سيمون دي بوفوار... الاحتراق بالفلسفة
ياسين سليماني
[email protected]
لعلّ
Simone de Beauvoir سيمون دي بوفوار (باريس 1908 - باريس 1986) لم تكن تعرف أنّ كتابها "
Le Deuxième
Sexe
"
أو "الجنس الثاني"
الذي أصدرته عام
1949 قد يثير ذلك الكم الهائل من الكتابات النقدية في الوسط الثقافي الفرنسي، بل
وحتى التجريح الذي أصابها بعد نشره... ولكنها في كل الأحوال كانت تعرف أنها تؤسس
لعمل تاريخي كبير يمكن إيجازه في عبارة واحدة " النضال النسوي من أجل الحرية" طبعا،
حريتها كامرأة، وحريتها كإنسان بمنطق أشمل، إذ كان سؤالها الجوهري في هذا الكتاب هو
:" من هي المرأة؟" و رأت بأنّ " الرجل يمارس على المرأة سطوة عاطفية وذلك ما جعلها
تعاني من اضطهاد بارز، لأنها في النهاية قبلت بتحول الرجل من إنسان واقعي إلى رمز
شبيه بالآلهة".
وهذا الكتاب الذي عدّه البعض "إنجيل النساء المتحررات" شنّ الكثير من المثقفين
الفرنسيين هجوما شرسا عليه، فالروائي فرانسوا مورياك (1885-1970) قال عنه" لقد
وصلنا فعلا إلى حدود الوضاعة" ((!!
، أمّا ألبير كامو (1913 -1960) قال بأنه "إهانة للرجل"، كما قال عنه غيرهما كلاما
شبيها بهذا، وصمدت سيمون (التي يجهل الكثير من مثقفينا وأساتذة الفلسفة عندنا أنها
امرأة) أمام هذه الموجة العاتية من النقد، لتقول لاحقا " كان من ألوان سوء التفاهم
التي خلقها الكتاب، الاعتقاد بأني كنتُ أنكر فيه أي فرق بين الرجل والمرأة،... ولكن
ما ذهبت إليه هو أن تلك الاختلافات (بينهما) هي ثقافية وليست طبيعية، وأخذت على
عاتقي أن أروي كيف كانت تنشأ هذه الاختلافات...."
ومع ذلك فإنّ هذا الكتاب ليس الوحيد الذي أثار ضجة، وانتشر بشكل كبير، فإضافة إلى
مشاركتها الحثيثة في مجلة "
Les Temps modernes
أو الأزمنة الحديثة" فقد ألفت سيمون قبل ذلك الكتاب وبعده العديد من الكتب
مثل:"
L'Invité
أو المدعوّة" عام 1943،
Force des choses
أو
قوّة الأشياء عام 1963،
وصولا إلى مذكراتها الصادرة في أربعة أجزاء بعنوان" مذكرات مطيعة عام 1958 ،
ثم عنفوان الحياة 1960 وبعد وفاتها صدر الجزآن الثالث بعنوان "كل شيء
قيل وانتهى" سنة 1970 ، والأخير "وداعا سارتر" الصادر عام 1981.
ومثل رفيق عمرها سارتر (1905 -1980) ناضلت دي بوفوار في سبيل حرية الشعوب فكانت من
بين أهم المثقفين الذي وقعوا بيانا لصالح استقلال الجزائر،بل إنّ المرأة قد كتبت
مقالا تحوّل إلى كتاب كامل عن المجاهدة الجزائرية جميلة بوباشة التي تعرضت لأفضع
أنواع التعذيب من قبل ضباط الاستعمار الفرنسي عند اعتقالها، رافعت فيه لأجل قضية
آمنت بأنها عادلة، فقالت في أحد فصوله:" ... هل يواصل الرجال الذين استجوبوا جميلة
ارتكاب جرائمهم البشعة؟ لقد حان الوقت الآن أن نثبت لهؤلاء أنه لا يمكنهم أن يدوسوا
على القانون... فعندما يرضى حكامنا بما يحصل من جرائم ترتكب باسم الأمة، فهذا يعني
أن الشعب ينتمي إلى الأمة المجرمة، فهل نرضى لفرنسا أن تكون أمة مجرمة؟" لتختتم
قولها بالتنبيه إلى "أنّ قضية جميلة بوباشة تخص كل الفرنسيين". ولعلّه ما من كاتب
أو مناضل جزائري كتب ما كتبته سيمون الفرنسية عن هذه الجزائرية، بل إنّ سيمون هنا
كانت أكثر جزائرية من الكثير من الجزائريين وقتها.
كانت سيمون دي بوفوار كاتبة، و فيلسوفة وجودية من طراز نادر، شاركت سارتر دراسته
الجامعية في
L'école normal
ابتداء من عام 1929 ثم تقاسمت معه العمر والأفكار لمدة نصف قرن كامل، وإلى غاية
وفاة سارتر عام 1980، وهو الذي قال عنها أنها "تجمع بين ذكاء الرجل وحساسية
المرأة"، أما هي فقالت عنه :" أحيانا كنت أشعر بأنني على مسافة لا معقولة منه، وفي
أحيان أخرى كنت اشعر كأنني النصف الذي يكمل النصف الآخر، أخذت منه واخذ مني،
وبالتأكيد لم أكن تابعة له".
وربّما لم تنتهي مشاركة سيمون لسارتر لخمسين سنة كافية، فقد دفنت عند وفاتها عام
1986 بجوار قبره، وكان هذا رمزا آخر يضاف إلى الرحلة الطويلة التي اشتركا فيها.
وربما جرأتها في طرح أفكارها و إصرارها على مواقفها هو ما جعل كاتبة مثل
Élisabeth Badinter
إليزابيث بادنتر تقول :" يا نساء العالم، أنتنّ مدينات بكل شيء لسيمون".
و سواء اقتنع الرجال بما كتبته دي بوفوار أو لم يقتنعوا، فإنّ كتاباتها ستبقى شاهدا
حيا على عمق تجربتها الفلسفية والحياتية ، ودليلا صارخا على إمكانية تفاعل المرأة
مع الرجل في الحياة الثقافية المؤسسة والمنتجة، والتي يمكن أن تكون نموذجا يحتذى
به.