الروائي الجزائري الطاهر وطار
الروائي الجزائري الطاهر وطار:
راهب في «دير الجاحظ»
الروائي الجزائري الطاهر وطار |
الخير شوار-الجزائر |
في إحدى بنايات شارع يحمل اسم الكاتب الجزائري الشهيد أحمد رضا حوحو، الذي يتقاطع مع شارع فيكتور هيغو، يجلس الروائي الطاهر وطار، في «مقام»، «يحج» إليه الناس من كل فج، وهو الكاتب الذي اتخذ له مزارا إلكترونيا منذ سنين زيادة على مزاره الواقعي في ذلك «الدير الثقافي»، الذي يسمى «الجاحظية».
بجانب ما يسميه الطاهر وطار «الوكر الثقافي»، وغير بعيد عن مكتبة الشاعر الذي اغتيل في ظروف غامضة منتصف تسعينيات القرن الماضي يوسف سبتي (وهو بالمناسبة بطل رواية وطار «الشمعة والدهاليز») يجلس الطاهر وطار الذي يحب أن يناديه الناس بـ«عمي الطاهر» بعيدا عن ألقاب الأستاذية المعروفة التي لا يحبها، في ما يشبه الطالون اليومي الذي يبتدئ في ساعة مبكرة من الصباح وينتهي مساء ليمتطي سيارته الصغيرة ويسوقها بخفة الشباب قاصدا بيته قرب أعالي حي حيدرة، وقبل ذلك يناقش مختلف القضايا السياسية والاجتماعية والتاريخية، وحتى الأسطورية مع جلسائه الذين يأتون إليه من الجزائر وخارجها، حتى أصبح «ديره» من الأماكن التي تشد إليها الرحال عند زيارة أي فنان أو كاتب إلى مدينة الجزائر، وفي مقامه ذاك، يناقش عمي الطاهر آخر الكتب التي قرأها، ويحاول أن يشرك جلسائه في القراءات التي تمتع بها، لكنه يقرأ الرواية والقصة بطريقته الخاصة، طريقة قارئ محترف، ويستعيد رواية قرأها منذ مدة طويلة لكاتب عربي معروف، تدور أحداثها في قطار، ثم يتساءل: ماذا لو استبدلنا القطار ذاك ببيت مغلق مثلا أو حتى مغارة؟، ليجيب بألا شيء سيتغيّر في صيرورة الأحداث، ومن هنا يحكم بفشل ذلك العمل الروائي الذي لا يستحق حسب رأيه القراءة، ثم يذكر ذلك الكتاب الذي قرأه في شبابه الأول، دون أن يحتفظ بعنوانه ولا حتى باسم مؤلفه، لكنه يذكر بأنه مترجم عن الانكليزية لكاتب أمريكي، وفحواه البناء الملحمي للأحداث الروائية، فذلك الكتاب الذي نسي من أمره كل شيء تقربا إلا واحدا هو «البناء الملحمي للأحداث الروائية»، وفق ما يسميه «المقدمة المنطقية» التي تتمخض عنها نهاية منسجمة مع تلك المقدمة على أن تكون مدهشة وغير متوقعة مع أنها «منطقية»، وهذا التناقض هو الذي يفرز في النهاية الكاتب الحقيقي من غيره، وهي الزاوية التي يناقش من خلالها عمنا الطاهر و»يحاكم» النصوص الكثيرة التي ترد إليه، بل ومن خلالها يحكم على نصوص عربية لكتّاب معروفين بالفشل ويخرجها من زمرة الكتابات الروائية الحقيقية.
وطار المقيم في «دير الجاحظ» ذاك، الذي حوله من مخزن قديم للمواد الغذائية أيام «النظام الاشتراكي» المنهار في الجزائر بعد سقوط المعسكر السوفياتي، إلى مؤسسة ثقافية فاعلة، بكل ما لها وما عليها، الذي عرفه العالم العربي والعالم أجمع منذ بداية سبعينيات القرن العشرين بروايته القنبلة «اللاز» لم يتوقف عند ذلك النص المثير للجدل الذي تناول بجرأة مسألة التصفيات الجسدية داخل الثورة الجزائرية التحريرية نفسها من خلال شخصية زيدان الذي هو نفسه المناضل الشيوعي العيد العمراني الذي ذبحه بعض رفقائه في الثورة التحريرية سنة 1958 للميلاد، وظل «يقتبس» شخصيات رواياته المختلفة من أشخاص عرفهم في الواقع لكنه لا يأخذ من تلك الشخصيات الواقعية إلا بالمقدار الذي يحتاجه في البناء الدرامي للرواية ومن أشهر الشخصيات الواقعية التي أخذها منها وطار في شخصياته الورقية الشاعر الجزائري المغتال يوسف سبتي الذي كان نائبا له في رئاسة جمعية الجاحظية، وهو نفسه الشاعر في رواية «الشمعة والدهاليز»، والرئيس السابق للجبهة الإسلامية للإنقاذ الراحل عبد القادر حشاني وهو نفسه «عمار بن ياسر» في الرواية نفسها، والراحل عبد المجيد حيرش الذي سمّاه «عبد المجيد بولرواح» في رواية «الزلزال»، وصحفي قناة الجزيرة ومدير مكتبها حاليا في واشنطن عبد الرحيم فقراء الذي تعدد في رواية «الولي الطاهر يرفع يديه بالدعاء»، وهو بالمقابل ناشط ثقافي ولم يبدأ صالوناته اليومية التلقائية مع الجاحظية الجمعية التي جاءت كإحدى ثمار التعددية بعد أحداث الخامس من أكتوبر 1988م، بل كان يقيم لقاءات مماثلة قبل ذلك في بيته زمن الحزب الواحد، لكنه يضطر مرة في السنة لمغادر ذلك الصالون ليعتكف عند شاطئ «بن حسين» في منطقة شنوة بالضاحية الغربية للجزائر العاصمة (ولاية تيبارة)، ليفرغ النصوص التي يبنيها في رأسه لمدة سنة كاملة وفي العادة يكمل كتابة رواية في مدة عشرة أيام، وهناك في منطقة شنوة جلس قبل سنتين يتأمل ذاته في تحولاتها منذ أن كان طفلا صغيرا في بادية معزولة في ثلاثينيات القرن العشرين وخرج للناس بكتاب «أراه» وقد رأى نفسه مثلما لم يره أحد من الناس حتى أقرب مقربيه، وكتب عن ذكريات وقصص حب طفولية لم يكتب عنها ولم يستلهم منها شيئا في كل نصوصه الروائية، ومعنى هذا فإن في داخل قريحة عمي الطاهر الكثير من المناطق العذراء التي لم تستثمر روائيا، وفي سن الثالثة والسبعين.