حسين مؤنس.. أديب المؤرخين ومؤرخ الأدباء
حسين مؤنس..
أديب المؤرخين ومؤرخ الأدباء
أبو الحسن الجمّال
حديثنا اليوم عن علم من أعلام الفكر الإسلامى فى العصر الحديث ..الدكتور حسين مؤنس المتحمس دوما لأى مجال ولجه وأضاف إليه ..فى الأدب، والتاريخ، والتحقيق، والترجمة، فالعلاقة بينه وبين العلم علاقة حب وعشق ..هذه العلاقة التى خلفت عشرات الكتب الفريدة فى التاريخ حيث تطرق لكافة عصور التاريخ فى الشرق والغرب، وفى القديم والحديث، وكانت مصر فى خاطره دوما لم يتركها حتى فارق الحياة.. يتعامل مع مشاكلها ويطرح الرؤى والحلول..نتذكره اليوم حتى نضع نموذجه للناشئة، يتعلمون منه الصبر والمثابرة والإخلاص للعلم..
والدكتور حسين مؤنس نموذجاً للمؤرخ الأديب والأديب المؤرخ فهو راجع أولاً إلى نشأته وكتاباته فى مجلة الأثنين التى كانت تصدرها دار الهلال فى الثلاثينيات وكان يكتب بها موضوعات شيقة بأسلوب أدبى رائع، والأمر الثانى إلى تاثره بمؤرخى الأندلس الذين كانوا فى الأساس أدباء مؤرخون.. فلو أخذنا "ابن سعيد" فى كتابه "المغرب فى حلى المغرب" لوجدنا أديباً يترجم للرجال بأسلوب أدبى رائع، ولو أخذنا "ابن عذارى المراكشى" فى كتابه "المعجب فى تاريخ المغرب" أو غيرهم لرأيناهم امتلكوا ناصية البيان وهم يتحدثون عن التاريخ وعن الأحداث بأسلوب أدبى رائع، كل هذه العوامل والأسباب أثرت فيه وهو يؤرخ لأحداث تاريخية متعددة فى الشرق والغرب ...
ولد حسين مؤنس في مدينة السويس في 4 رمضان 1329 هـ الموافق 28 أغسطس 1911م، نشأ في أسرة كريمة، وتعهده أبوه بالتربية والتعليم، فشب محبًا للعلم، مفطورًا على التفوق والصدارة، حتى إذا نال الشهادة الثانوية في التاسعة عشرة من عمره جذبته إليها كلية الآداب بمن كان فيها من أعلام النهضة الأدبية والفكرية، والتحق بقسم التاريخ، ولفت بجده ودأبه في البحث أساتذته، وتخرج سنة (1352 هـ/ 1934م متفوقًا على أقرانه وزملائه، لم يعين حسين مؤنس بعد تخرجه في الكلية؛ لأنها لم تكن قد أخذت بعد بنظام المعيدين، فعمل مترجمًا عن الفرنسية ببنك التسليف، واشترك في هذه الفترة مع جماعة من زملائه في تأليف لجنة أطلقوا عليها "لجنة الجامعيين لنشر العلم"، وعزمت اللجنة على نشر بعض ذخائر الفكر الإنساني، فترجمت كتاب "تراث الإسلام" الذي وضعه مجموعة من المستشرقين، وكان نصيب حسين مؤنس ترجمة الفصل الخاص بإسبانيا والبرتغال، ونشر في هذه الفترة أول مؤلفاته التاريخية وهو كتاب "الشرق الإسلامي في العصر الحديث" عرض فيه لتاريخ العالم الإسلامي من القرن السابع عشر الميلادي إلى ما قبل الحرب العالمية الأولى، ثم حصل على درجة الماجستير برسالة عنوانها"الشرق الإسلامي في العصر الحديث" سنة 1355 هـ - 1937م، ثم على الدكتوراه الآداب"فتح العرب للمغرب" من جامعة زيورخ بسويسرا، عام 1943.
لما انتهت الحرب العالمية الثانية عاد إلى مصر سنة 1364 هـ / 1945م، وعين مدرسًا بقسم التاريخ بكلية الآداب، وأخذ يرتقى في وظائفه العلمية حتى عين أستاذًا للتاريخ الإسلامي في سنة 1373 هـ / 1954م، إلى جانب عمله بالجامعة انتدبته وزارة التربية والتعليم سنة 1374 هـ / 1955م؛ ليتولى إدارة الثقافة بها، وكانت إدارة كبيرة تتبعها إدارات مختلفة للنشر والترجمة والتعاون العربي، والعلاقات الثقافية الخارجية، فنهض بهذه الإدارة، وبث فيها حركة ونشاطًا، وشرع في إنشاء مشروع ثقافي، عرف بمشروع "الألف كتاب"، ليزود طلاب المعرفة بما ينفعهم ويجعلهم يواكبون الحضارة، وكانت الكتب التي تنشر بعضها مترجم عن لغات أجنبية، وبعضها الآخر مؤلف وتباع بأسعار زهيدة.
رحلته مع الأندلس "الفروس الموعود":
لم يرض الدكتور حسين مؤنس أن يطلق على الأندلس "الفردوس المفقود"كما كان معظم الناس يطلقون عليه، وإنما أطلق عليه "الفردوس الموعود"، لأنه رأى الحياة مستمرة فى الأندلس برغم استيلاء الصليبيين عليه وإرغام أهله على اعتناق النصرانية أو الرحيل وقد بدات رحلة الدكتور مؤنس مع الأندلس مبكراً ، منذ ترجم فصلا عنه فى كتاب "تراث الإسلام" لمجموعة من المستشرقين - كما اسلفنا- ، وقد وقد صور حنينه إلى هذه البلاد قوله فى مقدمة كتابه " رحلة الأندلس " :
" منذ ذلك الحين – يعنى زيارته الأولى لإسبانيا سنة 1940 – لم يخرج الأندلس من خاطرى أبداً : إذا كنت فيه فأنا بين آثاره ومغانيه ، وإذا كنت بعيداً عنه فأنا مع تاريخه أتأسله وأستوحيه "، واستهواه أيضا حينما اعد رسالة الدكتوراه بعنوان "فتح العرب للمغرب" واستهواه أيضاً عندما طاف بمدنه وكوره وقصباته وحصونه ليجعلنا نرجع إلى الخلف 13قرن من الزمان ونعيش معه عبر تسعة قرون فى أسلوب حى جذاب فى كتابه الأهم "رحلة الأندلس حديث الفردوس الموعود"، وفى هذا يقول: "لقد قضيت فى الأندلس اثنى عشر عاماً وزيادة وأن ذلك البلد فى نظرى لم يضع (يفقد) ..فأجمل ما فى الإسلام من حقائق أننا لا نعرف الموت فالإنسان منا ينتقل من الحياة الدنيا إلى الحياة الدائمة ، فنحن ليس لدينا موت فى الإسلام وكذلك أقول أن الأندلس لم يمت وإنما هو حى فى نفوس الناس، ولم يكن دخولنا الأندلس مجرد غزو، وإنما هى حضارة العرب الذين دخلوا الأندلس ومعهم المغاربة الذين تحولوا إلى عرب، وكانوا أشد عروبة من كثير من العرب، ومثال ذلك طارق بن زياد الذى كان مغربياً وفتح الأندلس باسم العرب والإسلام..وأحب أقول أن العرب هم الشعب الوحيد الذى انتصر وفتح وحقق قول الله تعالى: "إذا جاء نصر الله والفتح" النصر أولا ثم ياتى الفتح ..النصر عسكرى والفتح حضارى".
ثم يعين الدكتور حسين مؤنس إدارة المعهد المصري للدراسات الإسلامية في سنة 1373هـ/ 1954م ومكث به عامًا نهض به، واستكمل مكتبته حتى أصبحت من أغنى المكتبات العربية في إسبانيا، وأشرف على مجلة المعهد، وأرسى قواعد النشر بها في قسميها العربي والأوربي، ثم عاد إلى القاهرة، وفي أثناء وجوده بالقاهرة كلفته مصلحة الاستعلامات سنة 1376 هـ / 1957م بالقيام برحلة طويلة إلى دول أمريكا اللاتينية، الناطقة بالإسبانية، لتوثيق الروابط بينها وبين مصر، ونجح في إنشاء عدد من المراكز الثقافية بها، يكون على صلة بالمعهد المصري في مدريد. ثم عاد حسين مؤنس مرة أخرى إلى إسبانيا سنة 1377 هـ / 1958م ليتولى إدارة المعهد المصري بها، وظل هناك حتى بلوغه سن التعاقد في سنة1388 هـ/ 1969م .
والجدير بالذكر أن المعهد المصري للدراسات الإسلامية افتتح فى مدريد (مجريط) سنة (1369 هـ / 1950م) وكان وراء إنشائه الدكتور طه حسين باشا وزير المعارف، بهدف توثيق العلاقات بين مصر وإسبانيا التي عاش المسلمون في رحابها نحوًا من عشرة قرون، وكان أول مدير لهذا المعهد هو الدكتور محمد عبد الهادي أبو ريدة أستاذ الفلسفة بجامعة القاهرة، وبعد قيام الثورة خلفه الدكتور علي سامي النشار، وهو أيضًا من أساتذة الفلسفة الإسلامية، ولم تطل إقامته في المعهد، وتعد فترة الدكتور حسين مؤنس من أزهى عصور المعهد المصري هناك، فأصبح ملتقى للمستشرقين وأساتذة الجامعة المهتمين بتاريخ المسلمين في الأندلس، وأقبل عدد كبير من الطلاب على دروس اللغة العربية التي ينظمها المعهد، وتردد الجمهور على المحاضرات والندوات التي تعقد، وصارت مجلة المعهد معرضًا لما حفلت به من أبحاث عميقة، تدور حول التاريخ والحضارة في الأندلس، ونشطت مطبوعات المعهد، سواء ما كان بالعربية أو بالإسبانية، وكان يقف وراء هذا النشاط حسين مؤنس ويعاونه في إدارته العالم الكبير محمود علي مكي الذي كان يتولى وكالة المعهد.
وقد أثرى الدكتور حسين مؤنس المكتبة العربية بالعشرات من الكتب والبحاث والمقالات والترجمات والكتب المحققة حول التاريخ الأندلسى منها: كتابه الجامع "فجر الأندلس" وهو حجة في موضوعه، استقصى فيه الفترة المبكرة من تاريخ الأندلس في عمق ودقة، وكتاب "تاريخ المغرب وحضارته من قبل الفتح العربي إلى بداية الاحتلال الفرنسي" في مجلدين كبيرين، و"معالم تاريخ المغرب والأندلس"، و"تاريخ الجغرافية والجغرافيين في الأندلس" وهو يعد أكبر بحث في هذا الموضوع الذي يجمع فيه المعارف الجغرافية والتاريخية، و"رحلة الأندلس حيث الفردوس المفقود"، و"شيوخ العصر فى الأندلس"، وفى ميدان الترجمة علينا أن ننوه بترجمته لدراسة المستشرق الإسبانى غرسية غومسى عن "الشعر الأندلسى" ولكتاب جونثالث بالنثيا عن "تاريخ الفكر الأندلسى" وهو أشبه بموسوعة ضخمة حول الثقافة الأندلسية . يقول الدكتور محمود على مكى رفيق دربه: "والحقيقة أن فى إطلاق اسم الترجمة على هذا الكتاب ظلماً لحسين مؤنس، ففيه من الإضافات والنصوص الكاشفة ما يجعل مؤنسا مشاركة فى تأليفه" ، هذا عن الترجمة العلمية، وأما الترجمة الأدبية فلحسين مؤنس مشاركة قيمة فيها . فقد ترجم عن الإسبانية مسرحية للوركا هى "الزفاف الدامى" ولعميد المسرح الإسبانى فى عصره الذهبى لويى دى بيجا مسرحية "فونت أوبخيونا" أو "ثورة فلاحين" وهما من أجمل نصوص الأدب الإسبانى القديم والحديث.
كما الف الدكتور حسين مؤنس العديد من الكتب الأخرى التى دارت حول تاريخ الإسلام وحضارته منها كتابه الرائع "أطلس التاريخ الإسلامي" حيث أخرج هو ومجموعة من الباحثين كتاب يجمع ويشرح حركة الفتوح الإسلامية عن طريق الخرائط و أتجاه توسع الدولة الإسلامية وفترات تقزمها مع ملخص تاريخي مختصر رائع وقد فاق كل كتب الأطلس التى ظهرت قبله وبعده حيث يشكل العمدة لكل هذه الكتب كما أن له العديد من الكتب الاخرى منها : "التاريخ والمؤرخون" وكتاب "الحضارة" الذي تصدر أول أعمال سلسلة عالم المعرفة التي تصدرها الكويت، والإسلام حضارة، والإسلام الفاتح، وتناول فيه البلاد التي فتحت دون حرب مثل إندونيسيا ووسط إفريقيا، و"عالم الإسلام" وهو نظرات في سكانه وخصائصه وثقافته وحضارته، وكتاب "المساجد" وهو يصور فيه دورها في بناء الجماعة الإسلامية، ويفيض في تاريخها وتطورها وطرزها المعمارية، و"أطلس تاريخ الإسلام" وهو من أعظم أعماله وأصدقها على صبره ودأبه، و"ابن بطوطة ورحلاته"، و"دراسات في السيرة النبوية"، و"دستور أمة الإسلام".
مصر التى فى خاطرى:
ولم يكن التاريخ المصري الحديث بعيدًا عن قلمه، فوضع فيه مؤلفات قيمة، يأتي في مقدمتها "مصر ورسالتها" وهو دراسة في خصائص مصر ومقومات تاريخها الحضاري ورسالتها في الوجود، و"دراسات في ثورة 1919"، و"باشوات وسوبر باشوات" يرسم فيه صورة مصر في عهدين وينقد فيه ثورة يوليو ومعظم رجالاتها، و"جيل الستينيات". له ترجمة بديعة لنور الدين محمود بطل الحروب الصليبية، صور فيه طموحة وجهاده من أجل تحقيق الوحدة الإسلامية لمواجهة الخطر الصليبي، ويجري في هذا المضمار كتابه "صور من البطولات العربية والأجنبية".
يرد الاعتبار لسعد زغلول :
لحسين مؤنس كتابه الأهم عن ثورة 1919م "دراسات فى ثورة 1919"، وقد نشره منجماً فى مجلة "آخر ساعة" وفيه يرد الاعتبار للزعيم سعد زغلول، ورد عن الذين شنعوا عليه بحجة ما ذكره سعد فى مذكراته بأنه كان يقامر ويدخن بشراهة ويخسر معظم ثروته ويتعاطى الخمر، ومنهم الدكتور عبدالخالق لاشين فى أطروحته عن سعد زغلول، وقد التمس حسين مؤنس العذر لسعد زغلول وبرر حدوث هذا من جانبه، كونه ظرف تعرض له مثل آلاف الناس حينما يتعرضون لانتكاسات سرعان ما ينتصرون عليها ويتخلصون منها، وهذا ما حدث مع سعد زغلول الذى خرج من نكبته التى ألمت به سنة 1916، إذ نراه يتجه اتجاهاً جديداً جداً، اتجاه ترشيح نفسه للجمعية التشريعية (البرلمان)، وهنا يبدأ سعد دنيا جديدة فهو يتزعم المعارضة ويتحدث فى حرية عن مصالح الوطن والناس .. هنا نرى سعداً فى طريقه ليجد وطنه، "ليسعى فى رفع مقامه" وفى الطريق إلى وطنه وجد نفسه..وكذلك كانت الأمة نفسها تبحث عن نفسها فلا تجدها، كانت مضيعة بين سلطة الاحتلال ومطامع الخديو واستغلال أهل الحكم ونهب الأجانب ...
هنا تحت سقف هذه الجمعية، عرف سعد طريقه وتحدث بحرية لم يكن يستطعها وهو وزير... لقد لامه بعض خصومه لأنه لم يطالب بالاستقلال ولا فكر فى الدستور أيام كان وكيلاً للجمعية التشريعية، ويرد حسين مؤنس هنا: "ولكن هل المطالبة بالاستقلال والدستور تكون فى جمعية محدودة تسيطر عليها الدولة؟ إن طلب الاستقلال ينبغى ان يوجه للمحتل فى وجهه، ويطلب من المجتمع العالمى كله، وهذا ما فعله سعد فى وقته عندما انتهت الحرب وترددت فى الدنيا صيحات الحرية وحقوق الشعب وتقرير المصير..هنا يتخطى سعد كل الحواجز ويقتحم الطريق المسدود فيزيل سدوده، هنا تنتهى أزمة سعد وازمة مصر، فيندفع فى طريقه والأمة معه إلى آفاق بعيدة ودنيا جديدة ، آفاق الصراع فى سبيل الوطن ودنيا الأمم الحرة المناضلة". (دراسات فى ثورة 1919 ص60-63)
رأيه فى الدولة العثمانية:
اكتفى معاصرى الدكتور حسين مؤنس من المؤرخين والباحثين بتبنى وجهة نظر الغرب الصليبى حول الدولة العثمانية العدو التقليدى لها وكانت المدارس والجامعات تصف الفتح العثمانى للبلاد العربية بأنه احتلال واستعمار وتصفه أيضاً بالعصور المظلمة اعتماداً على المصادر الغربية المتحاملة والمغرضة دون البحث فى الأرشيف العثمانى الثرى الذى يحوى آلاف الكتب التى لم ترى النور بعد..وبعد ذلك ظهرت دراسات رائعة حول هذه الدولة التى ظلمت كثيراً مثل المرسوعة الضخمة (الدولة العثمانية دولة إسلامية مفترى عليها) التى ألفها الأستاذ الدكتور عبالعزيز الشناوى رحمه الله، وعندما سئل الدكتور حسين مؤنس عن رأيه فى الدولة العثمانية قال: "عندما يتحدث الناس عن الدولة العثمانية ، وقد تعودنا أن نحمل عليها وأن نقول أن الأتراك العثمانيين كانوا مستبدين – أقول لهم: أنه لو لم يكن للأتراك إلا فضل حماية المغرب كله من استيلاء النصارى عليه وكانوا بالفعل قد احتلوا الجزائر وطرابلس، ودخلوا فى تلك البلاد، فما الذى ردهم عن الاستيلاء على المغرب إلا الأتراك العثمانيون، فهم الذين حافظوا على المغرب مسلماً وإذا كنا نرى المغرب جوهرة جميلة اليوم يفتخر بها الإسلام ، فإن الفضل فى ذلك يرجع إلى الدولة العثمانية، والفضل الثانى للأتراك العثمانيين أنهم انتصروا على الأيرانيين فى موقعة "شمال إيران" التى استعدنا بها العراق إلى عالم العروبة ، بعد أن كاد يدخل فى الدولة الإيرانية ، هذا الفضلان يكتبان إلى جانب غزواتهم وفتوحاتهم فى أوربا وكنا نتمنى ألا يصلوا إلى "بودابسيت" وأن يكتفوا بالبلقان ولو أنهم اكتفوا به لصبح البلقان اليوم فعلاً بلداً إسلامياً ، ولما رأينا ظاهرة مثل بلغاريا التى تضطهد المسلمين الذين يعيشون فيها وهم بقية العصر التركى"..
تاريخ الحكام وتاريخ المسلمين:
استقرى الدكتور حسين مؤنس تاريخ الإسلام كله فى كتب الأقدمين والمحدثين وفى المصادر التى كان يفضل أن يطلق عليها الموارد، مثل تاريخ الطبرى، وأبن الأثير، وابن خلكان، والمكتبة الأندلسية فخلص إلى أنه يجب تنقية التاريخ الإسلامى وذلك فى كتاب له "تنقية اصول التاريخ الإسلامى" وكان الدكتور مؤنس متسرعا فى بعض القضايا وأسرع فى سرعة الجزم والحسم معها مما حدا بالبعض أن يهاجمه ويسحب هذا على كل أعماله.
وفى ندوة الأثنينية التى عقدت بالمملكة السعودية، والتى قصد منها تكريم حسين مؤنس ورد غلى الندوة سؤال من الناشر الكبير محمد على دولة صاحب دار القلم بدمشق الغراء يقول فيه: "ما مدى صحة المقولة التى تصف تاريخنا الإسلامى بأنه تاريخ حكام وسياسيين فقط ؟ فأجاب الرجل بكل أريحية فقال: "إن الموضوع يشغل ذهنى الآن فنحن المسلمين لنا تاريخان: تاريخ سياسى وهو الذى يمثله الحكام، ومنهم الأتراك العثمانيون ، ومنهم المماليك ومنهم الفاطميون وآخرون أسوء من الفاطميين وهناك تاريخ آخر للأمة الإسلامية وهو تاريخ جميل جداً ، لن الأمة الإسلامية دائما أمة واحدة، ولم يتحارب بلد إسلامى مع بلد آخر ولا يمكن أن تقع حرب بين المصريين والسوريين أو بين العراقيين والسوريين ولكن الحكام تحاربوا، وأنا أقول : إنا لدينا تاريخين للعالم الإسلامى تاريخ سياسى وهو ننكره أحيانا، وتاريخ حضارى وهو تاريخ أمة الإسلام وأنا أقول لك عندما تقرأ لرحالة مثل ابن بطوطة الذى خرج من بلده فى القرن الثامن الهجرى لكى يطوف بعالم الإسلام ويطمئن المسلمين على مصيرهم بعد نجاتهم من أكبر خطرين تعرضوا لهما وهما الخطر الصليبى والخطر المغولى ، ثم كتب كتابه المشهور وأكد للمسلمين أن الإسلام على خير، والعجيب أن هذا الرجل قام بهذه الرحلة ولم ينفق من عنده شيئاً ، فقد خرج بدنانير قليلة لكى يزور الحجاز ، فطاف بالعالم الإسلامى كله ودخل الهند وكان له شىء جميل فيها بل ذهب إلى الصين ، أى أن الأمة الإسلامية انفقت على رحلته هذه لكى يطمئنها على مصيرهم".
حسين مؤنس محققاً للتراث:
ازدهر تحقيق التراث فى عصره وأخرجت المطابع المصرية مئات الكتب النادرة التى كانت تنفد فور صدورها، وتصدر المشهد رجال من طراز فريد وكوكبة نادراً ما تتكرر فى أزمنة أخرى، واستتفاد حسين مؤنس من كل هؤلاء وتجاربهم ومن تجارب من تتلمذ عليهم والتقاهم من علماء الاستشراق، حيث تعلم منهم منهجهم الفريد ومثابرتهم فى رحلتهم مع الكتاب المخطوط ، كما استفاد أيضا من وجوده فى أوربا ليزور كبرى المكتبات ودور الكتب التى تحوى نفائس المخطوطات النادرة كل ذلك اضفى الجودة والدقة على أعماله التى حققها، ومنها: كتاب "رياض النفوس" لأبي بكر المالكي، وهو في تراجم فقهاء إفريقية وعلمائها في الحقبة الأولى من تاريخها، و"أسنى المتاجر في بيان أحكام من غلب على وطنه النصارى ولم يهاجر" للونشريسي، وهو كتاب مهم في بيان الأحوال الاجتماعية للعرب المدجنين الذين بقوا في إسبانيا بعد سقوط غرناطة، و"الدوحة المشتبكة في ضوابط دار السكة" لأبي الحسين علي بن يوسف الحكيم، و"الحلة السيراء" لابن الأبار في مجلدين، وهو يترجم لأعلام الأندلس والمغرب حتى القرن السابع الهجري.
كما أسهم مؤنس في مجال الترجمة عن اللغات، وكان يجيد الإنجليزية والفرنسية والإسبانية والألمانية، فشارك مع زميل له في ترجمة كتاب عن الدولة البيزنطية لـ"نورمان بينز" عن الإنجليزية، وترجم كتاب "تاريخ الفكر الأندلسي" لـ"جونثالث بالنثيا" عن الإسبانية، والكتاب موسوعة في الأدب الأندلسي شعره ونثره، وفي الحركة الثقافية المتنوعة التي كانت تموج بها الأندلس، ولم يكتف مؤنس بالترجمة الأمينة عن النص الإسباني، بل ملأ حواشي الكتاب بإضافات قيمة ونصوص كاشفة لما في الكتاب من قضايا.
وتعددت مساهماته في الترجمة إلى النصوص الأدبية الإسبانية، فترجم مسرحية "الزفاف الدامي" للوركا، وثورة الفلاحين" للوب دي فيجا، وترجم عن الإنجليزية مسرحية "ثم غاب القمر" لجون شتاينبك.
وظل حسين مؤنس وافر النشاط متوقد الذهن على الرغم من كبر سنه، وضعف قدرته على الحركة، وملازمته للمنزل حتى لقي الله في 27 شوال 1416هـ الموافق 17 مارس 1996م.