حسين مجيب المصري عميد الأدب الشرقي المقارن
حسين مجيب المصري
عميد الأدب الشرقي المقارن
د. نعيم محمد عبد الغني
الدكتور حسين مجيب المصري (1919م -2004) الملقب بعميد الأدب الشرقي والإسلامي المقارن شخصية عجيبة بكل المقاييس؛ فلقد أتقن الرجل تسع لغات وكتب بها الشعر والنثر ونظر من خلالها للتجارب الشعرية نظرة مقارنة؛ لمحاولة استجلاء تلك النفس التي تنبجس منها المشاعر والأحاسيس؛ فتتفجر ينابيع الحكمة شعرا رقيقا يأخذ بالألباب.
والدكتور المصري شغف بطلب العلم من المهد إلى اللحد حتى فقد بصره أثناء إعداده لنيل درجة الدكتوراه في الأدب التركي؛ لتتجلى بعض صفاته العظيمة في هذا الموطن؛ حيث إنه رغم فقد بصره إلا أنه أول عربي يقدم أول رسالة للمكتبة العربية في الأدب التركي، وقد قدرت ذلك تركيا فمنحته أعلى وسام ثقافي عام 1997، إلى غير ذلك من الجوائز والأوسمة التي حصل عليها من مصر وباكستان وإيران.
إن فقد هذا العالم لبصره لم يكن حاجزا لأن يتوقف عند الدكتوراه ويأخذ بها مكانا في الجامعة يسترزق بسببه ويدرس لطلبته ما تعلمه في سني عمره الماضية دون أن يضيف للعلم جديداً كما يفعل كثيرون من الذين يحصلون على درجات علمية لينالوا بها وظائف تكون غاية يقفون عندها ولا يتقدمون بعدها قيد أنملة، بل نرى الدكتور المصري يقدم بعد فقد بصره ستين كتابا في الأدب الإسلامي المقارن، ما بين شعر ونثر ودراسات يصعب الحصول على مادة علمية لها.
وأثناء قراءة مؤلفات الدكتور المصري تحس بمقدار التعب الذي يبذله الرجل فهو يتجول في مكتبات العالم خاصة تركيا ويصور تلك المخطوطات ويترجم ما بها من أدب ويؤلف حولها كتبا لم تعرف لها المكتبة العربية مثيلا؛ فيكتب مثلا كتابا عن أبي أيوب الأنصاري يجمع فيه كل شاردة وواردة عن الرجل في العربية والتركية، ويكتب كتابا عن المسجد عند الشعوب الشرقية فيجمع ما كتب عنه في العربية والتركية والأوردية والفارسية من شعر قديم وحديث، وكل الشعر الأجنبي المستشهد به من ترجمته، وينقل للقارئ الأصل الأجنبي في الهامش كما هو بل تبلغ به علو الهمة أن يصوغ هذا الشعر المترجم شعرا عربيا في ترجمة رشيقة تحافظ على الأوزان العربية ولا تخل بمعنى النص الأصلي وتلك مقدرة عجيبة لا يؤتاها أي أحد.
وهذا هو منهج الدكتور المصري العام في مؤلفاته، المتمثل في جمع كل ما يتصل بالمسألة في مظانها العربية والأجنبية، وإثبات الأصول الأجنبية في الهامش، وأمانة التوثيق، وإن كان ذلك قد جعله يخرج عن إطار القضية التي كان يعالجها في بعض الأحيان، فمثلا عندما يتحدث في كتابه عن غزوات الرسول بين الشعراء العرب والفرس والأتراك يأتي بكل شاردة وواردة عن الغزوة في السيرة النبوية ويفعل ثم ينتقل إلى الحديث عن الأدب العربي والفارسي والتركي، وهذا من وجهة نظري قد يرهق القارئ، فلو كان رحمه الله تكلم عن الخلفية التاريخية باقتضاب؛ لأنها أمر كثر الحديث عنه ثم ينتقل إلى الشق الذي نعرفه من الآداب العالمية لكان أولى.
ومن منهج الدكتور المصري أنه كان ينقد ما أمامه نقدا موضوعيا بمعايير واضحة محددة، فكان يأتي بقصيدة تركية مثلا ويصفها بالضعف، ويعلل أسباب الضعف طبقا لمعاير الشعر التركي، ويأتي بالشعر الذي يصفه بالحسن ويحلل ما فيه من جمال الشكل والمضمون، وهكذا يفعل في كل الشواهد التي يأتي بها.
إن الدكتور المصري الذي ألف ستين كتابا، وذكرنا بعض ملامح منهجه في التأليف حينما تراه بعد أن وهن عظمه وكف بصره واحدودب ظهره، ونحل جسده، تدرك أن قوة روح الرجل العلمية كانت تفوق هذا الجسد الضعيف مرات ومرات وهكذا العظماء، فكما يقول المتنبي:
وإذا النفوس كانت كبارا....تعبت في مرادها الأجسام
لقد عرفت الدكتور المصري من خلال حوار في إذاعة القرآن الكريم القاهرية الذي أجراه معه الإذاعي القدير محمود خليل عام 1994، فأثرت تلك الشخصية في نفسي أثرا بالغا، وتمنيت رؤيتها لأقف على بعض جوانب عظمتها.
ودارت الأيام ورحلت إلى القاهرة دارسا ومتعلما، وقد علقت في ذهني هذه الشخصية بعظمتها، وازداد ولعي بها عندما درست اللغة الفارسية في دار العلوم، وما بها من شعر تشابه أوزانه أوزان العربية خاصة في البحور البسيطة كالمتدارك والمتقارب؛ فإتقان عدد من اللغات أمر لا يطيقه إلا أولو العزم من المواهب النادرة. ومن ثم ازدادت رغبتي في لقاء الرجل، ولكن ذلك كان صعبا في القاهرة التي يكثر سكانها، ويصعب الوصول إلى شخص فيها.
ولم أكن أتوقع أن يسارع ربي في هواي لأجد الرجل أمام عيني متحدثا في رابطة الأدب الإسلامي العالمية التي كنت أواظب على ندواتها الأسبوعية، وكانت تستقطب كبار الأدباء والنقاد في العالم العربي، وازداد سروري بهذه الندوة التي لم أحسن توثيقها للتاريخ بتسجيل سيكون نادرا بطبيعة الحال.
ولكن عزائي أني ما زلت أذكر كثيرا من تفاصيل الندوة التي لم تكن كثيفة الحضور وبدأت في السادسة تقريبا من ليالي شهر نوفمبر من عام 2001، وكان الدكتور المصري واسطة العقد في الحفل، فبدأ مدير مكتب القاهرة الدكتور عبد المنعم يونس الحفل الذي ترأسه، وقدم الدكتور المصري تقديما مقتضبا، واعتذر عن رغبته في الاختصار في الكلام حتى يفسح المجال للعالم الكبير فالجميع في شوق لسماعه، ثم بدأ الدكتور المصري بقصيدة من شعره حيا فيها الحضور تحية ذكر فيها أنه قضى حياته في خدمة اللغة والأدب ويبتغي بذلك نفع الناس والثواب العظيم من الله، ذاكرا أن بصره ذهب لهذه الغاية، ثم بكى الرجل.
وتكلم بعدها عن سيرته الذاتية وكيفية إتقانه للغات الشرقية بجانب إتقانه للفرنسية والإنجليزية، وبين أنه كتب بكل اللغات التي عرفها شعرا، وأنه أول من كتب عن محمد إقبال، ودعى الشباب إلى الجدية في العمل، ودراسة اللغات الأخرى لكي يفيدوا الأدب الإسلامي بالدراسات المقارنة الأصيلة، ثم كانت تعقيبات الحضور التي بدأت بكلمة للدكتور عبد الحليم عويس أستاذ التاريخ الإسلامي الذي قال: إننا بسماعنا سيرة هذا العملاق نحتقر أنفسنا، أمام هذه العزيمة، أما الدكتور جابر قميحة فعقب على الدكتور المصري باستعراض بعض جهوده في الأدب الإسلامي، وقال: إنه رائد ينبغي أن يستفيد منه أبناؤنا من طلاب الدراسات الأدبية، وتحدث الأستاذ محمود خليل المذيع بإذاعة القرآن الكريم فبين أنه لم يكن يعرف الرجل إلا عندما قرأ عنه في إحدى المجلات، مما دفعه لأن يتواصل معه، ثم تحدث عن الجانب الإنساني في الدكتور حسين مجيب المصري، وقال: إن الدكتور المصري يتميز بكرم منقطع النظير، فقد فتح لنا بيته، وسمح لنا أن نجلس معه بالساعات الطويلة، ونأكل ونشرب في هذا البيت في ساعات تمر علينا لحظات دون أن نشعر بها.
وأثناء الندوة كنت ألحظ بعض الناس ينكب على الكتابة فحسبت أنهم يدونون ما في الندوة من كلمات، ولكني وجدتهم يكتبون ترحيبا شعريا في الدكتور مجيب المصري، فسمعنا ثلاث قصائد من الشعر العمودي الأصيل ترحيبا في الدكتور المصري، ورد الدكتور المصري على واحدة منها مرتجلا الوزن والقافية بأبيات معدودة.
رحم الله الدكتور حسين مجيب المصري الذي كان عظيما بكل معايير العظمة، فالعظيم يكون عظيماً بإحدى ثلاث: بمواهب تميزه عن غيره وتعلو به عمن سواه، وتجعله بين الناس صنفا ممتازا مستقلا بنفسه عالياً برأسه، يجل عن المساماة ويعظم عن المسابقة، أو بعمل عظيم يصدر عنه، ويعرف به ويعجز الناس عن الإتيان بمثله أو النسج على منواله، أو فائدة يسديها إلى الجماعة وينفع بها الناس. وقد جمع الدكتور المصري من ذلك الكثير.