هذا أبو الحسن الندوي .. ناهيك من "محب"
هذا أبو الحسن الندوي .. ناهيك من "محب"
د. حسن الوراكلي
عرفت (الندويين)، أول ما عرفتهم، من خلال ما أنفقوا سراً وجهراً من حب أخضر ريان في روضات الكلم الطيب من بيان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرجون به تجارة لن تبور.
وكذلك مازلت بآثارهم حفياً، ولودهم صفياً، ولرفقتهم وفياً.
وما تعرفت على أحد منهم إلا وخيل إلي أنه قد بذ سمييه فيما تعبق به أعطافه من حب ووفاء للرحمة المهداة والنعمة المزجاة رسول المحبة الأعظم عليه من ربه أفضل صلاة وأتم تسليم؟
فلما تعرفت على الشيخ أبي الحسن، نجم ناديهم الأزهر، كبرت. لقد وجدتني بإزاء رجل رزقه الله من محبة مصطفاه ومجتباه، ومن التعلق بإرث النبوة رزقاً حسناً، فهو ينفق منه باليمين والشمال، سراً وعلانية، بالليل والنهار، وزاده منه باق لا ينفد!
لقد وجدتني بإزاء رجل ملك عليه حبه لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولإرث نبوته سمعه وبصره وفؤاده، فعاش حياته يتنفس بهذا الحب، ويبصر به ويسعى. عاش يرعاه ويتعهده، ويستحث عليه، ويندب إليه مبصراً بآثاره البعيدة في الإحياء والانبعاث.
جلست إلى شيخ المحبين الندويين أبي الحسن غير مرة، في نديه الذي كالشجرة الباسقة الفينانة أصلها ثابت وفرعها في السماء.
حدثني وأفاض بأحاديث أسرت لبي وأخذت بعقلي كالبحر في عمقه.. كالغيم في صفوه.. من مشكاة السبع المثاني كان يقبس.. من مصباح الجوامع النبوية كان يستمد.. كانت أحاديثه إلي تطيب بالحب الذي يضفرها من ألقه الأخضر وبهائه الشذي كالشجر إذ يتنزل عليه ماء مبارك من السماء فيطيب، ويطيب ما حوله.
لقد أحب الشيخ أبو الحسن وهو في العاشرة، تنقص قليلاً أو تزيد قليلاً، رحمة العالمين محمداً المصطفى صلوات الله عليه وسلامه، وشغف حباً بإرثه المعجز الذي بلغ عن ربه..
الهدى الذي ما كان، صلى الله عليه وسلم، ينطق به عن الهوى، وملأ عليه هذا الحب السمع والبصر والفؤاد، ومنحه هذا الحب استعلاء إيمان، وسداد نظر، واستواء سلوك.
ثم نظر من حوله.. راعه أن يرى كثيراً من أصحاب إرث النبوة، معجز رب العالمين، وهدي رسوله الأمين، يعرضون عنه ويتخذونه وراءهم ظهرياً، ويتولون الذين كفروا، ولبئس ما فعلوا، ويتبعونهم شبراً بشبر، وذراعاً بذراع في مناهج التفكير وطرائق السلوك.. راعه أن يرى أشد طبقات المجتمع إفلاساً في هذا الحب الطبقة العصرية المتعلمة، فكانت لذلك (أجوفها روحاً، وأضعفها مقاومة، وأخفها وزناً، وأكدرها حياة، وأضلها عملاً).
فكر الشيخ وقدر.. وسرعان ما استيقن أن هؤلاء (الورثة) لا يمكنهم أن يدركوا، مثلما أدرك، قيمة هذا الإرث العظيم إلا إذا أحبوه مثلما أحبه.
وعاد الشيخ مرة أخرى ففكر وقدر.. وسرعان ما استيقن أن على عاتقه أمانة تجاه أبناء أمته.. تأديتها على أتم وجه وأكمله أن يذكرهم بإرث النبوة الذي فرطوا فيه، ويستنهض هممهم للعودة إليه، وصياغة حياتهم وفقه، ومن قبل هذا.. كان أيقن أن مثل حبه لهذا الإرث مثل شرارة في الرماد كامنة (في قلب كل مسلم) فما عليه إلا أن يثير ما كمن من جذوات الحب لإرث النبوة في قلوب أبناء الأمة الإسلامية، فلا صلاح لهم إلا بإرث النبوة الخاتمة الذي صلح به أولهم.
تجرد للأمر، يعمل له وسع الطاقة إذا أصبح، ويعمل له يوم إقامته ويوم ظعنه، ويعمل له بأفانين من القول: خطبة، ومحاضرة، ومقالة، ورسالة، ودرساً، وكتاباً، وبحثاً، وهو في كل ذلك لا يكل ولا يمل. من إرث النبوة الذي أحب يتزود بخير زاد: الإيمان بدعوته، والصبر على ما يلقى في سبيل تبليغها من نصب وعنت.
ومازال أبو الحسن يغرد بهذا الحب، كما الشحرور!
ومازال أبو الحسن يحلق بهذا الحب، كما العقاب! حتى استضاءت قلوب في الصدور، وأبصرت عن عمى! وحتى استنارت نفوس بين الجوانح، ورشدت عن غي!
وما ظنك بأثر أحاديث وعت من كتاب الله تعالى ومن سنة رسوله صلى الله عليه وسلم الحكمة المخلدة، والفكرة المسددة، والدعوة المجددة..؟
* * *
في دار فخر الندويين المجاورين الأخ الكريم العالم الفاضل الدكتور عباس الندوي بالبلد الأمين مكة المكرمة التقيت بالشيخ أبي الحسن لأول مرة، ولآخر مرة، في هذه الدنيا!
حين تصافحنا وتعانقنا وجدت ريح الحب.. حب الإرث النبوي الذي عاش الشيخ عمره يدعو إليه ويستحث عليه، وأحسست بأندائه تهمي علي عطرات الأنفاس!
وحين جلست إليه أتفرس فيه وأنصت إليه رأيت ذلك الحب يختلج في إشراقة طلعته، ووضاءة بسمته، وعذوبة فصاحته، وقوة عارضته، وكأنما قرأ أخي الشاعر المبدع الدكتور صابر عبد الدايم أستاذ الأدب والدراسات القرآنية البيانية بجامعة أم القرى ما جال بخاطري فقال:
عزمك الشيخ في رواء الشباب لم تزل مشرقاً وضيء الإهاب
في رؤاك الوجود ينبض شوقاً كيــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــان موحـــــــــــــــــــــــــــــــــد غلاب
وبعد سويعات مفعمة بأريج الحب الصافي كالسلسبيل حانت لحظة الوداع فقمت أسلم على الشيخ وأهديته رسالتي (الإسلام والغرب: محاور التحدي وشروط المواجهة) ذكرى لقاء في منزل الوحي وتحية، فأبى عليه كرمه إلا أن يرد بأحسن منها فدعاني إلى رفقته في الطريق إلى يثرب الزهراء حيث روضة الشفيع الذي أحبه الشيخ أبو الحسن وأنفق سنوات العمر يدعو أبناء أمته إلى حبه بالعمل بإرثه.
قبل لحظة الوداع والتحية كان الشيخ ملء عيني! ولما مد يده يهديني كتابه (الطريق إلى المدينة المنورة) أصبح ملء عيني وقلبي!!