الشيخ الباني جبلٌ من جبال العلم
محسن بن حمد الخرابة [1]
عرفتُ الشيخَ المربِّي عبدالرحمن الباني - رحمه الله - في الرِّياض، وحضَرتُ بعضَ مُحاضراته ودُروسه الفكريَّة التي كان يُلقيها على بعض أصدقائه وطُلاَّبه وأحبابه بعد صلاة الجمعة في منزله، وكان عمرُه ينيف على التسعين عامًا.
ومن خِلال هذه الدُّروس التي سمعتُها منه تبيَّن لي أنه جَبَلٌ من جبال العلم والفِكر، يتَدفَّق بالمعلومات تدفُّقًا؛ كالسيل بل النهر بل البحر. يستحضرُ تاريخَ العرب والإسلام، ويكاد يحفظُه عن ظهْرِ قلب، ويستحضرُ التاريخَ المعاصر الذي عايشَه وكأنه أمامَ عينيه، الكتب التي قرَأها قائمةٌ في ذِهنه، حاضرةٌ على لسانه، يُلخِّص الكتابَ في دقائقَ قليلة.
إذا تناوَل عالمًا من العلماء الذين كانوا شُيوخَه - وهم كُثْرٌ - أو كانوا أستاذتَه، أو كانوا زُملاءه وأقرانَه، تراه مُنصِفًا فيما يَصِفُ به هؤلاء العلماء، ويُنزلهم مَنازلهم ويُثني عليهم، ويُسبِغ عليهم أجملَ الخِصال وأفضل السَّجايا، لم أرَهَ قدَحَ في عَلَمٍ قطُّ، ولم يذمَّ أحدًا البتَّة.
كان - رحمه الله - بحرَ أخلاقٍ، وكتلةً من الفضائل والشِّيَم، وكأنَّ الله - سبحانه وتعالى - عجن جِبلَّته بماء المكارم والفَضائل.
كان مثلاً أعلى في التَّواضُع والتذلُّل والافتقار إلى الله في كلِّ شيء، لا يمدحُ نفسَه أبدًا، ولا يحبُّ أن يمدَحَه أحدٌ أمامَه، وإذا مدَحَه أحدٌ أمامَه فإنه يستغفرُ الله، ويُكثِرُ من الاستغفار.
كان - رحمه الله - إذا ناقش موضوعًا يقتُله بحثًا ومناقشةً، وكان كثيرًا ما يستطردُ فيخرج عن الموضوع الأصليِّ، ثم ينتقلُ إلى موضوعٍ آخَر، وقد يخرُجُ إلى موضوعٍ آخَر فينسى الموضوعَ الأصلي، حتى إنَّ الموضوعات التي يتناولها ليَدخُل بعضُها في بعض، وتتشعَّب كثيرًا.
كان - رحمه الله - عالمًا بالكتُب، فهو يذكُر اسمَ الكتاب، واسمَ المؤلِّف، واسمَ المحقِّق إن وُجد، حتى دار النشر التي نشرت الكتاب يذكُرها، وسنة نشر الكتاب، وكلَّ ما يتعلَّق بالكتاب.
الحقيقة أنَّ الأستاذ الشيخ عبدالرحمن الباني كان علَمًا من أعلام هذه الأمَّة، وإمامًا من أئمَّتها الكبار العِظام، والبقيَّة الباقية من السَّلف الصالح، وقد شغَر مكانُه وخلا مَوضعُه، ولكنَّ الأمَل بالله عظيمٌ أن يُعوِّض هذه الأمَّةَ بأمثاله من الرِّجال العظام الذين يحملون رايةَ العلم والفِكر، ويقومون مقامَه، ويسدُّون مَسَدَّه، وما ذلك على الله بعزيز.
رَحِمَ الله الشيخ عبدالرحمن الباني رحمةً واسعة، وأسبَغَ عليه من رِضوانه، وأسكَنَه فسيحَ جِنانِه، مع النبيِّين والشُّهداء والصَّالحين، وحَسُنَ أولئك رفيقًا، والحمدُ لله ربِّ العالمين.
من اليمين: أيمن ذوالغنى، ومحمد سعيد المولوي، ومحسن الخرابة
والإعلامي عوض حسين الشلالدة، ود. حيدر عيدروس علي
([1]) هو المشرف اللغوي في مركز الملك فيصل للدراسات والبحوث، وقد تفضَّل بكتابة هذه الكلمة لتنشرَ في كتابي عن شيخنا الجليل الراحل عبدالرحمن الباني (كتبه: أيمن بن أحمد ذوالغنى).