أدير العين ما عندي حبايب
إبراهيم الزبيدي
من منا لا يهتز طربا وتدمع عيناه وهو يستمع إلى إحدى هذه الأغاني، (أدير العين ما عندي حبايب/ حك العرفتونا وعرفناكم/ جيرانكم يا أهل الدار/ حركت الروح لمن فاركتهم/ هذا مو أنصاف منك/ لو إلي وحدي لو روح لهلك/ عروسة والحبايب زافيها/ هلهلي بلله يا سمره/ يا حلو كلي شبدلك كلي/شلي بالروح أخذها وروح/ هاليله ليله من العمر/ على بالي أبد ما جان فركاك/ شدعيلك يلي أحركت كلبي/ داده د سمعي داده/ أخاف أحجي وعليّ الناس يكلون/ على الميعاد أجيتك/ غريبة من بعد عينج يايمه/ أسألوه لا تسألوني/ سمر سمر/ من علمك ترمي السهم ياحلو بعيونك/ ياغريب أذكر هلك/ يابه يابه شلون عيون / إتدلل علي إتدلل/ ما يكفّي دمع العين/ هاي خدود لو لا لا/ خاله شكو/ الله الله من عيونك/ سمر سمر/ والردته سويته، وغيرها عشرات؟
الشاعر الشعبي الرقيق كاتب هذه الروائع الجميلة هو سيف الدين ولائي. عراقي حتى النخاع. ولد في العراق وأذاب روحه فيه، ولم يشرب سوى من مائه، ولم يتنشق غير هوائه. ولولا موهبته العظيمة، ومواهب أمثاله من المبدعين الكبار، لما كان لجيلنا ولا للأجيال التي سبقتنا أو جاءت أو ستجيء بعدنا، في عشرات السنين المقبلة، تراث ٌغنائي تفخر به وبصُناعه العظام.
سيف الدين ولائي، هذا العملاق الذي خلـَّف لسهراتنا العائلية، ولمناسباتنا السعيدة والحزينة معا، كل هذه الأغاني الرائعة التي تنبض بالدفء والعفوية والصدق، يستحق أن يُمنح على كل واحدة منها ثمثالا من ذهب، ووساما، ليس من وزير ولا رئيس وزراء ولا رئيس جمهورية، بل من شعب العراق كله، بعربه وكرده، بشيعته وسنته، بمسلميه ومسيحييه ويهوده.
سيف الدين ولائي كافأه الوطن باقتلاعه من جذوره العراقية العميقة، وطوح به بعيدا، على حدود إيران، باعتباره من التبعية الإيرانية، بكل وقاحة وصفاقة وهمجية وقلة وفاء.
ولأنه لا يعرف شيئا من الفارسية، وليس له في إيران أهل ولا أقارب ولا حبايب، فقد ألقيَ به فردا عاديا بين آلاف المهجرين الأبرياء، في خيمة عارية على الحدود. عامله الإيرانيون بمثل ما عاملوا به غيره من المهجرين أبناء طائفتهم، ممن لم يثبت انتماؤهم لحزب الدعوة أو المجلس الأعلى أو غيرهما من أحزاب الحظوة والرعاية.
فلم يجد سيف الدين ولائي غير أن يرحل عن إيران إلى السيدة زينب في دمشق، ليقضي آخر أيامه، غارقا في كآبة مطبقة، لا يبارح سريره، ولا يستقبل أحدا، ولا يكلم حتى نفسه، ودمعُه يتراقص على أجفانه، صباح مساء.
وحين زارته مذيعة عراقية من إحدى إذاعات المعارضة، في الثمانينيات، وحاولت استدراجه لحديث إذاعي رفض، ولاذ بصمته المطبق ولم يرد عليها بشيء. وحين سألته عما يريد، لم يُجب، وحين ألحت عليه نطق بثلاث كلمات لا غير، قال لها: أعيديني إلى العراق.
فهذا العراقي الصميم حتى بعد ذاك الخنجر المسموم الذي أغمده في قلبه الصغير عراقُ البعث العظيم لم يكره العراق، ولم يكفر بأهله، بل ظلت روحه تهيم شوقا إلى تراب العراق.
ولد الشاعر في مدينة الكاظمية في بغداد عام 1915م، درس في مدرسة الفيصلية الابتدائية (الكرخ حاليا) حتى عام 1928، حيث فصل لمشاركته في الانتفاضة الشعبية ضد زيارة البير موند لبغداد، أعتقل مع من أعتقل من معلمين وطلبة، وصدرت ضدهم أحكام متباينة، رفض الملك فيصل الأول توقيعها، ووضع هامشا يقول، (لقد أكتفينا بفصلهم من مدارسهم وأعمالهم)، بعد ذلك أعيد الطلبة وبعض المدرسين إلى مقاعدهم الدراسية، لكن سيف الدين ولائي لم يكن ضمن المشمولين بالإعادة، وهو أحد مؤسسي الإذاعة العراقية في قصر الزهور عام 1936م، توفي الشاعر ودفن في دمشق عام 1984م.
نعم، قد نعذر الشعبَ العراقي، ونزعم بأن نظام صدام هو الذي إرتكب جريمة تهجير سيف الدين ولائي، ولكن ماذا عن العراق الديمقراطي الجديد؟ هل تذكر وزيرٌ أو غفير في دولة المحاصصة سيف الدين ولائي فدعا إلى إنصافه ورد الاعتبار إليه وإلى روحه الطاهرة الزكية؟ وكم سيف دين ولائي عراقي يدور في أزقة مدن الغربة البعيدة، مشردا يكتوي بناره حنينه إلى وطنه وأهله، وينفق في ساعاتها الخانقة أيامَه ولياليه؟
لماذا نحن العراقيين، وحدنا بين جميع شعوب الدنيا الواسعة، ندوس على مبدعينا، بقسوة، في حياتهم، وندوس على أرواحهم في مماتهم، ونظل رغم كل ذلك، دون حياء، نتغنى بأشعارهم، ونمجد آثارهم، ونعيش على أفكارهم، وغيرُنا، مصريين ولبنانيين وخليجيين ومغاربة، يُكرمون أبناءهم المبدعين، ويُغدقون عليهم، ويبالغون في رعايتهم، أكثر مما يرعون جنودهم وشرطتهم وجباة ضرائبهم وسماسرة بنوكهم وتجارهم الصغار قبل الكبار؟
بالمناسبة قام السفير العراقي بافتتاح المركز الثقافي العراقي في واشنطن، لكننا، نحن المشتغلين بالثقافة المقيمين في أمريكا، شاهدناه على شاشات التلفزيون فقط، كما نشاهد أخبار بلد غريب، جيبوتي أو ساحل العاج.
نحن نعلم بأن وظائف المركز، وغيره من أجهزة السفارة، وقف على المحظوظين من أتباع هذا الزعيم أو ذاك من أباطرة المحاصصة، ولكن هل الدعوات لحضور افتتاح المركز تتم أيضا بالمحاصصة؟
كأن شيئا لم يتغير. ففي زمان البعث الراحل كنا نخاف من المرور أمام سفارة أو مركز تجاري أو ثقافي، وها نحن اليوم، في العراق الديمقراطي الجديد، نخاف من المرور أمام سفارة أو قنصلية أو مركز تجاري أو ثقافي، كذلك.
فهل من نهاية لقسوة هذا العراق العظيم... وعقوقه؟