في ذِكرى رحيل "عاشق الحريّة"
تُرى، ما الذي جنته بلادنا مِن الأحزاب والجماعات السلفيَّة الغوغائيّة؟
ما الذي جنته مجتمعاتنا البائسة من المغالطات الفكريّة، والضلال الوهابي المبين؟
ما جدوى المتون والحواشي والعنْعنات والأسانيد المكدّسة بها تلك الأدمغة البالية؟
أليسَ هؤلاء الجهلَة مَن كرّسوا حياتهم لِشرعنة الطغيان ونزع الغُربةَ عنه؟
أليسَ هؤلاء السفلَة الذين أكثروا مِن فتاوى طاعة وليّ الأمر، وتكفير مُعارضيه؟!
أليسَ هؤلاء الكفرة الذين زعموا أنَّ الخروج على "وليّ الأمر"؛ خروج على المِلَّة!
أليسَ هؤلاء الفجرة الذين حرّموا "المظاهرات"، وزعموا أنّها مِن أكبر المُنكَرات؟
أليسَ هذا الفكْر الأسود الذي حوَّلَ الحاكمَ إلى معبودٍ لا يُعصَى، ولا يُسأل عمَّا يفعل؟!
أسألكم بالله، أليسَ ديوان (نزار قبّاني) أصدق مِن الفتاوى المُجهَّزة لحماية الطغاة؟
باللهِ عليكم، أليست أشعار (نزار) أجلّ مِن خُطَب السلفيين الحامضة؟!
بلى، فقصائده أقرب لروح الدّين مِن كل ما أفرزته الحناجر الوهّابية المبحوحة!!
فالدّين عند "نزار"؛ تحريض الشعوب للإطاحة بالطغاة والمستبدّين!
الدّين عند "نزار"، زلزلة عروش الجبابرة، واقتلاع جذور الديكتاتوريّة!
الدّين عند "نزار" الثأر للأمة مِمَّن نقضوا العهد، وتحالفوا مع أعدائها.
وقد طبّقَ –يرحمه الله- هذه المعاني الجليلة، وأطلق خيلَ قصائده لهدم معاقل الطغيان!
* * *
لا جَرَمَ أنَّ السياسة لاحقت "نزار" في كلّ مكان، حتى عندما هاجر إلى "بيروت" لم يهنأ لحظةً واحدة، فقد مُنِيَ بفاجعةٍ كبيرة جعلته يغادرها مُجللَّا بالدموع والدماء بعد أن قُتِلت زوجته "بلقيس"، فأصدر ديوانه الشهير (بلقيس) ولم يكن رثاءً لزوجته بقدر ما كان رثاء المدن والشعوب كلِّها، وهجوماً على الحكّام والسياسيين المفسِدين، يقول في هذا الديوان:
شُكراً لكمْ... شُكراً لكمْ
فحبيبتي قُتلتْ وصارَ بوسْعكم أن تشربوا كأساً على قبرِ الشهيدةْ
وقصيدتي اغتيلت ... وهَلْ مِن أُمَّةٍ في الأرضِ -إلَّا نحنُ- تغتالُ القصيدةْ؟
ثمَّ راح يهاجم العروبةَ وأهلها- قائلاً:
أيّة أُمَّةٍ عربيةٍ تلكَ التي تغتالُ أصواتَ البلابِلْ؟
قَسَمَاً بعينيكِ اللتيْنِ إليهما تأوي ملايينُ الكواكبْ
سأقُولُ، يا قَمرِي، عن العَرَبِ العجائبْ
فهل البطولةُ كِذْبَةٌ عربيةٌ؟ أم مثلنا التاريخُ كاذبْ؟
بلقيسُ يا عِطْراً بذاكرتي, ويا قبراً يسافرُ في الغمامْ
قتلوكِ في بيروتَ مثلَ أيِّ غزالةٍ، من بعد أن قَتَلُوا الكلامْ
بلقيسُ ليستْ هذهِ مرثيَّةً؛ لكنْ على العربِ السلامْ !
* * *
الْحقَّ أقول: ليست "بلقيس" وحدها مَن ماتت، بلْ هناك الكثير من الأشياء التي ماتت في قلب نزار؛ فضاقت عليه بيروت التي قال فيها:
"بيروتُ تقتُلُ كلَّ يومٍ واحداً مِنَّا، وتبحثُ كلَّ يومٍ عن ضحيَّة"!!
يبدو أنَّ السياسة هي التي اختارت «قباني» منذ مطلع شبابه، فقد تخرج من كلية الحقوق عام 1945م وعمل دبلوماسياً في مصر، ثم في بريطانيا، ثم إسبانيا، ثم الصين. وهذا ما ترك في نفسه أثراً واضحا ... ثمَّ طلّقَ السياسة، وولَّى وجهه صوب الشعوب البائسة؛ لاستنهاضها من غفلتها، وتعريفها بموضع الداء، كما في قصيدة (عزف منفرد على الطبلة) يقول فيها:
الحاكم يَضربُ بالطبلةْ، وجميع وزارت الإعلام تدقّ على ذات الطبلةْ!
وجميع وكالات الأنباء تُضخّم إيقاع الطبلةْ
والصحف الكبرى والصغرى تعمل أيضاً راقصةً في ملهى تملكه الدولةْ!
لا يوجد صوتٌ في الموسيقى أردأ من صوت الدولةْ ...
مثل السردين، ومثل الشاي, ومثل حبوب الحمل
ومثل حبوب الضغط، ومثل غبار السيارات
الكذب الرسمي يُبثُّ على كل الموجات
وكلام السلطة براقٌ جداً كثياب الرقَّاصات
لا أحدٌ ينجو من وصفات الحُكم وأدوية السُلطةْ
فثلاث ملاعق قبل الأكل وثلاث ملاعق قبل صلاة الظهر
وثلاث ملاعق بعد صلاة العصر
وثلاث ملاعق قبل مراسيم التشييع وقبل دخول القبر
هل ثمَّة قهرٌ في التاريخ كهذا القهر؟
الطبلةُ تخترق الأعصاب .. فيا ربّي: ألْهِمنا الصبر !!
* * *
في حكايتهِ عن المدن التي عاش فيها وتركت أثراً بداخله، يقول "نزار" عن (لندن) بأنها "منحتني الطمأنينة، وأعطتني براريها المكشوفة واللانهائية المخضرّة أول دروس الحرية"!
لا حولَ ولا قوة إلاَّ بالله! لقد وجد (الحريَّة) في "عاصمة الضباب"، بينما افتقدها عند بني عبد شمس وبني مخزوم المُستبديّن!
لقد كتب "نزار" في السياسة كما كتب في الحب، ولم تكن قصائده السياسية أقلّ شأناً من قصائده الرومانسية، حيث ترك عدداً كبيراً من القصائد السياسية التي جُمعت في دواوين عدَّة ... فاستمع إليهِ في قصيدة (إلى أينَ يذهب موتى الوطن؟):
نموتُ مصادفةً ككلاب الطريق
ونجهل أسماء مَن يَصنعونَ القرار
نموت ولسنا نناقش كيف نموت؟ وأين نموت؟
فيوماً نموت بسيف اليمين، ويوماً نموت بسيف اليسار
نموت من القهر، حرباً وسِلماً، ولا نتذكّر أوجه مَن قتلونا
ولا نتذكّر أسماء مَن شيّعونا
فلا فرق -في لحظة الموت- بين المجوس وبين التتار!
* * *
لقد ضاق "نزار" من نفسه، بلْ ضاق من كل شيء؛ بعدما قضى حوالي نصف قرنٍ من الزمان، وهو يصرخ في الأمة، كيْ تثور على طُغاتها المجرمين، لكنَّ أحداً لم يستجيب ... فكتب قصيدته الأخيرة (متى يُعلنونَ وفاة العرب؟) التي استهلها قائلاً:
أنا منذ خمسين عاما أُراقب حال العرب
وهم يرعدون ولا يمطرون، وهم يدخلون الحروب، ولا يخرجون!
أنا منذ خمسين عاماً أحاول رسم بلادٍ تُسمّى مجازاً بلاد العرب
رسمتُ بلون الشرايين حيناً، وحيناً رسمتُ بلون الغضب!
وحين انتهى الرسم، ساءلتُ نفسي:
إذا أعلنوا ذات يومٍ وفاة العرب، ففي أيّ مقبرةٍ يُدفنون؟
ومَن سوف يبكي عليهم؟ وليس لديهم بناتٌ، وليس لديهم بنون!
وليس هنالكَ حزنٌ، وليس هنالك مَن يحزنون!!
أخيراً، قولوا: يرحم اللهُ الفارس النبيل (نزار قبّاني) عاشق الحريّة، وتاج المثقّفين!
وإنّي على يقين، أنه عندما تتعافَى الأمةُ مِن وباء الاستبداد، وأمراض الديكتاتورية، وتؤمن بالحرية؛ ستزحفُ الملايين نحو ضريحه، ويَستسقونَ الغمامَ لقبره، ويؤمنونَ بأنه نبيُّ الشعراء ... لكنَّ قومه كفروا به، وركنوا لعبادة الأصنام!!
وسوم: العدد 1076