مالك بن نبي
المفكر والفيلسوف الاجتماعي
مالك بن نبي
صبحي درويش
للمفكر الجزائري الكبير (مالك بن نبي) رحمه الله مكانة خاصة وحميمة في قلبي. فقد كان أول تعرفي على أفكاره وكتبه في العطلة الصيفية التي أعقبت إنهاء المرحلة الإعدادية، من خلال مقالاته في مجلة الحضارة الدمشقية . وكان من أوائل الكتب التي قرأتها له كتابه (مشكلة الثقافة) ترجمة (عبد الصبور شاهين) ثم كتابه الرائع (شروط النهضة) ترجمة (عمر كامل مسقاوي) و(عبد الصبور شاهين) ثم كتابه (ميلاد مجتمع) ترجمة (عبد الصبور شاهين) ثم اطلعت وأنا في المرحلة الثانوية على الباقي من سلسلة كتبه التي أخذت عنوان (مشكلات الحضارة) فتأثرت به كثيرا وانتقلت معه إلى مستوى جديد في القراءة والوعي والبحث والتأمل. وقد مثلت كتب مالك مرحلة هامة من مراحل تكويني الذاتي وبداية التحول في حياتي الثقافية والفكرية . ولازلت إلى اليوم أعيد قراءة الأستاذ مالك لازداد نضجا وأجد في مؤلفاته المتعة والفائدة. وهنا أحب أن الفت انتباه القارئ أنا مع تقدير العظماء والمفكرين لا تقديسهم لأن تقديس الأشخاص من العظماء والمفكرين من قادة الفكر والعلم والاستسلام الأعمى لرؤاهم ومواقفهم مخالف للمنهج النقدي الذي ابتكره وتوصل إليه أولئك المفكرون والعلماء أنفسهم. وكل مفكر يجب أن نتجاوزه بعد أن نستفيد منه ، وكل فكر موروث ينبغي أن نقرأه بعقلية نقدية ونطالب بالانفكاك من أسره وان كان عظيما في زمنه، فعظمة عقول المفكرين والعلماء السابقين لا تلغي حق المفكرين والعلماء اللاحقين في استخدام عقولهم وتجاوز ما توصل إليه السابقون. ومن المعلوم أن اللاحق أوسع علما وأكثر اطلاعا من السابق، بحكم التطور العلمي وتنامي الخبرة وتراكم المعرفة . وقل ربي زدني علما وفوق كل ذي علم عليم. ومن الأفكار الإبداعية عند الأستاذ مالك بن نبي: (علاقة الحق بالواجب) و(المعرفة التاريخية) و (نهاية القوة) و(عالم الأفكار والأشخاص والأشياء) و (القابلية للاستعمار) و (أصالة الأفكار وفعاليتها) و(الأفكار الميتة والأفكار المميتة). استفدت شخصيا من أفكار مالك ومن منهجه في دراسة المشكلات وخصوصا طريقة بحثه لمشكلات الحضارة.
فقد تحلى الرجل بثقافة منهجية واطلاع واسع وتميزت أفكاره في النهضة عن باقي المفكرين الكبار في المنهج التحليلي والمعالجة وطرح الحلول . عاش الأستاذ مالك بين الثقافتين العربية والفرنسية وجمع بين الأصالة والمعاصرة. ولكن من أعظم المآسي التي ابتليت بها مجتمعاتنا الجهل بكتابات المبدعين من أبنائها. فالعراقيون يجهلون عالم الاجتماع (علي الوردي) والليبيون لا يعرفون المفكر والأديب (الصادق النيهوم) والمصريون يجهلون الفيلسوف (عبد الرحمن بدوي) و(الكواكبي) أقل الناس اطلاعا على كتبه هم السوريون والمغاربة يجهلون المفكرة والأكاديمية (فاطمة المرنيسي) ، والأستاذ (إبراهيم محمود) أقل الناس استفادة منه الأكراد . وأكثر الناس جهلا بمالك بن نبي هم الجزائريون رغم أن الرجل أصدر نحو عشرين كتابا ونذر حياته لخدمة الفرد والمجتمع و القضايا الإنسانية العادلة ومحور طنجة ـ جاكرتا. و لكن مزمار الحي لا يطرب . وكما جاء في الإنجيل لا كرامة لنبي بين قومه. و في القرآن الكريم: كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون. أتواصوا به بل هم طاغون.
لقد اهتم مالك بمشكلات الحضارة ويرى "ان مشكلة كل شعب هي في جوهرها مشكلة حضارته، ولا يمكن لشعب أن يفهم مشكلته ما لم يرتفع بفكره إلى مستوى الأحداث الإنسانية وما لم يتعمق في فهم العوامل التي تبني الحضارات أو تهدمها". والحضارة حسب تعريفه ثمرة تفاعل عناصر ثلاثة هي الإنسان والتراب والوقت. وهي نتاج فكرة جوهرية تدفع بها في التاريخ وأما أطوار الحضارة فهي: مرحلة الروح ثم مرحلة العقل فمرحلة الغريزة. ويرى المجتمع عبر العوالم الثلاثة: الشيء والشخص والفكرة وأن رجحان أحد هذه العوالم هو الذي يميز كل مجتمع عن سواه.ويعتقد مالك أن تغيير ما بالنفس هو الشرط الجوهري لكل تحول اجتماعي رشيد وأن الحكومة مهما كانت ما هي إلا آلة اجتماعية تتغير تبعا لوسط الذي تعيش فيه وتتنوع معه ، فإذا كان الوسط متسما بالنظافة والحرية فما تستطيع الحكومة أن تواجهه بما ليس فيه وإذا كان الوسط متسما بالقابلية للاستعمار فلا بد من أن تكون حكومته استعمارية. وبناء على هذه الملاحظة الاجتماعية يرى مالك أن ندخل في اعتبارنا دائما صلة الحكومة بالوسط الاجتماعي ، كآلة مسيرة له وتتأثر به في وقت واحد هذا من ناحية ومن ناحية أخرى أن الاستعمار ليس من عبث السياسيين ولا من أفعالهم بل هو من النفس ذاتها التي تقبل ذل الاستعمار والتي تمكن له في أرضها. وليس ينجو شعب من الاستعمار وجنوده إلا إذا نجت نفسه من أن تتسع لذل مستعمر وتخلص من تلك الروح التي تؤهله للاستعمار.وحسب رأيه فان شعار ومبدأ أن الحقوق تؤخذ ولا تعطى دروشة سياسية فالحق ليس هدية تعطى ولا غنيمة تغتصب وإنما هو نتيجة حتمية للقيام بالواجب، فهما متلازمان ، والشعب لا ينشىء دستور حقوقه إلا إذا عدل وضعه الاجتماعي المرتبط بسلوكه النفسي.
وفي موضوع الأفكار والسياسة يذكر مالك في كتابه مشكلة الأفكار أن المؤرخ (ول ديورانت) أورد في كتابه (قصة الحضارة) حوارا موجبا للعبرة حول السياسة ، دار بين الفيلسوف الصيني (كونفوشيوس) وأحد أتباعه ويدعى (تسي كوغ) كان يسأل أستاذه عن السلطة.أجاب (كونفوشيوس) قائلا: على السياسة أن تؤمن أشياء ثلاثة:
1-لقمة العيش الكافية لكل فرد2- القدر الكافي من التجهيزات العكسرية3- القدر الكافي من ثقة الناس بحكامهم.
سأل (تسي كوغ): وإذا كان لابد من الاستغناء عن أحد هذه الأشياء الثلاثة فبأيها نضحي؟
و أجاب الفيلسوف: بالتجهيزات العسكرية.
سأل (تسي كوغ): وإذا كان لابد أن نستغني عن احد الشيئين الباقيين فبأيهما نضحي؟
أجاب الفيلسوف: في هذه الحالة نستغني عن القوت لأن الموت كان دائما هو مصير الناس ولكنهم إذا فقدوا الثقة لم يبق أي أساس للدولة.
ثم يثني مالك على نظام الحسبة في الفقه ويرى أن هذا النظام يشبه إلى حد بعيد ما يسمى بالنقد الذاتي والنقد من اجل مراقبة استمرارها الفعال وفاعليتها في الحياة العامة. ولم يعرف العالم الإسلامي في العصر الحديث في حياته السياسية كتصرف شارل ديغول عقب الاستفتاء الذي لم يعطيه أغلبية الأصوات عام 1968م. وحسب مالك لابد للسياسة أن تكون أخلاقية وجمالية وعلمية لكي يكون لها معنى في مسيرة التاريخ.
لقد كان مالك بن نبي مفكرا كبيرا وباحثا استثنائيا ومثقفا واسع الاطلاع، إنساني التوجه ، وعالمي الثقافة . وبعض الدارسين والباحثين يعتبرونه ابن خلدون العصر الحديث وفيلسوف الحضارة. فقد بسط مالك في كتاباته مفاهيم جديدة مثل مفهوم الثقافة والحضارة والفعالية والنقد الذاتي وغيرها.والحق يقال بقدر ما استفدت من أفكار مالك الإبداعية وطروحاته المستنيرة بقدر ما استفدت أيضا من مراجع ومصادر الرجل.
من الصعب علي أي كاتب أو باحث أن يلم إلماما تاما بفكر وإنتاج المفكر والفيلسوف الجزائري الكبير مالك بن نبي ،فقد عاش الرجل في فترة حاسمة من فترات التاريخ الإنساني، فبين ميلاده في كانون الثاني 1905م ووفاته في31 تشرين الأول عام 1973م في الجزائر، ثمانية وستون عاما من العمل الجاد المتواصل،والمشاركة في النضال السياسي، أبدع خلالها نحو عشرين كتابا، إلى جانب تنظيم مئات الندوات الفكرية والمقالات والمحاضرات في الفلسفة وعلم النفس وعلم الاجتماع والاقتصاد والسياسة والدين والأخلاق. لقد كتب مالك أغلب كتبه باللغة الفرنسية والرجل رغم انه كان مهندسا كهربائيا لكنه مارس مهنة الفكر والكتابة أكثر من مهنة المهندس في الكهرباء.
تضم مؤلفات مالك بن نبي هذه الكتب القيمة : (مشكلة الثقافة)، و (شروط النهضة) ، و (ميلاد مجتمع)، و (تأملات)، و (الظاهرة القرآنية)، و(مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي)، و (بين التيه والرشاد)، و(لبيك) و (دور المسلم ورسالته)، و (الفكرة الأفريقية الآسيوية)، و (فكرة كومنولث إسلامي)، و (الصراع الفكري في البلاد المستعمرة)، و (المسلم في عالم الاقتصاد)، و (في مهب المعركة)، و (القضايا الكبرى)، و (مذكرات شاهد قرن)، و (من أجل التغيير)، و (وجهة العالم الإسلامي).و(أفاق جزائرية).
وفي تقديري بالرغم من التعتيم والتهميش الذي مورس ضد هذا المفكر حيا وميتا ما زالت الكثير من أفكاره تتمتع بالصمود والحيوية والفعالية حتى اليوم مثل( القابلية للاستعمار) و(علاقة الحق بالواجب ) و (المعرفة التاريخية) و(نهاية القوة) و(عالم الأفكار والأشخاص والأشياء). ولازالت هذه الأفكار الإبداعية وغيرها تنتظر من يأخذ بها بقوة حتى تخرج شعوب المنطقة من نفق التخلف والاستبداد والهيمنة