مع الحاج أمين الحسيني عبرة وذكرى

مع كثرة ما كتب عن اليهود والصهيونية في العالم العربي، يمكن للمرء أن يقرر أن هذا العدو لا يزال مجهولاً لدى الكثيرين، نظراً لأن معظم ما كتب عنه كان كلاماً عاطفياً حماسياً يتبدد بسهولة بعد حين من الزمن، ومن هنا تبدو الحاجة ماسة إلى دراسات علمية موضوعية جادة مستقصية تكشف حقيقته ومخاطره ومطامعه.

على أنك لا تخطئ أن تجد بعض العارفين معرفة دقيقة بهذا العدو، بحيث تصلح كتاباتهم وأقوالهم وآراؤهم أن تكون وثائق وشهادات ومراجع يمكن الاعتماد عليها، وينبغي إشاعتها ومن هؤلاء عبد الله التل والحاج أمين الحسيني في الجيل الماضي والدكتور عبد الوهاب المسيري هذه الأيام.

والحاج أمين الحسيني شخصية غير عادية، فقد عاشت طويلاً، وشرّقت وغرّبت، وجعلت همها الأول التعريف بخطر اليهود والصهاينة، والدفاع عن فلسطين بكل ما تقدر عليه، حتى صار مع الزمن رمزاً للقضية الفلسطينية، وأباً للمجاهدين من أبنائها، نال ذلك بجدارة تامة، هي حصيلة مواقفه، وشجاعته، ومغامراته، ودأبه، ووعيه المتقدم، وسمته الديني، وإصراره على أن قضية فلسطين قضية إسلامية قبل كل شيء، وهو ما جعل له ولها حضوراً واسعاً في العالم كله، وبخاصة  بين العرب والمسلمين.

يقول المرحوم أمين الحسيني: لقد بلونا هذا العدو وخبرناه، وأدركنا مدى تصميمه على استئصال شأفتنا وإبادتنا، كما أدركنا مدى خطره على العرب والمسلمين جميعاً، ومن هنا جاء اعتقادنا أن لا حل لقضية فلسطين ولا درء لهذا الخطر الداهم إلا الجهاد، الجهاد الصادق، الطويل النفس، المنبثق عن العزم والتصميم وإرادة القتال، ونعتقد أن الأمة الإسلامية لن يكون لها مبرر أمام الله والتاريخ والأجيال القادمة إذا هي تقاعست أو فرطت لأنها تملك جميع أسباب القوة والمنعة وهي بالتالي قادرة على تحقيق النصر بإذن الله.

ويمضي المرحوم أمين الحسيني، مفتي فلسطين ورمزها، أيام قيادته لحركة الجهاد ضد الصهاينة، يحشد الأدلة على صحة رأيه، فيقرر أن الأمة العربية تجاوز عددها 100 مليون، وأن زيادتها السنوية أكثر من ثلاثة ملايين، وأن الأمة المسلمة تجاوز عددها 700 مليون، وأن زيادتها السنوية أكثر من عشرين مليوناً، وهو ما يجعل قدرة العرب والمسلمين على القتال والتعويض والتجدد كبيرة جداً خلافاً للصهاينة المعتدين، وهو يذكر بطبيعة الحال الأرقام التي كانت في أيامه، أما الآن فهي أكبر بكثير، وهو ما يؤكد صدق نظرته، وصحة استشرافه للمستقبل.

ثم يمضي الزعيم الفلسطيني ــــــــ في سياق حشد أدلته لإثبات وجهة نظره ــــــــ فيتحدث عن إمكانيات الأمة فيقول: ومن حيث الإمكانيات فقد حبا الله تعالى أمتنا بموارد عظيمة وثروات هائلة، وجعلها من أغنى الأمم، وأعطاها بسطة في الرزق والأرض والموقع. وقد أثبتت حرب رمضان المبارك على قصرها صحة ما نقول، وأنزلت بالعدو من الهلع والجزع ما كشف لنا عن نقاط ضعفه الكبيرة، كما أثبتت الحرب أن لا جامع لهذه الأمة كالجهاد، ولا موحد لكلمتها كالقتال.

ثم يؤكد بإلحاح على وجوب الحذر من الصهاينة المعتدين، فهم أهل مكر وغدر وخديعة فيقول: وإني أحذر من مكر اليهود وخداعهم، فليس في نيتهم سلام حقيقي، وحين يتظاهرون بالسلام، إنما يريدون كسب الوقت للتأهب لعدوان جديد.

ويعود إلى التحذير منهم مجدداً فيقول: أحذر العرب والمسلمين من أن القبول بقرار مجلس الأمن 242 إنما هو ضياع لفلسطين وتفريط بالأمانة الغالية، لأن هذا القرار ينص على الاعتراف الكامل بدولة العدو، ويضفي عليها الشرعية، ويتنازل لها عن أكثر من أربعة أخماس فلسطين، ويعرض المسجد الأقصى للضياع، والبلاد العربية والإسلامية لأشد الأخطار، كما أحذر من أطماع اليهود في البحر الأحمر وهي شديدة الخطورة.

في أواخر عمره، جاء الحاج أمين الحسيني إلى الرياض زائراً، وهرع إلى الفندق الذي يقيم فيه عدد من أبناء فلسطين الذين آلت إليهم قيادة الجهاد الفلسطيني، وطال الحديث وتشعب، واسترسل الضيف الكريم فيه، وحاول أن يضع في هذه الجلسة خلاصة خبرته، وعصارة تجربته، وكأنه يشعر أنها الوصية التي يقولها مَنْ يودع الحياة ليعيها مَنْ بعده. وقد حدثني بما كان في هذه الزيارة أحد شهودها، وروى لي أنها كانت جلسة ملأى بالعبر والمعلومات والإخلاص، وقد أثر الضيف الكريم في الحضور، حتى استولى عليهم، ثم بكى من فرط التأثر والإشفاق.

وقد ركز ــــــــ أكثر ما ركز ــــــــ على أن اليهود أهل غدر، ولا يحفظون عهداً مع أحد، ولا يحفظون جميلاً حتى لمن عطف عليهم وأعانهم، وحذر من الصلح معهم، وأكد أن المستقبل في صراعنا معهم هو لنا بإذن الله، على أن نستمر في الصبر والمصابرة، واستفراغ الوسع وبذل الجهود.

رحمك الله أيها المجاهد المؤمن الحاج أمين الحسيني.

ترى هل ننتفع من كلماتك الثمينة، أم أنها ستمضي هباء خلال عَدْوِنا اللاهث خلف مكرة سامريين، وحواة ثعالب، وقردة حاقدين، ومقلّدين مضبوعين، ومستسلمين متخاذلين يريدون أن يقودوا أمتنا معصوبة العين نحو الهلاك ويقنعوها أن الذئب يمكن أن يخرج عن طبيعته الغادرة، وأن الأفعى يمكن لها أن تخرج من طبيعتها السامة.

وبعد:

فإن المشروع الصهيوني في فلسطين إلى زوال، لقد بلغ ذروته عام 1967م، حين انتزع نصراً مجانياً لم يكن يحلم به، بسبب قيادات سيئة كان في يدها القرار العربي يومذاك، ثم بدأ بالتجمد والتآكل ولعل الجيل التالي من أبناء الأمة يشهد نهايته.

وأهم الأسباب التي تدعو إلى الإيمان بزوال هذا المشروع، أن الدولة العبرية مخالفة لسنن الله عز وجل في قيام الدول وسقوطها جملة وتفصيلاً، وأن الضعف العربي لن يدوم، وأن دعم أمريكا له لابد أن يتوقف ذات يوم، ثم إن إمكانات العرب والمسلمين، عقيدة، وتكاثراً، وثروة، وموقعاً، وتعويضاً إمكانات هائلة خلافاً لإمكانات هذه الدولة المصنوعة الممسوخة، وأخيراً ــــــــ وليس آخراً ـــــــ أن الشعب الفلسطيني امتلك زمام المبادرة، وعاد إلى هويته الحقيقية، وصدع بها، وتحمل أعباءها، وجعل مضمونها وشعارها >لا إله إلا الله محمد رسول الله<.  

وسوم: العدد 731