الدكتور محمد محمود الهواري كما عرفته
رجل فقدناه..
الدكتور محمد محمود الهواري
(رحمه الله) كما عرفته
عمر عبيد حسنة
يقول الله -تعالى-: "مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً " (الأحزاب:23)، الحمد لله على كل حال، فلله ما أخذ وله ما أعطى، وكل شيء عنده بأجل، ولا نقول إلا ما يرضي الله، فإنا لله وإنا إليه راجعون، رحمك الله يا أخي أبا محمود، وأعلى مقامك، وتقبلك في الصالحين، وأنا حين أكتب عنك بقلم كسيرٍوقلبٍ جريح باكٍ لعظم الفقد، أكتب القليل القليل مما حفظته الذاكرة من المعاني الصادقة، التي كنتَ تتحلى بها في كل الظروف، وعندي فيها الكثير،الذي لا يتسع له المقام. وأقدم شهادة في ذكر بعض خصائصك وصفاتك،ألقى الله عليها، تلك الخصائص والصفات، التي تميزت بها عن جميع إخوانك وأقرانك وزملائك؛ لا أقصد المديح والثناء وتعميق الجراح وتعظيم المصاب، وهو عظيم بلا شك، ولا النيل من الآخرين، وإنما بدافع الحرص على تجديد الذاكرة تجاهها، لعلها تكون تذكرة، وتعيها أذن واعية، ولعلي بذلك أساهم بتوسيع دوائر الخير في حياتنا وعلاقاتنا وامتدادها، فيحدث التغيير في نفوسنا وواقعنا، وعلى الأخص في هذه السنوات العجاف والفتن الكثيرة والكبيرة، التي تمر بنا، حيث تشتد قسوة الأيام في غياب الرواد الحكماء والخلف العدول، ويتعاظم اليوم تحريف الكلم، والعبث بالأحكام الشرعية، والتشويه للقيم الإسلامية، وإيقاظ الفتن من مرقدها، لقد غاب الرعاة الأمناء، وهجم الذئاب، وتجمعت قوى الشر، بعضهم أولياء بعض، فتحولت الأمة إلى أشلاء ممزقة، وأصبحنا نكسر أسلحتنا بأيدينا، أو بأوامر من عدونا، أو بصناعة إسلامية مزيفة، أو باختراق لمؤسساتنا ومجتمعاتنا وشبابنا الغض، لقد نذرتَ نفسك للإسلام منذ وعيت الحياة، وكنت صادقاً مع نفسك وأهلك ومع الناس، لم تتبدل، ولم تتغير، على الرغم من تغير الظروف والأحوال، بين العسر واليسر، والشدة والرخاء، والاعتقال والحرية، والاغتراب عن الوطن، والاغتراب في الوطن، ولم نعرف عليك ولا عنك مخادعة أو مخاتلة أو التواء أو باطنية أو إخفاء لما تريد، أو تبرماً أو تسخطاً لما يلحق بك، لقد كانت شخصيتك واضحة، ومواقفك مقروءة بشكل مميز من بيننا جميعاً، بعيداً عن المكر والخداع والتلبيس والتدليس والغموض، وكل وسائل وألاعيب السياسيين، التي أصابت كثيراً، فما أحوجنا اليوم لنماذج صادقة مع ربها ونفسها وأهلها وأمتها، لقد عرفتُك جاراً في الحي لأكثر من عقد من الزمان، فكنت نِعْم الجار والصاحب والأخ والصديق الصادق المعوان؛ ولم تكن آداب الجوار وحقوق الجار في الإسلام بالنسبة لك شعارات مرفوعة فوق المنابر يُتاجر بها، ولا نصيب لها من حياة وعلاقات الجيران، وإنما كانت حقيقة وجود ومحل اقتداء، وعرفتُك صاحباً في الأسفار، بكل ما يحتمل السفر من وعثاء ومشقة واختبار لحقيقة الإنسان، فالسفر يُسفر عن حقيقة الصفات، وكريم الأخلاق، ومدى الغيرية، ونكرات الذات، لقد كنت عظيم الاهتمام بإخوانك، خادماً لهم، منكراً لذاتك، على الرغم من فضلك وعلمك وسنك، لقد عشت متواضعاً، بعيداً كل البعد عن الأنانية وتفخيم الذات وتعظيم الإنجازات والشكوى من المظلومية التي تقع عليك، وكم كنت الفارس المقدام في المواقف الصعبة، الذي يتقدم ليتحمل العبء، ويفدي إخوانه بنفسه، وعرفتك شريكاً في أيام الأزمات والشدائد والكبوات والفتن، التي تحيط بنا، فلم تيأس، ولم تضطرب، ولم تغادر الابتسامة والرضا-الذي عُرِفت به دائماً- محياك، ولعل قولة الرسول -صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّ مِنَ الْمَعْرُوفِ أَنْ تَلْقَى أَخَاكَ بِوَجْهٍ طَلْقٍ»(أخرجه الترمذي)، كانت محور حياتك، فأنت المبتسم دائماً في وجه إخوانك ووجه خصومكن فلقد كنت دائم التفاؤل والاطمئنان والوثوق بموعود الله -سبحانه وتعالى- هذا التفاؤل العظيم الذي طبع شخصيتك، جعل منها طاقة إيجابية متجددة، ذات فاعلية كبيرة، حيث لم تعرف الطاقة السلبية والتشاؤم إلى نفسك سبيلاً، كنت دائم الحيوية والحركة والنشاط، حتى بعد أن أضناك المرض، الذي امتد لسنوات، لم تستسلم أو تتوقف أوتستكن لحظة واحدة، كنت تأخذ أدواتك وأدويتك حيثما ذهبت، وتقوم بتمريض نفسك، تحمل أدوات غسيل الكلى، وأدويته، حيثما ذهبت، ولم يمنعك ذلك من متابعة النشاط العلمي والعملي!.
وإذا كانَتِ النّفُوسُ كِباراً تَعِبَتْ في مُرادِهاالأجْسامُ
لم تدخر طاقة، مهما قل شأنها، رائدك العملي قول الرسول -صلى الله عليه وسلم-: «إِنْ قَامَتْ السَّاعَةُ وَبِيَدِ أَحَدِكُمْ فَسِيلَةٌ، فَإِنْ اسْتَطَاعَ أَلَا تقُومَ حَتَّى يَغْرِسَهَا، فَلْيَفْعَلْ»(أخرجه أحمد)، فلم يتوقف غراسك حتى توقفت أنفاسك، كنتَ من بين القليل القليل، الذي أتقن اختصاصه، وكنت أنموذجاً يحتذى للتدريس في كلية الصيدلة، في جامعة دمشق، وكنت المدرس المعلم المربي، والأب الكبير، والقلب الرحيم للناس في المخابر، الجامعية الرسمية والخاصة بك على حدٍ سواء، تواسي الفقراء، وتقدم لهم الخدمات بدون مقابل، حتى ولو كنت بحاجة، لقد تابعت التمكن والتعمق في اختصاصك، واستطعت دون الكثير من التائهين أن تجعل اختصاصك العلمي في خدمة دينك، ولم ترض- شأن الكثير ممن تخصصوا في العلوم التجريبية- أن تغادر اختصاصك، الذي أفنيت فيه زهرة عمرك، وتتحول إلى احتراف الزعامة، وصناعة الوجاهة، بعد أن أصبحت الزعامة وركوب المنابر اليوم حرفة، على الرغم من كسبك الشرعي، الذي قد يفوق بعض المتخصصين به، لقد تابعت رحلة البحث العلمي، فكنت الرائد في تأسيس وتأصيل معايير الطعام والشراب الحلال الطيب،فكان عطاؤك في ذلك نقطة انطلاق في عالم غير المسلمين؛ وما زلت تتابع البحث في ذلك حتى اللحظات الأخيرة من حياتك؛ في الوقت الذي نجد فيه الكثير ممن تاهت به السبل، تركوا اختصاصهم في الطب والهندسة والعلوم ثغراً مفتوحاً في الجسم الإسلامي، باسم الحرص على مصلحة الدعوة، وباشروا أعمالاً لا تمت إلى اختصاصهم بصله، فكانت حياتهم عنواناً للفوضى، التي يعيشها العقل المسلم والعشوائية والخبال، الذي انتهينا إليه، ابتُعثت إلى أوروبا (بلجيكا) لتتابع اختصاصك العلمي، وتابعته بشكل ملفت، رغم الظروف الصعبة، فلقد كنت أول من زرع بذور الإسلام الرحيم الإنساني الحضاري في عالم غير المسلمين، حيث بدأت تنمو بذوره وتمتد وتتوسع وتلاقي فطرة الإنسان حيثما كان، لقد امتد عطاؤك فشكل المظلة الواقية والمناعة الثقافية، التي حمت الكثير من الطلبة المبتعثين والجاليات المسلمة من الفتن والسقوط والانكسار الحضاري، ولقد حدثني بعض من أثق بدينه وروايته ممن طافوا في أوروبا كلها تقريباً، بأنه لم يسمع من أحد إلا الثناء على الدكتور الهواري- رحمه الله-،
وهذه حقيقة كنا نلمسها طيلة حياتك، فلم تذكر أحداً بسوء، على الرغم من المكر والكيد والمخادعة، التي تحيط بالناس اليوم، وعلى الرغم من أن كثيراً ممن يدعون العلم والدين والذكاء لم يعرفوا في حياتهم إلا شتيمة الآخرين، فلم ينج أحد من شرهم، حتى الموتى، -والعياذ بالله-، كما لم يذكرك أحد بسوء، فيما أعلم ولعلك ممن يلقى الله بقلب سليم، مقاربة مني بالرجل، الذي قال عنه الرسول -صلى الله عليه وسلم-: «يَدْخُلُ عَلَيْكُمْ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ»(أخرجه أحمد)، لقد كنت كريم النفس، نظيف اليد، نقي القلب، رضياً، هيناً، ليناً، تألف وتؤلف، كثيراً ما تضحي بقناعاتك ورأيك، في سبيل وحدة وتماسك وتكاتف الجهود ونبذ الفرقة، ومراعاة شؤون إخوانك، والتزام حقوق الأخوة حسب اجتهادك، لقد كنت تعتقد أن درء المفاسد، وخاصة في زمن الفتن، مقدم على جلب المصالح، رحمك الله -تعالى-، ولعل ذلك كان السبب فيما يؤخذ عليك، حيث ما كان يدفعك إلى ذلك إلا ما تعتقده من مصلحة عامة، الأمر الذي حمّلك من التبعات الكثير، وذلك بحق حيناً وبغير حق أحياناً، وقد يكون الهدف من وراء ذلك محاولة الآخرين الانسحاب من مسؤولية الفشل، ولعل عدم الشجاعة في تحمل المسؤولية كان السبب في بعض الفجوات والحفر، الممتدة في حياتنا والتي لا يزال يسقط فيها بعض العاملين للإسلام، ولا أزال أعيش لحظات الزيارة الأخيرة بصحبة الأستاذ الفاضل عصام العطار، -حفظه الله وأطال عمره-،وبعض الإخوة الكرام، الذين أصروا على مرافقتي لزيارتك، وقد أقعدك المرض، ومع ذلك حاولت تجاوز المرض والألم، والحضور الذهني الكامل لمؤانسة زائريك، وإصرارك عليهم قبول الدعوة لتناول الطعام في بيتك، ولعل مساهمتك المبكرة في سلسلة «كتاب الأمة» بالإصدار المتميز: «المخدرات من القلق إلى الاستعباد»، الذي انطلق بالسلسلة نحو آفاق جديدة وغير تقليدية، كان بمثابة فتح كبير الأثر وعظيم الفائدة للسلسلة لمعالجة هذا الداء الوبيل، ولعلك كنت أنموذجاً متميزاً لعلاقة المسلم بغير المسلم، فعندما ألغي ابتعاثك إلى بلجيكا، ومرت بك أيام من الهم والغم، بسبب العجز عن تدبير نفقات الدراسة وتأمين ظروف المعيشة، وقد لاحظ أصحاب السكن المُستأجر ذلك، فعنّفوك أشد التعنيف، وطلبوا منك الاستمرار في الدراسة دون الالتفات لأي عقبة، وتنازلوا عن حقهم في الأجر، وما ذلك إلا لإحسانك وحسن خلقك، وإن نسيت لا أنسى ما رويت لنا عن فترة اعتقالك في سجن المزّة المشؤوم، وقد كان معظم نزلائه من رفاق الحاكم، وكيف أصبحوا رمماً، فقَدَ بعضُهم بصره، وتآكل جلد بعضهم، بمرض الجرب، وفقد بعضهم وعيه، فأصبح يصدر أصواتاً كأصوات الحيوانات المختلفة، وكيف كان الكثير منهم يغبطك حتى على سجنك، فأنت في نظرهم المضحي في سبيل قضية سامية، أما هم فخاسرون؛ لأنهم عاشوا أوهاماً وأفكاراً خسروا معها الدنيا والآخرة؛ ومع شدة خصومتهم عندما كانوا على كرسي الحكم، فلقد كنت لهم الطبيب المداوي، والممرض الحاني، الذي يسهر على صحتهم، ويؤانس وحشتهم، ويفرج كربتهم، لدرجة أنك كنت تقص شعرهم وتقلم أظافرهم وتنظف أجسامهم، كما لا أنسى، إحدى السفرات المشتركة، عندما انقلبت بنا السيارة، وتحولت من طريق الذهاب إلى طريق الإياب، وكان الوقت ليلاً، وقد شُجّ رأسك، ونزف دمك، وكيف وضعت يدي على الجرح، ضاغطاً بشدة حتى يتوقف النزف، تلك المسافة الطويلة، وقد لزمت الفراش أياماً، ومع ذلك كنت راضياً مرضياً سعيداً، لم تفارق الابتسامة محياك.
رحمك الله يا أخي أبا محمود، فلقد غيب الموت الشخص وأحيا الشخصية، وذهبت العبرات وبقيت العبر والمعاني الكبيرة، وأحسن الله عزاء الأخت الفاضلة الصابرة أم محمود، والأحبة الأبناء والإخوة والأصهار، وعوضها خيراً، وألهمها الصبر والاحتساب، فلقد صبرت في السراء والضراء وحين البأس، وتحملت الكثير مما نعرفه عن أصحاب المعادن النفيسة، ولا غرابة في ذلك، فالطيبات للطيبين، والطيبون للطيبات، والحمد لله على كل حال، ونعوذ بالله من أحوال أهل النار.