حدث في العاشر من شوال
محمد زاهد أبو غدة
في العاشر من شوال سنة 110 توفي بالبصرة، عن 77 عاماً، الإمام محمد بن سيرين، مولى أنس بن مالك رضي الله عنه. وهو تابعي جليل أدرك ثلاثين صحابياً منهم أبو هريرة، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن الزبير، وعمران بن حصين، وأنس بن مالك، وعدي بن حاتم، رضي الله عنهم.
كان والده من سبي العراق وأُتيَ به إلى المدينة فصار تحت يد أنس بن مالك، ووالدته صفية مولاة أبي بكر الصديق، حضر إملاكها ثمانية عشر بدرياً منهم أُبيُّ بن كعب، فكان يدعو لها ولذريتها وهم يؤَمِّنون، وولد لسيرين محمد، وأنس، ومَعْبد، ويحيى، وحفصة. وجاء والداه إلى البصرة مع أنس بن مالك رضي الله عنه عندما انتقل من دمشق إلى البصرة.
ولد محمد بن سيرين سنة 33 بالبصرة، وبها نشأ وكان بزَّازاً – تاجر ثياب - في أذنه صَمَم، وتفقه وروى الحديث، واشتهر بالورع وتعبير الرؤيا، وكان ورعاً في الفقه، فقيها في الورع.
ومن ورعه أنه اشترى زيتاً بأربعة آلاف درهم، فوجد في زق منه فأرة، فقال: الفأرة كانت في المعصرة، فصب الزيت كله، وبقي المال عليه فحبس، ودخلته الموعظة لما حُبس فقال: عيرت رجلاً بشيء منذ ثلاثين سنة أحسبني عوقبت به الآن، قلت مرة لرجل: يا مفلس. فعوقبت بالفقر.
وبلغت هذه الكلمة أبا سليمان الداراني، عبد الرحمن بن أحمد، العابد الزاهد المتوفى سنة 215، فقال: قَلَّت ذنوبُ القوم فعرفوا من أين أُتوا، وكثرت ذنوبنا فلم ندر من أين نُؤتى.
ولما كان في السجن قال له السجان: إذا كان الليل فاذهب إلى أهلك، فإذا أصبحت فتعال. فقال: لا والله، لا أكون لك عوناً على خيانة السلطان.
وفي سنة 93 وهو في سجن البصرة توفي أنس بن مالك رضي الله عنه، وكان قد أوصى أن يغسله محمد بن سيرين ويصلي عليه، فأتوا الأمير فأذن له فخرج فغسله وكفنه وصلى عليه، ثم رجع فدخل كما هو إلى السجن ولم يذهب إلى أهله.
وكان قبل إفلاسه يعتزل الناس ثم صار يخالطهم وقال: لم يكن يمنعني من مجالستكم إلا مخافة الشهرة، فلم يزل بي البلاء حتى قمت على المصطبة، فقيل: هذا ابن سيرين، أكل أموال الناس.
وكان من ورع ابن سيرين أنه إذا وقع عنده درهم زيف لم يشتر به، فمات يوم مات، وعنده خمسمئة درهم زيوفا.
وامتد ورعه حتى خالط لحمه ودمه وضميره الحاضر والغائب، قال ابن سيرين: إني أرى المرأة في المنام فأعرف أنها لا تحل لي فأصرف بصري عنها.
وثمرة هذه التقوى نور من الله في الإنسان ومحبة ومهابة يلقيها لعبده في قلوب الناس، قال الحافظ أبو عَوانة الوضاح بن عبد الله المتوفى سنة 176: رأيت محمد بن سيرين مر في السوق فجعل لا يمر بقوم إلا سبحوا وذكروا الله تعالى.
ووفد محمد بن سيرين على أمير العراق يزيد بن هبيرة في الكوفة، فلما قدم عليه قال: السلام عليكم، قال: وكان متكئاً فجلس، فقال: كيف خلفت البصرة وراءك؟ قال: خلفتُ الظلم فيها فاشياً! فهمَّ ابن هبيرة أن يبطش به، وكان في المجلس الإمام المحدث أبو الزناد، عبد الله بن ذكوان المتوفى سنة 131 عن 66 عاماً، فقال: أصلح الله الأمير إنه شيخ! فما زال به حتى سكن، فلما أجازهم أتاه إياس بن معاوية بجائزة، فأبى أن يقبلها، فقال: أترد عطية الأمير، قال: أتتصدق عليَّ؟ فقد أغناني الله، أو تعطيني على العلم أجراً؟ فلا آخذ على العلم أجراً.
واشتُهِرَ الإمام ابن سيرين بتفسير الأحلام، وينسب له كتاب تعبير الرؤيا، وله في تفسير الأحلام فراسة بتأييد إلهي. قال عبد الله بن مسلم المروزي، قال: كنت أجالس ابن سيرين، فتركته وجالست الخوارج، فرأيت كأني مع قوم يحملون جنازة النبي صلى الله عليه وسلم، فأتيت ابن سيرين فذكرته له، فقال: مالك! جالستَ أقواماً يريدون أن يدفنوا ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم؟!
ورأى عبدُ الله بن الزبير في منامه، كأنه صارع عبد الملك بن مروان، فصرع عبدَ الملك، وسمره على الأرض بأربعة أوتاد، فأرسل راكباً إلى البصرة، وأمره أن يلقى محمد بن سيرين، ويقص الرؤيا عليه، ولا يذكر له من أنفذه. فأتاه وقص عليه المنام، فقال له ابن سيرين: من رأى هذا؟ قال: أنا رأيته في رجل بيني وبينه عداوة. فقال: ليس هذه رؤياك، هذه رؤيا ابن الزبير أو عبد الملك، أحدهما في الآخر. فسأله الجواب، فقال: ما أفسرها أو تَصدُقَني، فلم يَصدُقه، فامتنع من التفسير، فانصرف الراكب إلى ابن الزبير، فأخبره بما جرى، فقال له: ارجع إليه، واصدقه، أنني رأيته في عبد الملك. فرجع الراكب إلى ابن سيرين، وصدقه، فقال له: قل له يا أمير المؤمنين، إن عبد الملك يغلبك، ويلي هذا الأمر من ولده لظهره أربعة، بعدد الأوتاد التي سمرته بها على الأرض. وتفسير هذا أن ابن الزبير خلى بين عبد الملك وبين الأرض؛ يتملكها.
ورأى الإمام أبو حنيفة في المنام أنه ينبش قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبعث من سأل محمد بن سيرين، فقال ابن سيرين: صاحب هذه الرؤيا يثير علماً لم يسبقه إليه أحد.
قال جرير بن حازم الجهضمي: رأيتُ في المنام كأن رأسي في يدي أقلبه، فسألت ابن سيرين فقال: أحدٌ من والديك حي؟ قلت: لا، قال: ألك أخ أكبر منك؟ قلت: نعم، قال: اتق الله وبِرَّه ولا تقطعه! وكان بيني وبين يزيد أخي شيء.
وكان ابن سيرين رحمه الله مزّاحاً يداعب ويضحك، فإذا أريد على شئ من دينه كانت الثريا أقرب من ذلك، قال غالب القطان : أتيت محمد بن سيرين، فسألته عن هشام ابن حسان، فقال لي: تُوفي البارحة، أما شعرت؟ فقلت: إنا لله وإنا إليه راجعون. فضحك وتلى قوله تعالى في سورة الزمر: ﴿ اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ﴾
ولم بكن المزاح في عصره مقتصراً عليه بل كان كبار التابعين يبادلونه المزاح، قال الإمام المحدث يونس بن عبيد المتوفى سنة 139: أتيت محمد بن سيرين، فقلت: قولوا له: يونس بن عبيد بالباب، فقال وأنا أسمع: قولوا له: أنا نائم، فقلت: قولوا له: إن معي هدية، فقال: كما أنت حتى أخرج إليك.
وكان الحسن البصري في وليمة ومعه محمد بن سيرين، فجاؤوا بصَحفة فيها خبيص، فقال محمد: إليك إليك! وهو تعبير شائع في ذلك الوقت يعني: هاتها عنك، فقال الحسن : هلم! فأخذ ابن سيرين الصحفة فقلب ما فيها من الخبيص على رغيف، ثم رفع الصحفة فارغة وقال: كلوا!
وكان ابن سيرين رحمه الله غاية في الأدب، مع البعيد والقريب، وكان رحمه الله باراً بوالدته، قالت أخته حفصة بنت سيرين: كانت والدة محمد حجازية، وكان يعجبها الصبغ، وكان محمد إذا اشترى لها ثوبا اشترى ألين ما يجد، فإذا كان عيد، صبغ لها ثيابا، وما رأيته رافعاً صوته عليها، كان إذا كلمها كالمصغي إليها، لو رآه رجل لا يعرفه، ظن أن به مرضا من خفض كلامه عندها.
قال خارجة بن زيد النحوي: دخلت على محمد بن سيرين بيته زائراً له،فوجدته جالساً بالأرض،فألقى إليّ وسادة،فقلت له: إني قد رضيت لنفسي ما رضيتَ لنفسك. فقالله ابن سيرين: إني لا أرضى لك في بيتي ما أرضى لنفسي، واجلس حيث تؤمر، فلعل الرجل في بيته يكره أن تستقبله.
قال محمد بن سيرين: ثلاثة ليس معها غربة: حسن الآداب، وكف الأذى، ومجانبة الرِيَبْ.
قال الحافظ قرة بن خالد السدوسي المتوفى سنة 153: أكلت عند ابن سيرين فدعاني إلى الطعام ولم يُقسِم، وقال: إن الطعام أهون من أن يُقسَم عليه.
وعلى ورعه كان ابن سيرين رحمه الله يرتدي الثياب الثمينة والطيالس والعمائم، ويلبس كساء أبيض في الشتاء، وعمامة بيضاء وفروة.
وكان ابن سيرين مبتلى بالوسواس، يغتسل كل يوم، وإذا توضأ غسل رجليه حتى يبلغ عضلة ساقيه. وقال عُمارة بن مهران: كنا في جنازة حفصة بنت سيرين، فوضعت الجنازة ودخل محمد بن سيرين صهريجا يتوضأ، فقال الحسن البصري: أين هو؟ قالوا: يتوضأ صبَّاً صبَّاً، دلْكاً دلْكاً؛ عذابٌ على نفسه وعلى أهله.
قال شيخ أهل البصرة عبد الله بن عون المتوفى سنة 151: ثلاثة لم تر عيناي مثلهم: ابن سيرين بالعراق، والقاسم بن محمد بالحجاز، ورجاء بن حيوة بالشام، كأنهم التقوا فتواصوا. كان إبراهيم بن الحسن، والشعبي يأتون بالحديث على المعاني، وكان القاسم وابن سيرين ورجاء بن حيوة، يقيدون الحديث على حروفه.
وكان رحمه على منهج السلف في البُعْد عن غشيان مجالس السلطان، قال رجاء بن حيوة: كان الحسن البصري يجئ إلى السلطان ويعيبهم، وكان ابن سيرين لا يجئ إليهم ولا يعيبهم. وذُكِرَ أن أن عمر بن عبد العزيز بعث إلى الحسن البصري بمال فقبله، وبعث إلى ابن سيرين فلم يقبله. قال هشام بن عروة بن الزبير: ما رأيت أحدا عند السلطان أصلب من ابن سيرين.
وكان رحمه الله بعيداً عن الغيبة ومجالسها يتورع منها أشد التورع، ذكر ابن سيرين مرة رجلاً، فقال: ذاك الأسود، ثم قال: إنا لله، إني اغتبته. و كانوا إذا ذكروا عنده رجلا بسيئة ذكره هو بأحسن ما يعلم، وجاءه ناس فقالوا: إنا نلنا منك فاجعلنا في حل، فقال لهم مؤدباً وزاجراً: لا أُحلُّ لكم شيئاً حرمه الله.
وقال محمد بن سيرين رحمه الله: ما حسدتُ أحداً قط على شئ: إن كان من أهل النار، فكيف أحسده على شئ من الدنيا ومصيره إلى النار؟ وإن كان من أهل الجنة، فكيف أحسد رجلاً من أهلها أوجب الله له رضوانه؟
وكان ابن سيرين على جلالة علمه ومكانته يتهيب عند رواية حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان يحدث بأحاديث الناس، وينشد الشعر، ويضحك حتى يميل، فإذا جاء بالحديث من المسند، كلح وتقبض، وإذا سئل عن الحلال والحرام، تغير لونه. وقال: لقد أتى على الناس زمان وما يُسأل عن إسناد الحديث، فلما وقعت الفتنة سئل عن إسناد الحديث، فينظر من كان من أهل البدع، تُرِك حديثه.
أما عبادته رحمه الله فمما ظهر منها أنه يصوم يوماً ويُفْطِر يوما، وكان له سبعة أوراد من القرآن الكريم، فإذا فاته شئ من الليل قرأه بالنهار.