عبد الحميد البسيوني ..
عبد الحميد البسيوني ..
رجلٌ ملأ العلمُ إهابَه*
د. محمد حسان الطيان
رئيس مقررات اللغة العربية بالجامعة العربية المفتوحة بالكويت
يا دهر بِعْ رُتَبَ المعالي بعده
بيعَ السماح ربحتَ أم لم تربحِ
قدّم وأخّر من تشاء فإنه
قد مات من قد كنت منه تستحي
رحم الله شيخنا البسيوني فقد كان جديراً بالتقديم , وكان الدهر يستحي منه , فلا يقدم عليه إنساناً مهما علت رتبته , وكثرت شهاداته, وعلا في أندية العلم صياحه ! .
قد طلبنا فلم نجد لك في السؤ دد والمجد والمكارم مِثْلا
ولم يكن الشيخ أعلى الله في الجنان مقامه صاحب شهادات , وأستاذ جامعات , ومحاضر مؤتمرات .. لكنه كان رجلاً ملأ العلمُ إهابَه, وأنار الحق كتابَه .. فهو يقرأ على بصيرة .. وهو يفهم على نور .. وهو يجزل العطاء بسخاء وكرم وجود .
صحب العلم وأهله مذ كان غضَّ العود طريّه, فنهل منه, ورضع لبانه كما يرضع الوليد لبن أمه, فلما استدَّ ساعدُه واستحصد أمرُه , كان العلم معه على مثل أمره , سداداً واستحصاداً .
سنّى له الله معايشة الأكابر .. فتقلب في نُعمى رياضهم .. ونهل من معين علمهم .. وتدرج في معارف فهمهم .. ما بالك برجل كان صاحب العقاد ؟! و جليس محمود شاكر ؟! و أنيس السيد صقر؟! وخدين النفاخ ؟! وصفيّ الطناحي ؟! وغيرهم من أوعية العلم وعدوله .. وأساطينه وأركانه .. إنه بهم تخرج .. وبسنى عقولهم أورى وأزنَد ..
*نشر أصل هذا المقال في جريدة الوطن الكويتية بتاريخ 2/4/2004. ثم توسعت فيه لينشر في مجلة الببان الصادرة عن رابطة الأدباء بالكويت, العدد 414 ديسمبر 2004.
استمعْ إلى صفيّه الطناحي يقول عنه في بحث له عن دار العلوم ومكانتها في بعث التراث العربي وإحيائه: "وأعرف أناسا ذوي أقدار الآن, عملوا زمانا في مهنة التصحيح, أذكر منهم ابنا عظيما من أبناء الدار,هو جامع العلوم والفضائل, المقرئ المحدث الحافظ الأديب الشاعر, الذكي القلب واللسان, عبد الحميد البسيوني, المتخرج من الدار عام 1961م, جاء من قريته "الباجور" من أعمال المنوفية, يبحث عن المعرفة, ويلتمس طرق العلم,بنفس مشوقة, وحس دقيق, وعين ناقدة, فصحب من الأشياخ عباس محمود العقاد, والسيد أحمد صقر, وشيخنا محمود محمد شاكر, رحمهم الله أجمعين, كما صحب من قراء القرآن الكريم الشيخين محمد صديق المنشاوي وعلي حزين, رحمهما الله. " (في اللغة والأدب 2/837).
لقدكان هامةً في العلم تطأطأت لها الهامات .. وكان رأساً في الفهم انحنت له الرؤوس .. وكان نبعاً ثراً من ينابيع المعرفة أثرى من حوله .. ورفد من قصده .. " ومن قصد البحر استقلَّ السواقيا "
وقد قصدناه فرفدَنا .. ووردناه فأوردَنا .. واستقيناه فروّانا , وبتنا نرقب يوم السبت على أحر من الجمر .. نسَّمَّع قراءة الشيخ .. ونتلذَّذ بإلقائه.. ونهيم في حسن بيانه.. ونحلق في أرجاء فكره .. ونجني أطايب أدبه وبصره .. فكان مما قرأنا عليه: شرح معلقة لبيد, ومقالات محمود شاكر " نمط صعب ونمط مخيف " ,وعينية أبي ذؤيب الهذلي في رثاء أولاده . دع عنك ما كان يتحفنا به من قراءة روائع القصائد القديمة. فأكرم به من معلم ! وأنعم به من قارئ ! .. وأعظم به من عالم !! .
همُ القوم إن قالوا أصابوا وإن دُعوا أجابوا وإن أعطوا أطابوا وأجزلوا
إن أنسَ لا أنسَ مجلساً ضمنا بصحبته في ديوانية الشيخ علي الصباح العامرة , فقرأ علينا قصيدة الشريف الرضي :
مـا أسرع الأيام في فـي كل يوم أمل قد نأى أنذرنا الدهر وما نرعوي تعاشيا , والموت في جدّهِ | طيّناتمضي علينا ثم تمضي مـرامـه عن أجل قد دنا كـأنما الدهر سوانا عنى ما أوضح الأمر وما أبينا ! | بنا
حتى بلغَ آخرها . أنشدها بصوته المعبر .. وأشهد أني لم أسمع منشداً للشعر يحاكي إنشاده ..كنت أتسمَّع من إنشاده أنين الموت , وفجيعة المصيبة , وشَجَن الفراق , فرأيتُني أقضي ليلتي تلك ميتاً , إي وربي رأيت فيما يرى النائم أني قد فارقتُ.. واستقبلني ركب السابقين , على كره مني لتلك المفارقة وذلك الاستقبال !! ووجدتني أفيق من غمراتي فزعاً جزعاً ولساني يردد :
كيف دفاع المرء أحداثَها فرداً وأقرانُ الليالي ثُنى ؟
وكانت صلاة في جنح الليل .. وكانت مناجاة طالما حنَّت روحي إليها .
وتتابعت اللقاءات مع أستاذنا البسيوني, وكانت تضم نخبة من أهل العربية والأدب, أذكر منهم د.يوسف الحشاش, ود.محمد الدالي, ود.يحيى مير علم, ود. عدنان غزال, ود.هزاع سعد, ود.طاهر الحمصي, ود. فؤاد نعناع, والأساتذة وائل الرومي, ومحمد الزمامي, وأسامة العمري, وعبد الرحمن الحقان, ورائد الشلاحي, وعصام شقير,وغيرهم. يحفهم بالرعاية والتكريم رب المجلس الشيخ علي ناصر الصباح جزاه الله عن العربية وأهلها خير الجزاء. " إن الكلام يزين رب المجلس "
وكان آخر ما قرأ علينا عينية أبي ذؤيب الهذلي المشهورة:
أمِـنَ الـمنون ورَيبِها أودى بَـنيَّ وأعقبوني حسرةً ولقد حرَصت بأن أدافعَ عنهمُ وإذا الـمنية أنشبت أظفارها | تتوجَّعُوالدهرُ ليس بمُعتِبٍ من يجزعُ عـنـد الرقاد وعبرة لا تقلعُ فـإذا الـمـنيةُ أقبلت لاتُدفعُ ألـفـيـت كل تميمة لا تنفعُ |
قرأها بشرح ابن الأنباري, وكان معجبا بها, مفتونا بصورها, مذهولا بفلسفتها, بل كان يعدُّها أبدعَ ما قيل من شعرٍ في فلسفة الموت, وتصوير لوعة المفجوع به. حتى إذا أتى على آخرها فجَأَنا بالقول: إن هذه القصيدة آخر ما أقرأ عليكم, ولن أقرأ بعدها شيئا, بل سأكتفي بالاستماع إليكم, ففيكم علماء أجلاء, يستفاد من علمهم, ويُنصت إليهم,وكان يخصُّ أخانا الدالي بالإجلال والتقدير _ وهو أهل لذاك _ وكثيرا ما طلب إليه مراجعة قضايا في اللغة والنحو والتحقيق. ولم يدر بخَلَدِنا آنئذٍ أن كلام الشيخ هذا قرارٌ لا رجعةَ فيه,ولقد حاول بعض روّاد المجلس أن يثنيه عن عزمه, ولكنه أصر!.
وهكذا كان..ففي الأسبوع التالي قرأ أخونا الدالي مبحثا له كان كتبه يردُّ على من خطّأ المعري في قوله:
تعبٌ كلها الحياة فما أع جب إلا من راغب في ازديادِ
وحضر الشيخ البسيوني, ولما انتهى المجلس التفت إليّ قائلا: وأنت ما موضوعك عن القرآن, زودني بالآيات التي تريد تناولها كي أناقشك فيما سوف تقول, فقلت :لقد قذفت في قلبي الرعب ياسيدي! فأردف قائلا: لابأس عليك, ولكن إياك أن تقرأ بحثك في الأسبوعين القادمين, فأنا على سفر, وسأعود إن شاء المولى لأستمع إليك وأناقشك.
وطويت نفسي يومئذٍ على تهيب جميل!
فما أصعب أن تلقي بحثا يناقشك فيه رجل كالبسيوني بعلمه وقامته!
وما أجمل أن تلقي بحثا يحثّك عليه ويشرِّفُكَ بحضوره رجل كالبسيوني بفضله ونبله!
ورحت أهيئ نفسي, وأعد العُدَّةَ ليوم اللقاء, ولكن هيهات..! لم يكن ثمة يوم ولا لقاء, بل كان يومٌ.. ولالقاء! وكان مجلس.. بلا إشراق! مجلس خيم عليه الحزن..وغشيته الكآبة..وحُفَّ بلوعة الفراق..فقد نعى الناعي أبا تميم.. وانهدَّ من جبال العلم جبل ..وثلمت في الإسلام ثلمة..!
بان الخليط برامتين فودّعوا أو كلما جدّوا لبينٍ تجزعُ
كيف العزاءُ ولم أجد مذ بِنتمُ قلباً يقرُّ ولا شراباً ينقَعُ
ثم لما عدنا إلى الرشد تبين لنا أن الشيخ كان يودعنا, فقدتحقق حدسه حين ودعنا غِبَّ انتهائه من قراءة المرثية, ثم راح يحثُّ الخطا نحو أرض الكنانة ليودع الأهل والأحباب هناك, حيث كان على موعد مع الأجل المحتوم, مع قضاء الله الذي لا رادّ له.
فرحم الله روحك أيها الشيخ الجليل.. وغفر لك .. وأتمَّ نعمته عليك بصحبة النبيّين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً يوم الدين .. والحمد لله رب العالمين .
" إنَّ الذينَ قالُوا ربنا اللهُ ثمَّ استقامُوا تتنزَّلُ عليهمُ الملائكةُ ألا تخافوا ولاتحزنوا وأبشروا بالجنَّةِ التي كنتُم توعدونَ ".