراث الفقهي الزاخر؛ حيث يعرفه المشتغلون بفقه المذهب الشافعي، ويُدركون قيمته؛ فهو أحد الأعمدة التي يُستند إليها ويُعوَّل عليها. ويكفي أيضا لمعرفة الجهد المبذول أن تنظر في الكتاب والسنين الطويلة التي قضاها الشيخ في تحقيقه ثم تسمع وصف الشيخ القرضاوي لعمل د. عبد العظيم الديب في تحقيق الكتاب بأنه "ليس هيِّنًا، وأنه قدم للمكتبة الإسلامية خدمةً جليلةً".
وقد رافق أستاذنا الفقيد رحمه الله الدكتور العلاَّمة يوسف القرضاوي على مدار سنوات حياته وتربط بينهما علاقة أخوَّة وطيدة، وكثيراً ما كان يثني عليه وهو أهل لذلك.
وكل من رافق الشيخ أو جلس معه لاحظ بشدة مدى حب الشيخ رحمه الله لأساتذته الذين تعلم عليهم واستفاد منهم ودوام ثنائه عليهم والدعاء لهم خصوصا العلامة الكبير الشيخ محمود شاكر فقد كان كثير الذكر له والحديث عنه والإعجاب به (وحق له)، وكذلك الأستاذ عبد السلام هارون رحم الله الجميع.
كانت الحياة قد عركت الشيخ وعاصر من الأمور ما جعل الجلوس إليه والحديث معه متعة ما بعدها متعه خصوصا ما يتعلق بتاريخ الأمة (والذي ذكر الشيخ أنه ما طرق بابه إلى دفاعا عن الأمة وغيرة عليها) وأدوار الدعوة فيها والنظرة الثاقبة للمستقبل وما ينبغي أن يقوم به الدعاة تجنباً لكبوات الماضي.. وقد كان الشيخ مرجعا في التاريخ ذا نظرة ثاقبة واعية ودراسة وافية يعلم هذا كل من جلس إليه واستمع منه أو حضر له محاضراته ودروسه.
والمعروف عن الدكتور عبد العظيم محبته وحرصه على الخمول وعدم الشهرة، مع تواضعه الجم وأدبه الرفيع وعفة لسانه ولقد شرفت بقابلته مرات قليلة فما سمعته يوما يذكر أحدا بسوء ولا يذم أحدا من العلماء بل ولا أحدا وإن أراد تنبيها لخطأ فبمنتهى الأدب والإنصاف وهو شيء لا يكاد يوجد هذه الأيام، وأشهد الله تعالى أنني كنت استفيد في كل مرة أمورًا لا يمكن لي أن أتعلمها إلا في سنين وقد لا أتعلمها أبدًا، فجزاه الله تعالى عني وعن طلبة العلم خير الجزاء.
عبد العظيم الديب.. العالم المحقق:
وكتب عبد الرحمن فهمي في ذكرى وفاته:
وُلد العالم الجليل الدكتور عبد العظيم محمود الديب في قرية كفر إبري التابعة لمركز زفتى محافظة الغربية بمصر في عام 1929م، وحفظ القرآن الكريم منذ صغره في كتّاب القرية وهو دون العاشرة، التحق بالمدرسة الإلزامية لمدة 5 سنوات تمهيدًا للالتحاق بالأزهر؛ حيث كان لزامًا على من يدخلون الأزهر أن يكونوا من حفظة القرآن، ثم أتمَّ تعليمه في المعهد الديني الثانوي بمدينة طنطا في محافظة الغربية، أنهى دراسته الثانوية بمعهد طنطا الديني بعد 9 سنوات دراسية وهو في سن الثامنة عشرة، التحق بكليتي أصول الدين بجامعة الأزهر ودار العلوم في وقت واحد، وفي السنة النهائية علمت إدارة كلية دار العلوم أنه يدرس في كليتين في آنٍ واحد فخيرته بين إحداهما، فاختار استكمال الدراسة في كلية دار العلوم وتخرَّج فيها عام 1956م.
التحق بكلية التربية لمدة عام، وحصل منها على الليسانس حتى يكون مؤهلاً للعمل بالتدريس، حصل على الماجستير عام 1970م في تحقيق كتاب "البرهان" لإمام الحرمين الجويني، ثم حصل على الدكتوراه عام 1975عن "الإمام الجويني وعلمه ومكانته وأثره ومنزلته"، وغادر مصر متوجهًا إلى قطر عام 1976م؛ حيث أصبح أستاذًا ورئيس قسم الفقه والأصول بكلية الشريعة جامعة قطر سابقًا، ومدير مركز بحوث السيرة والسنة فيها بالنيابة.
كان يمقت الخلاف، ويكره العنف، ويكف يده ولسانه، لا يجهل على جاهل، أو يرد على متطاول، قضى ما يقرب من عشرين عامًا في التنقيب في حروف كتاب واحد كبير لإمام الحرمين الجويني- هو نهاية المطلب في فقه الشافعية- وهو أحد الكتب التي قام على خدمتها.
بدأ وعيه السياسي واهتمامه بقضايا وطنه مبكرًا، فقد شارك منذ التحاقه بالأزهر في المظاهرات ضد الاحتلال البريطاني لمصر، وقد رافق الدكتور يوسف القرضاوي على مدار سنوات حياته، وتربط بينهما علاقة أخوَّة وطيدة.
صلته بالإخوان:
التحق بدعوة الإخوان في وقت مبكر، وتربَّى على يد الأستاذ البهي الخولي، والذي كان أحد تلاميذ الإمام البنا وصاحب جهد بارز في نشر الدعوة بطنطا، يقول الدكتور يوسف القرضاوي: لقد تلاقينا منذ حوالي ثلثي قرن من الزمان، في المعهد الديني في طنطا، ونحن في مقتبل العمر، وريعان الشباب، وجمعتنا الدراسة الأزهرية، كما جمعنا الانضمام إلى دعوة الإخوان المسلمين، والتتلمذ على إمام الجماعة في طنطا الداعية الكبير الشيخ البهي الخولي، الذي كنا نلتقي عنده بعد صلاة الفجر من كلِّ أسبوع، في حلقة أطلق عليها كتيبة (الذبيح)، إشارة إلى إسماعيل عليه السلام، الذي قال له أبوه: ﴿يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنْ الصَّابِرِينَ﴾ (الصافات: من الآية 102).
يقول عنه عبد السلام البسيوني: حين كنت في (إسلام ويب) أن فضيلته استحق مبلغًا عن كونه مستشارًا فكريًّا للشبكة، وطلبت منه رقم حسابه في البنك.. وحاولت جهدي أن أصل إليه فأبى.. حتى اضطررت أن أتصل بأحد الأحباب في المصرف لأعرف رقم حسابه، ثم لأودع المبلغ باسمه.. كل ذلك وهو مستحٍ خجِل، يؤنبني من طرف خفي، ويلومني.
كتاب نهاية المطلب للديب:
ولقد عرفته رحمه الله حليمًا ضابطًا نفسه.. شهدت أحد الناس يتطاول عليه- بشكل مفاجئ- ويسيء إساءات بالغة، والشيخ الحليم بين الاندهاش والاستغفار والحلم.. وما حرك الموقف إلا انفعال من بعض الموجودين، غاروا على الشيخ، وحموا له.
تعلمنا منه إجلال العلماء، وتقديم العذر، وترك الخلاف، واحترام الاختلاف الراشد، وتعلمنا منه تقدير جهد الناس، وعدم التفريط في الوقت، وتعلمنا عدم التسليم بما تقوله الميكروفونات، ولا الإذاعات ووسائل الإعلام؛ لأنها دائمًا تتحدث بصوت مالك السلطة لا صاحب الحقيقة، وأن هذه الحقيقة كثيرًا ما تطمر تحت أثقال وأوزار من التعمية والإيهام والليّ والمخادعة، وتغيير الجلود والأشكال.
في رثاء فقيد العلم والدعوة والتحقيق:
وقد كتب الشاعر الداعية أحمد محمد الصديق قصيدة في رثائه:
تَركْتَ فَراغاً لَيْسَ يملَؤٌهُ الغَيْرُ وطَيْرُكَ في التِّحليقِ كانَ هُوَ الطَّيْرُ
وصَبْرُكَ في قَهْر المَصاعِبِ فائق وسَيْرُكَ فيهِ.. لا يُضارِعُهُ سَيْرُ
وَهَبْتَ "الجُوَيِنْيَّ" الإمامَ أَعَزَّ ما مَلَكْتَ.. أَلا وَهْوَ الشَّبيبَةُ والعُمْرُ
وأَحْيَيْتَ ما خَطَّتْ يَراعَتُهُ.. وَما طَوَى عَنُ عُيونِ الخَلْقِ مِنْ علْمِهِ الدَّهْرُ
وَها هُوَ حَيٌّ بَيْنَنا.. باهِرُ السَّنا كما يَزْدَهي نَجْم تٌلَألْأ.. أَوْ بَدْرُ
وأَطْلَقْتَ في عِلْمِ الشَّريعَةِ خَيْلَهُ عِتاقاً.. وفي شَتّى الفُنونِ هُوَ البَحْرُ
ثِمارُ اللَّيالي السّاهِراتِ تأَلَّقّتْ نَفائِسُها.. وهي الّلآلئُ وَالدُّرُّ
وفي كُلِّ مّيْدانٍ يّخوضُ غمِارَهُ يُضيءُ على دُنيا الآنَام لَهُ سِفْرُ
لهُ السِّبْقُ.. تَصنيفاً وحُسْنَ دِرايَةٍ وإتْقانَ صُنْعٍ.. لا يَزيغُ لَهُ فِكْرُ
وَحَظُّكَ منْ تلكَ الخَصائِصِ خَصْلَةٌ فأنتَ بها الثَّبْتُ المُعَلِّمُ والحَبْرُ
وآثَرْتَهُ.. إذْ رُحْتَ تُحيْي تُراثَهُ ويا حَبَّذا أنَّ المِدادَ هُوَ التِّبْرُ
وذلك منْ أجْلِ الإمامِ وعلْمِهِ وبالحَرَمَيْنِ.. النَّثْرُ يَشْرُفُ والشِّعْرُ
فكيف بِمَنْ نالَ الإمامَةَ فيهما وظُلَّلَهُ التّقْديسُ والطُّهْرُ والذّكْرُ
نفَضْتَ غُبارا عنْ كُنوزٍ ثمَينَةٍ وأوْضَحْتَ.. حتّى بانَ مِنْ عُسْرِها اليُسْرُ
لكَ الصَّدَقاتُ الجارياتُ بنَفْعِها وإنَّ الذي عِنْدَ الإلَهِ هُوَ الذُّخْرُ
وَحَسْبُكَ في النّاسِ الشُّهودُ ذَوو التُّقَى هُمُ الأَهْلُ والأَصْحابُ والصَّفْوّةُ الغُرُّ
وَجيلٌ تَلَقَّى العِلْمَ منْكَ هدايَةً وأنتَ الأَبُ الحاني.. وقُدْوَتُهُ البَرُّ
إذا سُئلوا فاضَتْ عليكَ مَحامِدٌ وأَلْسِنَةٌ يَجْري بها الـمَدْحُ والفَخْرُ
حَمَلْتَ هُمومَ الدّينِ.. والأُمَّة التي إليهِ انْتَمَتْ.. والهَمُّ بينَ الحَشا جَمْرُ
وَيارُبَّ هَمٍّ يَصْطَلي المرءُ نارَهُ يَذوبُ لهُ مِنْ حَرِّ جَمْرتِهِ الصَّخْرُ
وكنتَ الذي بُركانُه يَقْذِفُ اللَّظَى بغيرِ هِياجٍ حينَ يَنْزِفُهُ الصَّدْرُ
ومِنْ خَلْفِهِ حِسٌّ رَقيقٌ وَمُرْهَفٌ وقَلْبٌ تَوَلىّ نَهْشَهُ الدّاءُ والضُّرُّ
وتَعْصِرُهُ الأَهْوالُ يُدْميهِ وَقْعُها ولَمْ يَنْجُ مِنْ أَوطانِ أُمَّتِهِ شِبْرُ
ولَوْلا احْتِسابٌ ضاقَ ذَرْعاً بِهَمِّهِ عَزيزٌ كَريمُ الطَّبْع.. أّوْ نابِهٌ حُرُّ
وتلكَ دلالاتُ الكَرامَةِ والرِّضَا مِنَ اللهِ.. عُقْباها السَّعادَةُ والخَيْرُ
لكَ اللهُ.. كَمْ عانَيْتَ والجسْمُ قَدْ ذَوَى عَليلاً.. وعنْدَ الجَنْي يُسْتَعَذبُ الـمُرُّ
وذِكْراكَ لا تَخْبو.. وشأْنُكَ عِنْدَنا كَبيرٌ.. وكَمْ أَثْنَى سِوايَ وهمْ كُثْرُ
وشَمسُكَ إنْ غابَتْ فَمَطْلَعُها غَداً بِجنّاتِ عَدْنٍ حيثُ يُحْتَسَبُ الأَجْرُ
كأَنّي أَرىَ وَجْهٌ الجُوَيْنيِّ مُقْبِلاً لِلُقْياكَ مَسْروراً.. يَهُشُّ ويَفْتَرُّ
يَخِفُّ إلى اسْتِقبالِ مَنْ حَلَّ ثاوياً على الرَّحْبِ تّحدوهُ المحَبَّةُ والبِشْرُ
يُناديكَ "ياعَبْدَ العَظيمِ" ويَكْتَسي مُحَيّاكَ نوراً.. ما لِرَوْعَتِهِ حَصْرُ
وَتُثْني على الرَّبِّ الكريمِ وفَضْلِهِ وأَنتَ تُناجِيه "لَكَ الحَمْدُ والشكْرُ"
ورحمه الله رحمة واسعة، وأسكنه فسيح جناته.. آمين.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مصادر الترجمة:
1-موقع إخوان أونلاين.
2-موقع ملتقى أهل الحديث.
3-الموسوعة التاريخية الحرة.
4- الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين.
5-موقع الشيخ د. يوسف القرضاوي.
6-مواقع الكترونية أخرى.
وسوم: العدد 1018