إلى جنان الخلد أيها العالم الخلوق أ.د. محمد عبد المقصود داود

نشأ الأستاذ الدكتور / محمد عبد المقصود داود في أيامه الأولى نشأة إسلامية، ريفية حضارية، تلكم النشأة التي يسلم فيها الآباء أبناءهم إلى كتاتيب القرية ومدارس تحفيظ القرآن الكريم، ليفتتحوا حياتهم بالجلوس على مأدبة الله عز وجل، فيحفظوا القرآن الكريم، ليتولى القرآن الكريم بعد ذلك حفظهم وحماية جنانهم، وتقويم لسانهم، وإشاعة البركة في كل جوانبهم وأركان حياتهم، وهكذا كانت نشأة د. محمد عبد المقصود داود من هذا النوع، حيث نشأ ومعه القرآن الكريم فغرس القرآن فيه حب العلم، وحب العلماء، وأنبت القرآن الكريم فيه كثيرا من أخلاقه، وأزهرت هذه الأخلاق تواضعا جما، وصدقا عاليا، ووفاء نادرا، وأمانة راقية، وإخلاصا صافيا، وصبرا على نوائب الحياة جميلا.

في ضوء هذه النشأة نبغ د. محمد عبد المقصود داود بين أقرانه، وخاصة من أبناء زاوية غزال مركز دمنهور محافظة البحيرة، وشاء الله عز وجل أن يجمعنا به في مرحلة التعليم الجامعي، وفي كلية الشريعة والقانون بدمنهور عندما فتحت أبوابها لاستقبال أول دفعة بها في العام الدراسي 1982 / 1983. في عهد محافظ البحيرة وقتئذ الوزير لبيب زمزم، وفي ظل رئاسة الجامعة التي كان يتقلدها فضيلة الشيخ الأستاذ الدكتور السعدي فرهود رحمه الله تعالى، والذي كان يتعاهد فرع جامعة الأزهر بدمنهور بالزيارة بين الحين والآخر بصحبة محافظ البحيرة، باعتبار أن هذا الفرع لجامعة الأزهر فرعا وليدا ويحتاج إلى تفقد وعناية.

وجمعتنا على إثر ذلك المحاضرات العلمية على يد ثلة عظيمة مباركة من أكابر أساتذة جامعة الأزهر الشريف في ميدان الشريعة والقانون، من أمثال الأساتذة د. منصور أبو المعاطي محمد، الأستاذ د. سعيد مصيلحي ، والأستاذ د. رشاد حسن خليل، والأستاذ د. صبري معارك، ومن القانونيين الأستاذ د. عبد الرازق حسن فرج، والأستاذ د. عبد الخالق حسن ، رحمة الله عليهم جميعا، وغيرهم الكثير من سادة علماء الأزهر، كما جمعتنا الأنشطة الطلابية أيضا الثقافية والاجتماعية مع ثلة عظيمة أيضا مع الإداريين الذين شهدوا ولادة كلية الشريعة والقانون بدمنهور وترعرعها على يد أساتذتها وأبنائها .

في هذه الأجواء عرفت الزميل العزيز والشاب المهذب محمد عبد المقصود داود، وتبادلنا الزيارات، وشرفني بالزيارة هو وبعض الزملاء والمحبين، في قرية سنهور المدينة مركز دسوق محافظة كفر الشيخ، من جمهورية مصر العربية، وكنا نتريض معا في حقولها، وبين مزارعها وأشجارها، وعلى ضفاف مياهها، وقد زينه التواضع وجمله الحلم ورداء العلم، وكنا نراه دائما منشرح الصدر مطمئن الروح والقلب، ولم نجد يوما في ألفاظه سوءا ولا في عمله فحشا، ولا نزكيه على الله عز وجل، وكان يتبادل المراكز الأولى على دفعته كل عام مع ثلة من زملائه ومحبيه، الذين صاروا اليوم أساتذة في الكلية ذاتها وفي بعض الكليات الأخرى، أمثال أ.د. محمد النشار، والأستاذ د. شعبان سلامة، والأستاذ د. أشرف عبد الرازق وغيرهم ممن صاروا أساتذة يقصدهم الطلاب اليوم لحاجتهم، ويشيرون إليهم ببنانهم.

ونتيجة لحبه للعلم شاء الله عز وجل أن يتم غرس بذرته في حقل الفقه المقارن من كلية الشريعة والقانون بدمنهور، وتعهد الله تعالى هذه البذرة بالرعاية والعناية حتى صارت البذرة ورقة، والورقة صارت زهرة، والزهرة صارت ثمرة، وآتت أكلها بإذن ربها، وصار يترقى د. محمد عبد المقصود داود في حقله وميدانه حتى صار أستاذا للفقه المقارن بكليته، بل وذهب ينشر النور في بعض جوانب المعمورة، ويتقلد المناصب هناك، ومنها منصب عميد كلية الدراسات الإسلامية وعلوم الدين بالجامعة المصرية للثقافة الإسلامية ( نور – مبارك ) بكازاخستان.

ومن ثماره المباركة، فضلا عن مشاركاته في المؤتمرات والندوات، الدولية وغير الدولية، وعمله في اللجان العلمية وغير العلمية، أنه ترك مجموعة من المؤلفات العلمية القيمة التي أثرت المكتبة العربية والإسلامية، وستظل علامة مضيئة في حياة طلاب العلم ومحبيه، ومن أهم هذه المؤلفات:

1 - مدى مشروعية الاستشفاء بالدم البشري وأثر التصرف فيه في الفقه الإسلا مي والقانون المدني . الناشر: دار الجامعة الجديدة للنشر 38 ش سوتير- الأزاريطة – الإسكندرية

2 - الضوابط الشرعية والقانونية لاختلاف المؤجر والمستأجر . الناشر: دار الجامعة الجديدة للنشر 38 ش سوتٌر- الأزا ريطة – الإسكندرية .

3 - الأحكام الجلية في زكاة الأموال العصرية . الناشر: مجلة البحوث الفقهية والقانونية، مجلة علمية متخصصة محكمة تصدرها كلية الشريعة والقانون فرع دمنهور، العدد السابع عشر، الجزء الثاني 1422هـ/ 2002 م . ودار الجامعة الجديدة للنشر 38 ش سوتير- الأزا ريطة – الإسكندرية .

4 - الهادي إلى شروط وآداب القاضي (دراسة مقارنة ) . الناشر: مجلة البحوث الفقهية والقانونية، العدد الحادي والعشرون 1427 هـ / 2006 م . ودار الجامعة الجديدة للنشر 38 ش سوتير- الأزا ريطة – الإسكندرية .

5 - الإيضاح في شاهدي النكاح ( دراسة مقارنة ) . الناشر: مجلة البحوث الفقهية والقانونية بدمنهور، العدد الثاني والعشرون 1428 هـ / 2007 م .

6- الشهادة على الشهادة ودورها في إثبات الحقوق (دراسة مقارنة ) . الناشر: مجلة البحوث الفقهية والقانونية بدمنهور، العدد السادس والعشرون 1432 هـ / 2011 م . ودار الجامعة الجديدة للنشر 38 ش سوتير- الأزاريطة – الإسكندرية .

7 ـ 15 - التحالف مع غير المسلمين ( دراسة مقارنة ) . الناشر: مجلة البحوث الفقهية والقانونية لكلية الدراسات الإسلامية والعربية للبنات بدمنهور، العدد 1442 هـ / 2020 م.

8 - الأحكام الفقهية في المضافات الغذائية ( دراسة مقارنة ) . الناشر: مجلة البحوث الفقهية والقانونية بدمنهور، العدد الثاني والثلاثون 1439 هـ / 2017 م .

9 - موقف الشريعة الإسلامية من الحكم القضائي في العودة إلى الدين الثابت قبل الإسلام. الناشر: دار الجامعة الجديدة للنشر 38 ش سوتير- الأزاريطة – الإسكندرية .

10 - القوامة على المرأة بين الواقع الفقهي والمفاهيم المغلوطة (دراسة مقارنة ) . الناشر: مجلة البحوث الفقهية والقانونية بدمنهور، العدد الرابع والثلاثون 1441 هـ / 2019 م .

11 - فقه إدارة الأزمات والنوازل ( دراسة مقارنة ) . الناشر: مجلة البحوث الفقهية والقانونية لكلية الدراسات الإسلامية والعربية للبنات بدمنهور، العدد 1442 هـ / 2020 م.

ومع هذا العطاء العلمي الثر، كان يعطي من أخلاقه وخصاله، فمن تواضعه أنه كان ينادي بعض زملائه بلقب ( أستاذنا )، ومن وفائه أنه كان دائم الوصل بزملائه ومحبيه، ولم يحل في الوصل بيننا وبينه إلا الموت، ومن أمانته أنه كان شديد الحرص على أن يعطي كل ذي حق حقه من طلابه ومن زملائه ومعارفه، ومن صبره الجميل أنه كان دائم الرضا عن الله عز وجل شديد الصبر على بلائه، وعلى مرضه الذي ظل يعاني منه حتى لقي الله عز وجل طاهر النفس، نقي الصدر، سليم القلب، وكأنه كان يتجهز للقاء الله تعالى وهو موقن تماما بأن سلامة القلب هي جواز المرور بين يدي الله عز وجل، وصدق الله تعالى إذ يقول: ( إلا من أتى الله بقلب سليم).

وبعد عطائه العلمي والأخلاقي يظل يعطي حتى في موته، فلقد أكد لنا في رحيله، الحقيقة التي كثيرا ما نتغافل عنها، وهي أن الأيام والليالي يعملان في الإنسان بفتِّه ونحته، فهما كفيلان بإضعاف جسده بعد قوته، وبانحناء ظهره بعد استقامته، وباستدعاء المشيب بعد شبابه، واعتلال البدن بعد صحته، وبياض الشعر بعد سواده، وكأنه حين أراد أن يفارق هذه الحياة، قد أعلى صوته، وهو يخاطب كل واحد فينا على حدته، بل ويهزه هزا، رجاء أن يتعظ وأن يصحو وأن يفيق، وهو يقول:

   تفتُّ   فؤادك   الأيام   فتَّا         وتنحت جسمك الساعات نحتا

وتدعوك المنون دعاء صدق         ألا يا صاح أنت أريد أنتا

أراك تحب عرسا ذات غدر         أبت طلاقها الأكياس بتا

تنام الدهر ويحك في غطيط         بها حتى إذا مت انتبهتا

وبعد أن أمضى معنا في هذه الحياة شهر رمضان المبارك صياما وقياما، أبي الله عز وجل إلا أن يأخذ أمانته وأن يقبض روحه الطاهرة يوم الأحد الموافق6 أبريل 2025 الموافق 8 من شوال 1446 هـ ليكون عيده الأكبر والأسعد بعد أن استراح من عناء هذه الحياة، في جنان الخلد، وفي الفردوس الأعلى، مع النبيين والصديقين، والشهداء والصالحين، والعلماء العاملين وحسن أولئك رفيقا.

أعزي نفسي وأعزي أبناءه وأسرته، وأعزي زملاءه وأساتذته وكليات الشريعة والقانون، بل وجامعة الأزهر، وكل طلاب العلم، وأسأل الله له الرحمة والمغفرة وأن ينزل على قبره الرضى والرضوان والرحمة والغفران، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا ( إنا لله وإنا إليه راجعون ) .