النورسي في عيون الشهود
(تعريف بكتاب "الشهود الأواخر"
للأستاذ نجم الدين شاهينر)
د. عبد الحكيم الأنيس
(ألقيت هذه المحاضرة في المؤتمر الرابع للأكاديميين الشباب في اسطنبول صيف 2012م)
شرعَ لنا الإسلام إذا وُلد لنا ولدٌ أنْ نحتفل فنذبح عقيقة، ونجمع الناس ابتهاجاً بتجدُّد نعمة, وظهور خلقٍ مِن خلق الله جديد.
ونحن المسلمين ننظرُ إلى الأولاد على أنهم نوعان: نوع صلبي ونوع قلبي أو فكري. والأول ابن الدم, والثاني ابن العلم, وهو الكتاب, وكما تتفاوتُ أعمارُ الأولاد, تتفاوت أعمارُ الكتب, وقد يحظى بعضُ الكتب بالخلود الذي سعى إليه الإنسانُ ولم يدركه, ومِن هنا كان الإمام ابنُ الجوزي يُطلق على مؤلَّف العالِم بأنه ولده المخلّد, وعبّرَ الشاعرُ البستي عن نسل الإنسان المادي والمعنوي بقوله:
يقولون ذكرُ المرء يحيا بنسله وليس له ذكرٌ إذا لم يكن نسلُ
فقلت لهم نسلي بدائعُ حكمتـي فإنْ لم يكن نسلٌ فإنّا به نـسلـو
وفي لفتة جميلة وتقديرٍ عال للبنت وجدنا العربَ يقولون: بنات الأفكار، ولا يقولون: أبناء الأفكار.
وفي لفتة جميلة وتقديرٍ عال للكتاب وجدنا المسلمين يحتفلون بولادة كتابٍ احتفالاً أبهى من الاحتفال بالولد.
ورصد التاريخُ في هذا المجال صوراً رائعة يحق لنا أنْ نباهي بها.
فهذا أبو مسلم الكجي حين فرغ من كتابه (السُّنن) عمل مأدبة أنفق عليها ألف دينار.
وهذا إسماعيل الأصبهاني حين فرغ من كتابه (شرح مسلم) عمل مأدبة وحلاوة كثيرة.
وحين فرغ الفيروزأبادي من كتابه (الإسعاد بالإصعاد إلى درجة الاجتهاد) حُمل إلى باب السلطان في زبيد مرفوعاً بالطبول والمغاني, وحضر سائرُ الفقهاء والقضاة والطلبة, وساروا أمام الكتاب إلى باب السلطان, وهو ثلاثة مجلدات, تحمله ثلاثةُ رجال على رؤوسهم, فلما دخل على السلطان وتصفَّحه أجاز مصنِّفَه بثلاثة آلاف دينار.
ومن الاحتفالات الكبرى الحفلُ الذي أقامه ابنُ حجر العسقلاني حين فرغَ مِن (فتح الباري)، وحديثه يطول.
ولا ينبغي ونحن في اصطنبول أنْ نتغافل عن (تفسير) أبي السعود الذي حُمل - حتى قبل أن يكمل- إلى السلطان سليمان خان فاستقبله إلى الباب, وزاد في وظيفة أبي السعود وتشريفاته أضعافاً.
واليومَ يجبُ أن نقتدي بالسلطان سليمان- ونحن في جواره- ونحتفلَ بكتاب جديرٍ بالاحتفاء, حقيق بالاحتفال, لأهمية موضوعه, وطرافة فكرته, وغزارة معلوماته, ذلك هو كتاب (الشهود الأواخر) الذي يضم شهادات ومشاهدات عن بديع الزمان سعيد النورسي من قِبل أهل عصره.
هذا الكتابُ ألّفه الأستاذ نجم الدين شاهينر الذي ينبغي أنْ يُحتفل العامَ القادم ببلوغه السبعين.
وُلد في غازي عنتاب, وتخرَّج في كلية الآداب بجامعة اسطنبول سنة 1972م.
وهو باحثٌ حاذقٌ دؤوبٌ, له خزينة من الأرشيف حول حياة النورسي, وصدر له حتى الآن ما يقرب من 60 كتاباً بالتركية, وأغلبُها متعلق بالأستاذ, وكتابه المشهور "جوانب مجهولة في حياة النورسي" طُبع 60 طبعة.
ويشيرُ تاريخُ مقدمة كتابه (الشهود الأواخر) إلى أنه أنجزه وهو في الخمسين من عمره.
أخلصُ بعد هذا إلى القول بأننا نحتفل اليوم بصدور طبعته العربية هذا العام, وهذا التعريبُ قام به المهندس المعماري الأستاذ مأمون رشيد عاكف الذي يبلغ الآن عامَه الخامس والسبعين, وقد وُلد في مدينة كركوك في العراق, وتخرَّج في كلية الهندسة بجامعة اسطنبول سنة 1960م, وتسلَّم وظائف رفيعة في وزارة الإعلام والسياحة في العراق.
وقد قدَّمَ بهذا التعريب خدمة جليلة, وأهدى إلينا تحفة أصيلة, فله من الله الأجر والمثوبة, وله منا الشكر والثناء.
أُلف الكتابُ وتُرجِمَ في تركيا, وطبعته مصر, وصدر بتقديم قيّم للأستاذ إحسان قاسم الصالحي متعه الله بالعافية, وأطال عمره في سرور, وحقق آماله في خدمة العلم والدين والنهوض بالمسلمين.
إذن هذا الكتاب فيه شهادات ومشاهدات عن بديع الزمان سعيد النورسي, جُمعت بجهدٍ جهيدٍ, وتتبعٍ طويلٍ, وسفرٍ بعيدٍ من "358" شخصاً، بغير واسطة إلا في النادر.
وجاء في أربعة مجلدات، تحتوي على (1600) صفحة.
وفيه نُقولٌ عن رجال - وهم الأكثر- وعن نساء, وكبار وصغار, وطلاب محبين, ومعاصرين, رأوا وسمعوا, وشاركوا أو تابعوا فقط , وكلُّ هؤلاء من الأتراك, وفيهم أكراد, ومنهم عربٌ -على قلة-.
وتمتدُّ الرقعة المكانية لتشمل أطرافَ تركيا, وأجزاء من العالم الإسلامي، والغربي.
والكتابُ صورةٌ مِن صور الجزاء الرباني لإخلاص مخلصٍ صادقٍ.
كيف ذلك؟
أقولُ لكم: حين قرأتُ الكتاب قلتُ في نفسي: سبحان الله, يسعى الملوكُ والحكَّامُ في الدنيا إلى بقاء ذكرهم، وشغل الناس بهم, وقد يشترون الألسنة والأقلامَ لتسطر مآثرَ مصنوعة, وتشقِّقَ أحاديثَ موضوعة, ولا يرحلون قبل أنْ يُشيدوا مقابرَ شاهقة تليق بهم - زعموا-، ولكنهم إذا ماتوا فسُرعان ما تُطوى هذه الكتب، وتُرمى، ويتجاوزها الزمانُ، ويتجاوز مَنْ استكتبها ومَنْ لفَّقها, وتُهجر هذه المقابر إلا مِنْ زائرٍ تستوقفُه العمارة لا غير.
وهذا الرجلُ (بديع الزمان) سما على هذا كله, ورفض أنْ يُشتغل بشخصه, وطلبَ أنْ يُخفى قبره, فأخلص صادقاً, وصدق مخلصاً, فهيأ اللهُ له مَنْ ينشر فكرَه, ويحيي ذكرَه, ويعوض قبرَه, وقام نجمُ الدين - من بين رجال آخرين كثيرين- يبحث ويحقِّق, ويكتب ويدقِّق, ويسافر ساعياً إلى كل مَنْ رأى الأستاذ فيستمليه، ويسأله، ويحاوره، ويناظره, حتى تم له هذا العمل - وليس هو الوحيد-, وإذا افترضنا أنه صرَفَ لكل شاهد يوماً على الأقل فهذا يعني أنه استغرق عاماً كاملاً, فكيف وقد تكون شهادة واحدة تزيد على (100) صفحة كما هي شهادة تلميذه بايرام يوكسل, أو تكون في (67) صفحة, كما هي شهادة الأستاذ مصطفى صونغور, أو تكون في (35) صفحة, كما هي شهادة الأستاذ محمد فرنجي؟
ووُفِّق توفيقاً كبيراً إذ رتَّبَ الشهادات على حسب تسلسلها الزماني والمكاني ابتداء من وان، إلى اسطنبول، إلى بُوردور، إلى بارلا، إلى إسبارطة، إلى اسكي شهر، إلى قسطموني، إلى دنزلي، إلى آفيون، إلى أمير داغ، إلى إسبارطة مرة أخرى، إلى اسطنبول ثانية، إلى أنقرة، إلى أورفا، حيث آخر شاهدٍ رأى الأستاذ يوم رحيله إلى ربه.
يضمُّ هذا الكتابُ من أسرار حياة الأستاذ الشيء الكثير, وهو يجعلك تعيشُ معه, وتقتربُ منه حتى لتكاد تسمعُ خطرات نفسه, وخفقان قلبه, وترى في صفحاته وعودَ الأستاذ ووعيدَه, وتقفُ على رسائل النور ومجموعاتها ومجامِعها، وتعرف كيف أُلفت وأين, وعلاقة مؤلفها بها، وبمَنْ قرأها، ونسخها، وطبعها، ووزَّعها, وتقرأ حديثه عن شخصياتٍ من أهل عصره: مِنْ علماء، وساسة، وعسكريين, وكيف أقامَ الأستاذُ شبكة علاقات دولية, وكيف كان يقودُ معركة الحرب والسلام, وترى صلتَه العميقة بالله, وصلاته بطلابه ومَنْ حوله, وتعرف كراماتِه ومقاماتِه, ومناقبَه ومراتبَه, وتفهم فهماً ينطبعُ في ذاكرتك.
وسوف تعلمون أنَّ مؤتمراتكم الأكاديمية هذه نابعة منه, يقول الأستاذ بايرام يوكسل: "كان اهتمامُه بطلبة الجامعات والدراسات العليا كبيراً, يشجعهم على دراسة رسائل النور"[1]
وسترون مِن حديثه عن تركيا ما يبعثُ التفاؤلَ إذ يقول: "ستتولى تركيا قيادة وزعامة العالم الإسلامي, وسترون ذلك إن شاء الله"[2]
أيها الدارسون:
بحقٍّ أقولُ لكم: حين طلبتُ الكتاب من القاهرة ووَصَلَ إليَّ أدركتُ أني حصلتُ على كنز من المعلومات, وقد انصرفتُ إليه في إقامتي، وفي سفري، فكان رفيقاً لي إلى الهند, وكنت مرافقاً له إلى تركيا, وجدَّدَ لي ذكرى ساعات جميلة قضيتُها مع كتابٍ أُخذ منه هو "ذكريات عن سعيد النورسي" انتقاه وعرّبه الأخُ أُسيد نجل الأستاذ إحسان, كان ذلك في العراق قبل أكثر من عشرين سنة.
وأجدُني الآن - بعد قراءة الكتاب كاملاً- أكثرَ فهماً ووعياً للأستاذ وتراثه.
وبحقٍّ أقولُ لكم مرة أخرى: يجبُ عليكم وجوباً بحثياً جازماً أنْ تقرؤوا هذا الكتاب لا لتستفيدوا علماً فحسب، بل لتتعلموا التفاؤل الكبير الذي اتصف به الأستاذُ النورسي، هذا التفاؤل الذي يجعلكم تردِّدون مع الشاعر التركي قوله:
أجملُ الـبحـار هي الـتي لـم تـبحـر بها بعد.
وأجملُ الأطفــال لم يترعرع بعد.
وأجملُ أيــامنا هي تلك الـتي لـم نعشـها بعد.
وأجملُ ما يمكن أن أقوله لك هو ما لم أقله لك بعد.
[1] - الشهود الأواخر (3/45).
[2]- الشهود الآواخر (4/302).