حدث في العشرين من شوال
محمد زاهد أبو غدة
في العشرين من شوال من سنة 817 توفي في زَبيد باليمن، عن 88 عاماً، الإمام اللغوي المحدث المفسر مجد الدين محمد بن يعقوب الشيرازي الفيروزآبادي، صاحب القاموس المحيط.
ولد الفيروزآبادي سنة 729 بكازرون من أعمال شيراز، ونشأ بها، وحفظ القرآن وهو ابن سبع، وانتقل إلى شيراز وهو ابن ثمان، وأخذ الأدب واللغة عن والده وغيره من علماء شيراز، وانتقل إلى العراق، وأخذ عن علمائها، ودخل بلاد الشام سنة 755 فسمع بها وظهرت فضائله وكثر الآخذين عنه، وأقام بالقدس الشريف عشر سنوات.
ثم دخل القاهرة ولقي بها إمامين كبيرين من أئمة النحو واللغة، أولهما بهاء الدين ابن عقيل، عبد الله بن عبد الرحمن، المتوفى سنة 769 عن 75 عاماً، وصاحب شرح ألفية بن مالك، والثاني ابن هشام، عبد الله بن يوسف المتوفى سنة 761 عن 53 عاماً، ومؤلف كتاب مغني اللبيب عن كتب الأعاريب، وكتاب أوضح المسالك إلى ألفية ابن مالك وغيرها من المؤلفات العديدة في النحو.
ثم جال في البلاد الشمالية والمشرقية ودخل بلاد الروم – أي الأناضول - ورحل إلى الهند، ولقي جمعا من الفضلاء وحمل عنهم من العلم شيئاً كثيرا.
ثم عاد من الهند على طريق اليمن قاصداً مكة ودخل زَبيد سنة 796، وكان ملك اليمن آنذاك الملك الأشرف إسماعيل الرسولي، المولود سنة 761 والمتوفى سنة 803، وكان محمود السيرة، موصوفاً بالحلم والعطف وحسن السياسة، وله اشتغال بفنون من الادب والتاريخ والحساب، وله مؤلفات في التاريخ وبخاصة تاريخ اليمن، وأكثر من جمع الكتب. ولقي الفيروزآبادي من الملك الأشرف كل تكريم ورعاية، ومنحه على الفور ألف دينار يستعين به على أموره، فاستقر في كنفه يعمل في نشر العلم، وكثر الانتفاع به، وقرأ السلطان فمن دونه عليه، وجعله قاضي القضاة في اليمن، واستمر بزبيد مدة الأشرف ثم ولده الناصر أحمد، وكان الأشرف قد تزوج ابنته لمزيد جمالها، ونال منه الفيروزآبادي برا ورفعة، بحيث أنّه صنف كتاباً وأهداه له على أطباق فملأها له دراهم.
وفي هذه المدة زار الفيروزآبادي مكة مرارا، وكان يحب الانتساب إليها ويكتب بخطه: الملتجئ إلى حرم الله تعالى، وجاور بالمدينة والطائف، وكانت له دار بمكة على الصفا عملها مدرسة للأشرف صاحب اليمن وقرر بها مُدرِّسِين وطلبة، وفعل بالمدينة كذلك وله بمنى دور وبالطائف بستان. وكان يرجو وفاته بمكة المشرفة فما قدر الله له ذلك.
واحترمه ملوك البلدان التي سافر إليها ودخلها، مثل الشاه منصور بن شجاع صاحب تبريز، والملك الأشرف صاحب مصر، والسلطان العثماني بايزيد بن السلطان مراد، وأحمد بن أويس صاحب بغداد، وقيل إنه اجتمع بالطاغية تيمورلنك في شيراز فأنعم عليه بمائة ألف درهم.
اقتنى الفيروزآبادي كتبا كثيرة نفيسة، حتى نقل عنه أنَّه قال: اشتريت كتباً بخمسين ألف مثقال ذهبا، وكان لا يسافر إلا وصحبته عدة أحمال من الكتب، ويخرج أكثرها في كل منزلة ينظر فيها ويعيدها إذا رحل، ولكنه كان كثير التبذير، فكان إذا أملق باعها، فلذلك لم يُوجَد له بعد وفاته ما كان يظن به من المال.
وكان قوي الحافظة، يأخذ نفسه بالعلم والمطالعة والحفظ، قال: لا أنام كل يوم حتى أحفظ مئتي سطر، ولما كان في دمشق قرأ صحيح مسلم على المحدث ناصر الدين محمّد بن جهبل في ثلاثة أيام، فقال:
قرأتُ بحمد الله جامعَ مُسلم ... بجوف دمشق الشام جَوفاً لإسلام
على ناصر الدين الإمام بن جَهْبَل ... بحضرة حُفّاظ مشاهير أعلام
وتمَّ بتوفيق الإله وفضله ... قراءة ضبط في ثلاثة أيام
ورام الفيروزآبادي التوجه لمكة في سنة 799 فكتب إلى الملك الأشرف إسماعيل يستأذنه مشيراً لنفسه - من شدة تواضعه - بأقل العبيد:
ومما ينهيه إلى العلوم الشريفة أنه غير خافٍ عليكم ضعف أقلِّ العبيد ورقة جسمه ودقة بنيته وعلو سنه، وقد آل أمره إلى أن صار كالمسافر الذي تحزم وانتعل، إذ وَهَنَ العظمُ بل والرأسُ اشتعل، وتضعضع السن وتقعقع الشِّن، فما هو إلا عظام في جراب، وبنيان مشرف على خراب، وقد ناهز العشر التي تسميها العرب دقَّاقة الرقاب.
وقد مرَّ على المسامع الشريفة غير مرة في صحيح البخاري قول سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا بلغ المرء ستين سنة فقد أعذر الله إليه. فكيف من نيَّف على السبعين وأشرف على الثمانين؟
ولا يجمل بالمؤمن أن تمضي عليه أربع سنين، ولا يتجدد له شوق وعزم إلى بيت رب العالمين وزيارة سيد المرسلين، وقد ثبت في الحديث النبوي ذلك، وأقلُّ العبيد له ست سنين عن تلك المسالك، وقد غلب عليه الشوق، حتى جلَّ عَمْروه عن الطوق، ومن أقصى أمنيته أن يجدد العهد بتلك المعاهد، ويفوز مرة أخرى بتقبيل تلك المشاهد، وسؤاله من المراحم الحسنية الصدقة عليه بتجهيزه في هذه الأيام، مجرداً عن الأهالي والأقوام، قبل اشتداد الحر وغلبة الأوام، فإن الفصل أطيب والريحَ أزيَبْ، ومن الممكن أن يفوز الإنسان بإقامة شهر في كل حرم، ويحظى بالتملي من مهابط الرحمة والكرم.
وأيضاً كان من عادة الخلفاء سلفاً وخلفاً أنهم كانوا يُبْرِدون البريد عمداً قصداً لتبليغ سلامهم إلى حضرة سيد المرسلين صلوات الله وسلامه عليه، فاجعلني - جعلني الله فداك - ذاك البريد، فلا أتمنى شيئاً سواه ولا أريد:
شوقي إلى الكعبة الغراء قد زادا ... فاستحمِلِ القُلُصَ الوَّجادة الزادا
واستأذِنِ الملك المنعام زِيدَ عُلاً ... واستودِع الله أصحاباً وأولادا
فلما وصل كتابه إلى الملك كتب في طرة الكتابة: إن هذا شيء لا ينطق به لساني ولا يجري به قلمي، فقد كانت اليمن عمياء فاستنارت، فكيف يمكن أن تتقدم وأنت تعلم أن الله تعالى قد أحيا بك ما كان ميتاً من العلم؟ فبالله عليك إلا ما وهبت لنا بقية هذا العمر؟ والله يا مجد الدين، يميناً بارة، أني أرى فراق الدنيا ونعيمها ولا فراقك أنت اليمن وأهله.
أما كتابه القاموس فقد أضحى ذلك المصطلح علماً على كل معجم، والقاموس: البحر أو أبعد موضع فيه غورا وقيل وسطه ومعظمه. وقد سمى الفيروزآبادي معجمه: القاموس المحيط، والقابوس الوسيط، الجامع لما ذهب من كلام العرب شماطيط، وعنى بالقاموس المحيط هنا: البحر الأعظم، ولما كثر تداوله اكتُفِيَ من اسمه بالقاموس، ثم انتقل منه إلى ما ماثله فشمل المعاجم اللغوية السابقة واللاحقة وصارت كلمة القاموس مرادفا للمعجم.
وقد أراد له الفيروزآبادي لمؤلَفه أن يكون جامعا موجزا في الوقت ذاته، فحذف منه الشواهد، واستخدم الرموز مكتفيا بكتابة (ع ، د ، ة ، ج ، م) عن موضع وبلد وقرية والجمع ومعروف.
وأسس عمله - فيما أسس - على كتاب الصحاح، وميز فيه زياداته على الصحاح، وكان أولاً ابتدأ بكتاب كبير في اللغة سماه اللامع والـمَعْلم العُجاب الجامع بين المحكم والعباب، وكان يقول لو كمل لكان مائة مجلد. ومدحه الأديب نور الدين بن محمّد العفيف المكي الشافعي بقوله:
مُذْ مُدَّ مجد الدين في أيامه ... من فيض أبحرِ عِلمِه القاموسا
ذهبت صحاح الجوهري كأنها ... سحر المدائن حين ألقى موسى
وقفَّى على عمله هذا إمامٌ نشأ في زَبيد باليمن هو محمد مرتضى الحسيني الزَبيدي، محمد بن محمد المتوفى بالقاهرة سنة 1205 عن 60 عاماً، حين ألف كتاب: تاج العروس من جواهر القاموس.
وتاج العروس شرح لقاموس الفيروزآبادي، التزم فيه الزبيدي بإيراد جميع مواد القاموس وتحقيقها والتنبيه إلى مراجعها وتفسير ما يحوج منها إلى تفسير، والإتيان بالشواهد التي استغنى القاموس عنها، وهو أجمع معجم عربي بلا نزاع.
وقد أثنى الزبيدي في خطبة كتابه على الفيروزآبادي رحمهما الله تعالى فقال: القاموس المحيط للإمام مجد الدين الشيرازي أجلُّ ما أُلِفَ في الفن ... حيث أوجزَ لفظَه وأشبعَ معناه، وقصَّر عبارته وأطال مغزاه ... وأنا مع ذلك لا أدعي فيه دعوى فأقول: شافهت أو سمعت، أو شددت أو رحلت، أو أخطأ فلان أو أصاب، أو غلط القائل في الخطاب، فكل هذه الدعاوى لم يترك فيها شيخنا لقائل مقالا، ولم يُخلِّ لأحد فيها مجالا... وليس لي في هذا الشرح فضيلةٌ أَمتُّ بها، ولا وسيلة أتمسك بها، سوى أنني جمعت فيه ما تفرق في تلك الكتب من منطوق ومفهوم، وبسطت القول فيه ولم أشبع باليسير، وطالب العلم منهوم ... وأرجو من الله تعالى أن يرفع قدر هذا الشرح بمنِّه وفضله، وأن ينفع به كما نفع بأصله.
بارك الله عز وجل للإمام الفيروزآبادي في وقته وفكره، فتمكن من إنجاز مؤلفات كثيرة في اللغة والحديث والتفسير والسيرة والتاريخ أغلبها في عدة مجلدات، منها شرح لصحيح البخاري أنجز منه 20 مجلداً، وكتاب البُلغة في تاريخ أئمة اللغة.
و كان الفيروزآبادي عديم النظير في زمانه نظما ونثرا بالفارسي والعربي، ونثره أعلى، ومن شعره:
أخِلانا الأماجدَ إنْ رَحَلنا ... ولم تَرعَوا لنا عهداً وإلاّ
نوَدِّعكم ونُودِعُكم قلوبا ... لعل الله يجمعنا وإلا