أحمد مطر سيرة الشاعر العراقي المعاصر

أحمد مطر

سيرة الشاعر العراقي المعاصر

د. كمال أحمد غنيم

[email protected]

من كتاب "عناصر الإبداع الفني في شعر أحمد مطر" للدكتور كمال أحمد غنيم

شخصية الشاعر

أحمد حسن مطر، هو الابن الرابع بين عشرة أخوة من البنين والبنات، أمضى طفولته في قرية "التنومة"، وصباه في محلة "الأصمعي" على شط العرب في جنوب العراق، وقد تميزت طفولته وصباه بالفقر والحرمان والتعثر في الدراسة، واللجوء إلي عالم الكتب والثقافة هرباً من الواقع المرير، وعندما فرض عليه هذا الواقع مواجهته بالكلمة، أحاطت به دائرة التهمة في محيط الخوف، وطارده الإرهاب، واضطر إلي الهرب و اللجوء إلى الكويت([1]).

    وهناك بدأت تتكشف شخصية الشاعر عن روح الفنان المتمرد، وبدأت أشعاره الناضجة تقرع الأجراس في كل زاوية من زوايا الوطن العربي، واعتقد الكثيرون أن اسم "أحمد مطر" هو اسم مستعار، وراحوا يصنفونه ضمن جنسيات عربية مختلفة، وقد ساهم في تكوين هذه الصورة الغامضة عن الشاعر قضية نفيه ومطاردته من العراق أولاً، ثم من الكويت ثانياً، بالإضافة إلى طبيعة انتشار شعره بطرق غير مشروعة ورسمية، إذ إن شعره راح يتسلل إلى بقاع الوطن الكبير، مطارداً كصاحبه، ويرجع هذا الغموض أيضاً إلى طبيعة حياة أحمد مطر الحالية التي يختفي فيها عن الأعين التي ترصده حتى في شوارع لندن.

    وقد أكد الشاعر أن اسمه ليس مستعاراً في أكثر من مناسبة، وبين حقيقة جنسيته ـ وفق بطاقة الهوية والجنسية ـ وأنه ينتمي إلى العراق، الذي يمثل جزءاً من وطنه الكبير الممتد من المحيط إلي الخليج([2]).

    والشاعر له انتماء واضح لا يحيد عنه، حيث إنه ينتمي إلى الأمة لا لحزب أو قبيلة أو سلطة معينة، فالشاعر في تصوره ليس ناطقاً بلسان حال القبيلة، بل ناطق بلسان حال أمته كلها، والإنسانية بأسرها، وسحابة تروي العطاشى من كل لون وجنس ومذهب([3])، وهو حسب تعبيره لم يكن في يوم من الأيام عضواً في عصابة أو حزب أو حركة، بل إنه يشكل دولة بلا شرطة ولا رقباء، يرى الأشياء بعين صافية مجردة، خالية من حَوَلِ الأيديولوجيا، أو مكاسب وأرباح الحزب أو المنظمة أو السلطة([4])، لكن الشاعر يعلن في أكثر من مناسبة انتماءه إلى الحضارة الإسلامية، حيث يقول: "أنا ابن بيئة عربية وربيب حضارة إسلامية، وفي وجداني من آثارها فيض لا يغيض"([5])، وهو يعتز بهذه الحضارة التي يرى أنها ذات فضل على الدنيا ولا سابقة لها في الاستجداء، وهو يعبر في شعره عن هذا التصور من خلال توظيفه لنصوص التراث الإسلامي، وعلى رأسها النص القرآني الذي يمثل في وجدانه المثل الأعلى في البلاغة، والمنهاج الأسمى للحياة([6])، وهو يميل إلى صف الحركات الإسلامية المضطهدة في العالم العربي ويدافع عنها في الكثير من قصائده([7]).

    وتبدو نفسية أحمد مطر من خلال شعره مفعمة بالحزن والأسى، لكنه بطبيعته الساخرة يمزج السخرية بالحزن، وهو يرى أن سخريته غير مستغربة، ذلك أنه من خلال استقرائه لواقع شرائح المجتمع وجد أن من يحسنون السخرية والإضحاك هم أكثر الناس امتلاءً بالحزن، فضحكه ضحك مر من شدة البكاء([8])، ويتميز أحمد مطر بشجاعة نادرة يفسرها بهستيريا الحرب، التي تعتري أجبن الناس في ميادين القتال، فطول معاشرته للخوف جعله داجناً بالنسبة إليه، يتجاهل وجوده ويسخر منه([9])، بالإضافة إلى قناعته بمرارة الواقع الذي لا يعدو عن كونه نوعاً بشعاً من أنواع الموت، لذلك فإنه يختار أن يموت واقفاً ميتة نقية، لا كما يموت الآلاف يومياً ميتة قذرة، هي ميتة الإذعان والصمت([10])، فالشاعر بهذا الحزن والشجاعة يمثل شخصية قلقة متمردة على الواقع، انفصلت عنه ولم تنزوِ في وهدة الهروب والرومانسية، بل راحت تحاكمه بعنف موازٍ لعنفه، نابع من إحساس عميق ببشاعته، وهي ثورة تحمل في ثناياها الأمل الحي المتواصل، الذي لا يدل علي وجوده أكثر من هذا التواصل الشعري الغزير الذي، راح الشاعر يجسده أطناناً من الأفكار والقصائد المتفجرة، التي يصطدم بها يومياً بالقصور الظالمة، فالشاعر لا يعرف اليأس، ولو عرفه لصمت عن تسجيل قصائده ونشرها، وهو يعد أن لا يكون ذلك إلا في قمة إيجابية الثورة من خلال كتابة قصيدته الأخيرة بشاحنة ملغومة([11]).

    وعلى الرغم من أن الشاعر قد تعثر في دراسته؛ إلا إنه شيد لنفسه مدينة من الكتب، راح يجوب في أزقتها هارباً من الواقع المرير، وقد شكلت هذه الكتب ثقافته الأولى لتندمج مع عدة مكونات ثقافية، منها البيئة الطبيعية الغنية بجمالها، الفقيرة بسكانها البؤساء، والواقع السياسي المرير الذي تتخبط فيه القوى الجاهلة.

    وقد ساهم في تشكيل ثقافته ولعه بالنصوص المسرحية والتمثيل المسرحي، واشتغاله في الصحافة([12])، وممارسته لكتابة القصة القصيرة، التي تظهر شروطها قائمة في العديد من قصائده، بالإضافة إلى ممارسته لرسم الكاريكاتير، الذي مارسه من خلال عمله في الصحافة، ثم تركه فترة من الزمن، ليختبئ في أعماقه، ويضع بصماته على قصائده([13])، ومن الجدير بالذكر أن الشاعر ـ وإن لم يعلن عن ذلك صراحة ـ قد عاد إلي ممارسة هذا الفن، إذ إن العديد من لوحاته ورسوماته تحمل تعليقات علي أحداث سياسية ووقائع عربية حديثة العهد .

    وتبدو ثقافة الشاعر عريضة واسعة من خلال غزارة إنتاجه الشعري وخصوبته، وهو قد قرأ للعديد من الشعراء القدامى، ومنهم الحسن بن حبيب النيسابوري([14])، والمتنبي، والمعري، وأبو تمام، وأبو فراس الحمداني، كما أنه قرأ للعديد من الشعراء العرب المحدثين، مثل: أدونيس، والبياتي، وهو يرى أن الشعر العربي الحديث لم يفقد روح الإبداع والتواصل مع الجماهير، طالما وجد الناس شعراء مثل نزار قباني، والجواهري، وبدوي الجبل، والسياب، وأمل دنقل، والبردوني، وأحمد عبد المعطي حجازي، ومظفر النواب([15])، ويُلاحظ أنه قد عدد شعراء المقاومة والحرية، الذين تنسجم معطيات قصائدهم مع الروح التي يحملها مطر بين جنبيه، ويؤججها بين ثنايا قصائده، ويبين أن الشعر لم يفقد مكانته بوجود شعراء عالميين محدثين مثل: "شيركو بيكه س" الكردي، و"رسول حمزاتوف" الداغستاني، و"بابلو نيرودا" الأمريكي اللاتيني، و"رابندرات طاغور" الهندي، و"بوريس باسترناك" الروسي([16])، فهم شعراء عظام تذوق أحمد مطر جماليات شعرهم النابضة بقضايا الإنسان والحرية، وتمثلها في وجدانه من خلال تجربته الخاصة التي تتفق مع الكثير من جوانب تجارب هؤلاء، ومضى ليقف بين صفوفهم شاعراً عالمياً ينحت اسمه بروعة الفن، وشعلة البذل والعطاء والتضحية، وقد قرأ الشاعر للكاتب السوري الساخر "زكريا تامر" الذي ينقد الواقع بسخرية مريرة لاذعة، تذكرنا بسخرية أحمد مطر ومرارة كلماته ومعانيه([17]).

    وقد ارتبط الشاعر منذ بواكير حياته بواقع الشعب والأمة، حيث كانت القضية السياسية في سلم أولوياته، ومن ثم القضية الاجتماعية، فهو يكتب للجماهير والوطن العربي علي امتداده، وللثورة وحركات التغيير الصادقة، التي تنخرط فيها جموع الفقراء والمضطهدين، ويخاطب السلطة علي أساس أن الشاعر سلطة فوق كل سلطة، فهو ضمير الأمة، والبوصلة الدقيقة الحساسة التي تشير إلى حقيقة الاتجاهات، مهما اختلفت الفصول، وتغيرت الأنواء، ولا قانون يحكمه؛ إلا ما يحكم حركة مؤشر البوصلة من قوانين، وهو يدرك أن هذا الفهم لا وجود له عند السلطة وعند معظم الشعراء، وأنه يندرج ضمن أقلية تدفع ثمن هذا الفهم الصحيح الذي ينبغي أن يكون([18])، ولهذا فإن أحمد مطر هو ثمرة الغضب الساطع في وجدان الأمة، وهو مدفوع إلى الإبداع رغماً عنه، حيث إن الأشعار ـ كما يقول ـ هي التي تكتبه، وليس هو الذي يكتب الأشعار:

 

                   أنا لا أكتب الأشعار

                   فالأشعار تكتبني

                   أريد الصمت كي أحيا

                   ولكن الذي ألقاه ينطقني([19])

 

    ولذلك فإن الشاعر قد يجلس شهوراً لا ينشر بيتاً واحداً، نتيجةً لهدوء رياح السياسة في العالم العربي، وعندما تشتد رياح هذه السياسة، ينشر في كل يوم قصيدة، فهو كما يقول شاكر النابلسي ميزان حرارة للواقع العربي السياسي والنضالي([20]).

    وهذا الارتباط الوثيق بين الشاعر وواقعه قد جعله يخرج من بيته وقريته مطارداً، لا يعرف الكلل والصمت، حتى تستطيع مظاهرته، ولافتاته المشرعة المساهمة في إسقاط الحكام، حينئذ سيقرر العودة إلي البيت والاستراحة، والتنعم بالأمن والطمأنينة، وفي ظل الواقع الجديد، ستتغير أشياء كثيرة منها طبيعة شعره، وقد تفيض عند ذلك وجدانياته الثرة المخبوءة، ولا تتوقف عن العطاء والتدفق إلا في حالة ظهور طاغوت جديد، فيخرج من جديد للعمل على إسقاطه والتخلص منه([21]).

    وقد انعكس ارتباط الشاعر بواقعه على شخصيته الفنية، حيث يرى بعض النقاد، ومنهم شاكر النابلسي أن أحمد مطر قد تخلى عن ذاتيته ليتحلل ذاتياً في شخصية الوطن ، فأصبح الشاعر هو الوطن، وليس الشاعر الذي ينطق باسم الوطن، أو يعبر علي لسان الوطن! فشخصية أحمد مطر مختفية تماماً من شعره، على عكس كل الشعراء السياسيين العرب، الذين يُبرزون شخصياتهم بوضوح وتأكيد من خلال أشعارهم([22])، لكن هذا التصور ـ علي صدقه ـ فيه نوع من الظلم لشخصية الشاعر الفنية ومشاعره الذاتية، إذ إن قصائد الشاعر فيها أجزاء كبيرة من ذاته تماثلت مع ذوات الآخرين من أبناء أمته، فقصائده تنم عن معاناة ذاتية حادة وهم كبير يحمله علي كتفيه([23])، حيث تحولت قضيته الخاصة والقضية العامة من خلال التفاعل بينهما في بوتقة الانصهار إلى قضية شخصية وشعرية، ولولا هذا التفاعل والتحول كما يرى النقاد لتحطم البناء الشعري من أساسه، وأصبح مجموعة من الأنقاض: "هتافات وتقارير وأخبار"، إذ إن الشاعر من خلال هذه الذات الشعرية الناتجة من التفاعل؛ ضخ في ثنايا قصائده أقوى معاني الحياة والتفرد، فالقصيدة ليست قطباً واحداً ينطلق من الذات أو من الجماعة إلى الجماعة، بل تتضمن قطبين اثنين، بحيث تنطلق من الذات إلى الجماعة ، وإن كانت الجماعة في الأصل هي التي تغذي الذات، شاءت الذات ذلك أم أبت([24])، وقد بلور الشاعر هذا الفهم بشكل واضح في إجابته التي بين فيها أن قصائده هي صورة من معاناته وأفكاره الخاصة التي انفعل بها وصاغها، حيث يتساءل بدهشة: "لكن.. من أين جاءتني هذه المعاناة ؟ وكيف تكونت هذه الأفكار؟ أليس بسبب كوني سمكة في هذا البحر العاصف ؟"([25])، كما أن الشاعر وإن عبر بقصائده عن حال أمته إلا إنه لم يندمج في شخصيتها بشكل متكامل، بل راح يحاكم هذه الأمة ويحاسبها، وجعل من نفسه طرفاً آخر يقف إزاءها، يسخر منها ويحاورها وينتقدها ويعري مفاهيمها، ونصب نفسه ضميراً داخلياً متمرداً عليها، لا لساناً ناطقاً خاضعاً لتصرفاتها([26]).

 

بيئة الشاعر

    البيئة هي الزمان الذي يُولد فيه الشخص ويعيش فيه، والمكان الذي ينشأ في رحابه والمجتمع الذي يتفاعل معه، وتتداخل هذه العناصر الثلاثة في بعضها، وتتسع لكل مكان ومجتمع قد يتنقل الشاعر في خلال حياته إليه([27])، ويتسع مفهوم البيئة للظروف التي تصادف الشاعر، سواءً كانت مواتية من خلال التشجيع وتوافر الحرية المطلوبة للإبداع، أو كانت غير مواتية من خلال رفض الإبداع وكبت الحرية([28])، ذلك أن الإبداع لا ينشط في بيئة الجمال وواقع الحرية فقط، بل إن النشاط الإبداعي غالباً ما يستمد مادته من خلال أشد الظروف البيئية قسوة، حيث يصبح الشاعر كمن ينتقم من هذا الواقع الكئيب([29])، ويندفع إلى تأكيد ذاته بالفن، والتفتيش عن أشكال تعبيرية جديدة في رغبة عارمة بالحرية([30]).

    وقد بدا تأثير البيئة واضحاً في قصائد أحمد مطر، ولهذا كان لابد من تسليط الضوء قدر الإمكان علي هذه البيئة بشقيها المتكاملين، الخاص والعام.

البيئة الخاصة

    وُلد أحمد مطر عام 1956([31])، ابناً رابعاً لأسرة فقيرة، تتكون من عشرة أخوة من البنين

والبنات، في قرية "التنومة" إحدى نواحي (شط العرب) في البصرة([32])، وهي كما يصورها تنضج بساطة ورقة، وطيبة، وفقراً، مطرزة بالأنهار والجداول وبيوت الطين والقصب، والبساتين، وأشجار النخيل التي لا تكتفي بالإحاطة بالقرية، بل تقتحم بيوتها،  وتدلي سعفها الأخضر واليابس ظلالاً ومراوح، وقد عاش طفولته بالقرب من "بستان صفية"، و "نهر الشعيبي"، وغابات نخيل "كرولان"، التي تشكل أهم عناصر القرية في وجدانه([33])، ثم انتقل في صباه عبر النهر ليقيم في محلة الأصمعي([34]).

    وتتميز البصرة بغابات النخيل الواسعة، التي تُقدر بثلاثة وثلاثين مليون نخلة، وتحتوي المدينة علي مصانع تعليب التمور الصالحة للتصدير، وقراها ذات مظهر فقير، يعتمد سكانها في الغالب علي صيد الأسماك وزراعة الرز، ويعيشون في بيوت من قصب المستنقعات، ويربون الجاموس([35]).

    وقد أمضى الشاعر طفولته وصباه في أحضان الفقر المدقع والحرمان والتعثر بالدراسة، فلجأ إلى مطالعة الكتب ليهرب من مطاردة الفاقة والإرهاب، ويُكون من خلالها سلاح الكتابة والإبداع دفاعاً عن نفسه([36])، وفي سن الرابعة عشر في أوائل السبعينات بدأ يكتب الشعر([37])، ولم تخرج قصائده الأولى عن نطاق الغزل، والرومانسية والهيام والدموع والأرق، لكنه سرعان ما تكشفت له خفايا الصراع بين السلطة والشعب([38])، من خلال عيون الناس وأحاديثهم والصحف والكتب والإذاعة والتلفزيون([39])، ومن خلال ما يراه من رقابة المخبرين ورصدهم لكل صغيرة وكبيرة، فالمخبر في العالم كله سري إلا في العالم العربي، يصفه أحمد مطر في إحدى الأمسيات الشعرية، كما كان يراه، جالساً في المقهى في حلكة الليل، واضعاً علي عينيه نظارة شمسية سوداء، ومُظهراً مقبض مسدسه من فتحة السترة، ومغرقاً وجهه في الصحيفة، متواجداً في كل يوم، يتقدم من المواطن واضعاً سيجارته بين شفتيه قائلاً بكبرياء: " عندك ولعة؟"، وعندما يتنهد المواطن المهموم قائلاً: "عندي لوعة"، يهب لتأدية واجبه، فيقبض عليه بتهمة شتم الحكومة، وعندما يسأله المواطن:" وبأي صفة تقبض علي؟"، يبتسم ابتسامة صفراء، ويقول :"أنا شرطي سري!"، وقد اكتشف الشاعر مرارة الواقع من خلال ما عاينه من مرارة التحقيق، وقسوة التعذيب في زنازين المعتقل، الذي ينتهي عادة باعتذار عن الخطأ غير المقصود([40]).

    ولذلك ما كان من الشاعر إلا أن ألقى بنفسه في فترة مبكرة من عمره في دائرة النار، حيث لم تطاوعه نفسه على الصمت، ولا على ارتداء ثياب العرس في المأتم([41])، فدخل المعترك السياسي من خلال مشاركته في الاحتفالات العامة بإلقاء قصائده من علي المنصة، وقد كانت هذه القصائد في بداياتها طويلة، تصل إلى أكثر من مائة بيت، مشحونة بقوة عالية من التحريض، تنتقل من موضوع إلى آخر، تتمحور حول موقف المواطن من سلطة لا تتركه ليعيش([42])، وقد دفع الشاعر ثمن هذا الموقف من خلال مساءلته والتحقيق معه، مما قاده في النهاية إلي الكويت هارباً من مطاردة السلطة.

    وقد لجأ الشاعر إلي الكويت في فترة مبكرة من عمره، وهناك واجه حياة اللاجئ، الذي لا يسهل عليه أن يثبت هويته، فقد عاش هناك عدة سنوات لا يستطيع الحصول علي رخصة القيادة، لأنه يرفض التنازل عن مواقف مبدئية كثمن للحصول على حقه الطبيعي في الحصول علي أوراق رسمية تثبت هويته، وتُسهل عليه الحصول على رخصة القيادة، ولذلك راح يسير علي قدميه في بلد يمكن لأفقر كادح فيه أن يمتلك سيارة، وقد عاش في بيت متواضع يكلفه إيجاره نصف مرتبه في بلد القصور والعمارات الفارهة([43]).

    ثم راح يعمل في جريدة "القبس" الكويتية محرراً أدبياً وثقافياً([44])، حيث مضى يدون قصائده، التي أخذ نفسه بالشدة من أجل ألا تتعدى موضوعاً واحداً، وإن جاءت القصيدة في بيت واحد([45])، وراح يكتنز هذه القصائد، وكأنه يدون يومياته في مفكرته الشخصية، لكن سرعان ما أخذت قصائده طريقها من المفكرة إلي النشر الصحفي، حيث كانت (القبس) الثغرة التي أخرج الشاعر منها رأسه، وباركت انطلاقته الشعرية الانتحارية، وسجلت دون خوف لافتاته الشعرية، وساهمت في نشرها بين القراء([46]).

    وفي رحاب (القبس) عمل الشاعر مع ناجي العلي، ليجد كل منهما في الآخر توافقاً نفسياً واضحاً، فقد كان كل منهما يعرف غيباً أن الآخر يكره ما يكره، ويحب ما يحب، وأن ما يثير غضبه يثير غضب صديقه، وكثيراً ما كانا يتفقان في التعبير عن قضية واحدة دون اتفاق مسبق، إذ إن الروابط بينهما تقوم علي الصدق والعفوية والبراءة وحدة الشعور بالمأساة، ورؤية الأشياء بعين مجردة صافية، بعيدة عن مزالق الأيدلوجيا، أو مكاسب وأرباح الأحزاب، أو المنظمات أو السلطة، وقد كان أحمد مطر يبدأ الجريدة بلافتة من لافتاته في الصفحة الأولى، ويختمها ناجي العلي بلوحة من رسوماته في الصفحة الأخيرة، وقد ترافق الاثنان من منفى إلى منفى، وفي لندن (جهنم الباردة) فقد أحمد مطر صديقه رسام الكاريكاتير، ليظل بعده نصف ميت، وعزاؤه أن ناجي مازال معه نصف حي لينتقم من قوى الشر بقلمه وريشته([47]).

    وتتكرر مأساة الشاعر في الكويت، فلهجته الصادقة، وكلماته الحادة لا تُرضي السلطات، ولافتاته الصريحة تؤدي به في النتيجة إلي النفي والإبعاد([48]).

    وينتقل الشاعر في مطلع عام 1986 إلى لندن، ليعمل هناك في مكاتب "القبس" الدولي، ويسافر منها إلى تونس، ويُجري اتصالات كثيرة بعدد من الكتاب التونسيين([49])، لكنه يستقر في لندن، ليُمضي الأعوام الطويلة، بعيداً عن الوطن مسافة أميال وأميال، قريباً منه على مرمى حجر، ينزف شعراً كلما نبض الوطن العربي، ويختلج فؤاده، في صراع مع الحنين والمرض، مرسخاً حروف وصيته في كل لافتة يرفعها، مستعداً لكل صنوف الاستشهاد، بينما يتابعه محبوه من أرجاء الوطن العربي المتباعدة شرقاً وغرباً، داعين الله أن يحفظه ليمتد عمره وعطاؤه حتى يري حلمه في الكرامة والحرية يتجسد علي أرض الواقع.

               

([1]) غنيم، الرابطة، 18.

([2]) ـ النقاش؛ رجاء، شاعر جديد يلفت الأنظار، مجلة (المصور)، 1987 ـ مطر؛ شريط كاسيت: لافتات.

([3]) حسن؛ عبد الرحيم، لقاء مع أحمد مطر، العالم، عدد 185، لندن، 29 أغسطس 1987، 54.

([4]) (مطر؛  أحمد)، لقاء: الحرية هي الحاضنة الطبيعية للإبداع، الجزيرة العربية، العدد 30، يوليو 1993، 41.

([5]) معلا؛ ابتسام، أحمد مطر.. شاعر للحزن والوطن والثورة، جريدة "الخليج"، الإمارات العربية، 4 يونيو1988.

([6]) (مطر؛ أحمد)، لقاء، مجلة "الأديب" الطلابية، الكويت، جمعية اللغة العربية بجامعة الكويت، العدد 1، إبريل 1985،19.

([7]) من ذلك علي سبيل المثال: (لافتات 2: 156)، (لافتات 3: 65)، (لافتات 5: 75، 143).

([8]) مطر، العالم، العدد 185، 53.

([9]) (مطر؛ أحمد)، لقاء، الوطن العربي، السنة التاسعة، العدد 431، الكويت، مايو 1985، 54.

([10]) بن رجب؛ محمد، لقاء، جريدة (الصباح)، تونس، 11/12/86.

([11]) مطر، الوطن العربي، عدد 431، 54.

([12]) السابق، 54.

([13]) مطر، العالم، عدد 185، 53.

([14]) السابق 54.

([15]) مطر؛ أحمد، الشعر بين طاووس وغراب، مجلة "الناقد"، العدد 6، لندن، ديسمبر 88، (51 ـ 52).

([16]) السابق، 52.

([17]) السابق، 52.

([18]) مطر، العالم، عدد 185، 53.

([19]) لافتات 1، 90.

([20]) النابلسي؛ شاكر، رغيف النار والحنطة، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، د.ت، 249.

([21]) مطر، العالم، عدد 185، 53.

([22]) النابلسي، رغيف النار والحنطة، 240.

([23]) ينظر: ـ ثابت؛ أنور، دوري ذكي يلاحق الصياد ليقتنصه، الإمارات العربية، جريدة (الخليج)، 23ـ 11ـ87.

           ـ أبو حمدان؛ سمير، صوت آت من مفازات الصحراء، (القبس)، الكويت، 16/2/85.

          ـ مصباح؛ منيرة، لافتات أحمد مطر: نظرة نقدية، جريدة (الرأي العام)، 6/1/85.

([24]) ساعي، حركة الشعر، (387 ـ 389).

([25]) مطر، الجزيرة العربية، 41.

([26]) يُنظر: عبد الحميد؛ عبد الغفور، الالتزام في شعر أحمد مطر، (الإصلاح الثقافي)، المغرب، 17 مارس 1989، 4.

([27]) يُنظر: الشايب؛ أحمد، أصول النقد الأدبي، القاهرة، مكتبة النهضة المصرية، ط 8، 1973، 83 وما بعدها.

([28]) البسيوني، العملية، 20.

([29]) إسماعيل، جدلية، 137.

([30]) عكام؛ فهد، من قضايا الإبداع في التراث، مجلة فصول، مجاد 10، عدد(1، 2)، 50.

([31]) يُنظر: ـ غنيم، الرابطة، 18.  ـ بكري؛ حامد، الحكاية في أدب فاسكو بوبا وأحمد مطر، جريدة (الأحداث)، لندن، 26 يوليو 1988.

([32]) غنيم، الرابطة، 18.

([33]) مطر، العالم، لندن، 52.

([34]) غنيم، الرابطة، 18.

([35]) يُنظر: حميدة؛ د.عبد الرحمن، جغرافية الوطن العربي، دمشق، دار الفكر، ط 1، 1990، 330.

([36]) غنيم، الرابطة، 19.

([37]) حسن؛ عبد الرحيم، مظاهرة صاخبة يسير فيها رجل واحد، مجلة (العالم) ، لندن، 29/8/1992، 54.

([38]) مطر، العالم، 52.

([39])مطر، "الوطن العربي"، الكويت، 55.

([40]) مطر؛ أحمد، شريط كاسيت: لافتات، عمان: مكتبة وتسجيلات دار الأرقم، هاتف: (622478)، ص.ب: (926287)، (د. ت).

([41]) مطر، العالم، 52.

([42]) السابق، 52.

([43]) مطر، الوطن العربي، 55.

([44]) السابق، 54.

([45]) مطر، العالم، 52.

([46]) مطر، الوطن العربي، 54.

([47]) مطر، (الجزيرة العربية)، 41.

([48]) باب كتب (دون اسم الكاتب)، مجلة (العالم)، العدد 99، لندن، يناير 1986، 50.

([49]) بن رجب، جريدة "الصباح"، تونس، 11/12/86.