المجاهد الليبي أحمد الشريف السنوسي
أحمد الشريف السنوسي مجاهد وزعيم وطني ليبي من الأسرة السنوسية. قاد الجهاد في شرق ليبيا ضد الغزو الايطالي للبلاد في بدايات القرن العشرين.
من ألقابه "الشيخ العالم والداعية والمجاهد السيد" أحمد الشريف السنوسي ابن العلامة السيد محمد الشريف بن محمد بن علي السنوسي وعمه العالم محمد المهدي السنوسي وجده الإمام محمد بن علي السنوسي، يصل نسبه إلى علي بن أبي طالب الهاشمي القرشي. ولد في عام 1873م، بعد عام تقريباً من وفاة جده السيد محمد بن علي السنوسي في واحة الجغبوب. وهو أحد كبار المجاهدين الليبيين، جاهد وشارك وقاد معارك الجهاد في سبيل الله والنضال ضد الغزاة الفرنسيين والإنجليز والإيطاليين في تشاد والسودان ومصر وليبيا وساهم في نشر الدعوة الإسلامية وتعاليم الدين الإسلامي في أرجاء من أفريقيا، وهو صاحب كتاب (السراج الوهاج في رحلة السيد المهدي من الجغبوب إلى التاج) الذي دوّن فيه الرحلات الدعوية التي رافق فيها عمه السيد محمد المهدي السنوسي.
قال عنه محمد أسد في كتابه (الطريق إلى الإسلام): (ما من رجل ضحى بنفسه تضحية كاملة مجردة، عن كل غاية في سبيل مثل أعلى، كما فعل هو. لقد وقف حياته كلها، عالماً ومحارباً، على بعث المجتمع الإسلامي بعثاً روحياً، وعلى نضاله في سبيل الاستقلال السياسي).
وقال عنه شكيب أرسلان في (حاضر العالم الإسلامي): (اتحاد الكلمة على نزاهة هذا الرجل، وتجرده عن المآرب الشخصية، وعزوفه عن حظوظ الدنيا، وانصراف همه كله إلى الذبّ عن بيضة الإسلام بدون غرض سوى مرضاة الله ورسوله، وحفظ استقلال المسلمين).
تزعّم السيد أحمد الشريف الحركة السنوسية في عام 1902م، خلفاً لعمه السيد محمد المهدي والد الملك إدريس السنوسي الذي كان قد بلغ الثالثة عشرة من عمره آنذاك، ويبدو أن صفات السيد أحمد الشريف الشخصية وشجاعته التي برزت خلال قيادته لمعارك الجهاد ضد الفرنسيين في مناطق (قرو) و(ودان) السودانية قد أهلته لتولي الزعامة.
استمر السيد أحمد الشريف في إمارة الحركة السنوسيّة من عام 1902م إلى عام 1916م، حيث تنازل عنها في ذلك العام لابن عمّه محَمّد إدريس بن محَمّد المهدي السنوسي وقبل حوالي عامين من مغادرته لليبيا مرغماً على ظهر غواصة ألمانيّة بعثتها له تركيا في آب من عام 1918م لتنقله من البريقة بليبيا ليصل لاحقاً إلى النمسا ثمّ إلى الآستانة بتركيا.
ومع بداية الغزو الإيطالي للشواطئ الليبية عام 1911م، كان السيد أحمد الشريف قد أعاد تنظيم الحركة السنوسية من خلال الزوايا التي انتشرت في بلدان كثيرة، كما سعى جاهداً لمد جسور التعاون والتناصح مع الحركات الإسلامية الأخرى وتدعيم وشائج الأخوة الإسلامية بينها، كما ارتبط أشد الارتباط بالخلافة الإسلامية التي كانت تمثلها الدولة العثمانية في تركيا، وما أن وطأ البلاد جنود المستعمر الإيطالي حتى كان أحمد الشريف قد حوّل زوايا الحركة السنوسية إلى معسكرات لإعداد قوة عسكرية من الأهالي والأتباع بقيادة جماعات من الضباط الأتراك واتخذ التدابير اللازمة لتزويد تلك القوات بالأسلحة والعتاد بشتى الطرق.
وعندما تناهى لأسماع أحمد الشريف اعتزام تركيا إبرام الصلح مع إيطاليا، شكل وفداً من زعماء السنوسية وأهالي البلاد وبعثه إلى مدينة درنة لمقابلة (أنور بك) الوالي العثماني، وسلّمه رسالة خطية جاء فيها:
(نحن والصلح على طرفي نقيض، ولا نقبل صلحاً بوجه من الوجوه، إذا كان ثمن هذا الصلح تسليم البلاد إلى العدو).
ونتيجة ذلك، وصل مبعوث الوالي العثماني السيد عزيز المصري بصفته ممثلاً للدولة العثمانية في ليبيا ومديراً للعمليات العسكرية فيها، وصل الجغبوب (مركز قيادة السنوسية) وأبلغ السيد أحمد الشريف (أن الخليفة قد منح البلاد الاستقلال وحق الدفاع عن نفسها وتقرير مصيرها)، ولكن مع تذبذب الموقف التركي من مسألة الصلح مع إيطاليا، وتوقيع الدولة العثمانية معاهدة الصلح مع إيطاليا التي تنازلت بموجبها لإيطاليا عن ليبيا، عاد أنور باشا لطرح فكرة القبول بالصلح على السيد أحمد الشريف فكان رده أكثر حزما، قائلا (والله لا نسلمهم من أرضنا طراحة حصان).
وبعد توقيع الدولة العثمانية "معاهدة لوزان" مع إيطاليا والتي سلمت فيها تركيا ليبيا إلى إيطاليا، بادر أحمد الشريف بإعلان الحكومة السنوسية لسد الفراغ المترتب على انسحاب القوات التركية من البلاد، وكان شعار تلك الحكومة (الجنة تحت ظلال السيوف). ثم أعلن الجهاد في منشور عممه على مشايخ الزوايا السنوسية والقبائل والأهالي وطلب من كل فرد من سن 14 إلى سن 65، أن يذهب إلى الميدان مزوداً بمؤونته وسلاحه.
ومع توالي الهزائم التركية في البلقان، أصدرت القيادة التركية أوامرها بضرورة الانسحاب النهائي من الأراضي الليبية، ومع الانسحاب الكامل للقوات التركية من البلاد، قرر أحمد الشريف الانتقال بقواته التي بلغت حينئذ السبعة آلاف مقاتل، إلى منطقة أمساعد على الحدود الشرقية مع مصر، مما فرض ظروفاً وأوضاعاً جديدة على المنطقة وخاصة بعدما تبين أن السيد أحمد الشريف قد نجح في تحويل القوات السنوسية إلى جيش نظامي مدرب، ومستعد لخوض غمار حرب فدائية طويلة المدى ضد الطليان.
عند اشتداد معارك الجهاد وبسط إيطاليا وجودها على أجزاء من ليبيا كلف المجاهد الداعية السيد أحمد الشريف أخيه المجاهد الكبير صفي الدين السنوسي بقيادة منطقة غرب برقة والتنسيق مع قيادات طرابلس وفزان في محاربة العدو الإيطالي، وفعلاً ترك السيد صفي الدين أجدابيا وتحرك مع كثير من المجاهدين إلى جهة سرت واتصل هناك بالعديد من قادة الجهاد الليبي أمثال المجاهد الكبير رمضان السويحلي وأحمد بك سيف النصر وغيرهم.
بعد اندلاع الحرب العالمية الأولى ، تعزز موقف السيد أحمد الشريف وقواته، حيث جعلت الأطراف المتحاربة تسارع لكسب ود السيد أحمد الشريف وقواته، تركيا وألمانيا من جهة، وبريطانيا ومصر من جهة أخرى، فالأولى رغبت أن يقوم السيد أحمد الشريف بتخفيف الضغط على إيطاليا بمهادنتها، وبفتح جبهة جديدة ضد الإنجليز في السلوم، والأخرى رغبت في مساعدة السيد أحمد الشريف للقضاء على الطليان، العدو الرئيسي للسيد أحمد الشريف آنذاك.
وبسبب الضغوط الشديدة التي مارستها الدولة العثمانية عليه، بالإضافة إلى الانتصارات الألمانية ـ العثمانية على قوات الحلفاء في أوروبا، وظهور الثورات الشعبية ضد الإنجليز في الهند وأفغانستان والسودان، اختار أحمد الشريف أن يقوم بالإغارة على قوات الإنجليز في أوائل تشرين الثاني 1915م داخل الحدود المصرية وهزمهم في السلوم ولاحقهم حتى منطقة سيدي براني حيث اندمج بقواته مع القوات الوطنية المصرية بقيادة محمد صالح حرب، ولكن القوات البريطانية تمكنت من صد الهجوم في معركة العواقير 1916م التي أسر فيها جعفر العسكري، وهرب فيها نوري باشا وعبد الرحمن عزام ، وواصل السيد أحمد الشريف القتال من المحور الجنوبي واحتل عدداً من الواحات، وسارع للاتصال بالسيد علي دينار، سلطان دارفور بالسودان، ومشايخ الصعيد في أسيوط والفيوم محاولاً تكوين جبهة عريضة لقتال الإنجليز، وخاض السيد أحمد الشريف بقواته عدة معارك آخرها (معركة بئر تونس) التي اضطر فيها للتراجع والانسحاب، وذلك بسبب عدم استجابة زعماء القبائل في الفيوم والصعيد ودارفور من جهة، وفشل قوات جعفر العسكري واستسلامه من جهة أخرى، فضلاً عن التباين الكبير بين القوتين، فبينما كانت قوات السيد أحمد الشريف تقاتل ببنادق عادية وعلى ظهور الخيل في أرض مكشوفة، استخدم الإنجليز المدفعية والطائرات، يضاف إلى ذلك صعوبة التموين بل وانقطاع موارده عن القوات السنوسية.
وهاجمت قوات الحركة السنوسيّة – عشرة آلاف مجاهد – بقيادة أحمد الشريف القوات الاستعماريّة البريطانيّة في الصحراء الغربيّة المصريّة عند السلّوم. واستمر القتال بين السنوسيين والبريطانيين إلى 1917م العام الذي انتصر فيه البريطانيون بقيادة الجنرال بيتون (Peyton) على قوات المجاهدين.
وكانت حملة السلوم، نهاية المطاف في صراع السيد أحمد الشريف ضد الإنجليز في ليبيا، وقد بادروا بتهديده بضرورة ترك الجغبوب فوراً، تحت طائلة ضرب وتهديم ضريح قبر جده الأكبر محمد بن علي السنوسي بالطائرات واحتلال المدينة.
غادر السيد أحمد الشريف البلاد إلى المنفى في أوائل آب عام 1918م على متن غواصة ألمانية من "مرسى العقيلة" ومعه كبار معاونيه وقادته منهم محمد صالح حرب ونوري باشا وصالح أبو عرقوب البرعصي وعبد الوهاب الدرسي أما باقي الأتباع في ليبيا وعلى رأسهم سيدي عمر المختار فقد انسحبوا إلى الجبل الأخضر، ومنهم من استدعاه للحاق به مثل الشيخ القاضي محمد عز الدين الباجقني حيث كان كاتباً للشيخ أحمد الشريف (بعض الروايات تقول أنه هاجر معه بنفس الوقت), وقد كان إبعاد السيد أحمد الشريف انتصاراً لكافة الأطراف المعادية لنضال الشعب الليبي.
وصل السيد أحمد الشريف إلى (ميناء بولاوتريستا) ومنها إلى النمسا ثم بالقطار إلى استانبول حيث استقبل استقبالاً حافلاً تدعيماً لمواقفه وصموده، وقلده السلطان محمد السادس السيف (علامة السلطنة) ومنحَه وساماً مجيدياً، وأنعم عليه برتبة الوزارة.
مباشرة بعد استقراره في المنفى أخذ أحمد الشريف يحرض العثمانيين على إعطاء القضية الليبية الأهمية القصوى، وقد نجح بالفعل في إقناع عزت باشا، رئيس الوزراء آنذاك في تشرين الأول 1918م، بأن يسمح له بالسفر خفية إلى طرابلس بعد تزويده بالمعدات والسلاح والأموال، إلا أن اتفاق هدنة الحرب العالمية الأولى حال دون إنجاح المهمة، ومع ذلك فقد انتقل السيد أحمد الشريف ورفاقه من استانبول إلى بروسة، استعدادا للعودة إلى برقة، إذا ما أخفقت جهود السلام.
وحتى بعد أن اضطر لمغادرة البلاد، استمر في متابعة حركة الجهاد، والعمل على تأمين ما يستطيع من احتياجات المجاهدين، ولعل المهمة التي أوكلها إلى محمد أسد هي إحدى صور هذا الجهد، الذي كان السيد أحمد يبذله من المنفى لتقديم الدعم إلى المجاهدين، ولم تنقطع مراسلاته مع المجاهدين، حتى السنوات الأخيرة من الجهاد بعد استشهاد (شيخ الشهداء) عمر المختار، وعلى احتوائها على توجيهات إلى المجاهدين، خاصة الرسالة المؤرخة في 16 جمادى الآخرة 1350هـ/29 تشرين الأول 1931م، التي انتدب فيها السيد أحمد، المجاهد الكبير يوسف بورحيل المسماري لتولي القيادة بعد استشهاد عمر المختار.
أدت نتائج الحرب العالمية الأولى إلى الانقسام في تركيا بين الخليفة في الآستانة، وأنور بك في القوقاز، ومصطفى كمال أتاتورك في الأناضول، وحاول كل منهم اجتذاب السيد أحمد الشريف إلى جانبه باعتباره زعيماً دينياً موثوقاً وذو شعبية كبيرة في تركيا، ولكن أحمد الشريف اتخذ موقف الحياد إزاء الزعماء الثلاث وإن كان يميل إلى أنور باشا في أحاديثه الخاصة، وكان الأخير قد وعده بتسهيل عودته إلى برقة بالسلاح والرجال والأموال إذا ما نجح في حسم الصراع لصالحه وكان ذلك غاية ما يتمناه السيد أحمد الشريف.
بلغت ثقة الأتراك بالسيد أحمد الشريف حداً جعل (مجلس المبعوثان) يصدر قراراً بتعيينه ملكاً على العراق في نيسان 1921م، ولكن فيصل بن الحسين، بدعم الإنجليز نجح في الوصول إلى العراق قبله، ويذهب بعض الباحثين إلى أن مصطفى كمال أتاتورك قد عرض الخلافة على السيد أحمد الشريف ولكنه رفضها متعللاً بأن أحوال العالم الإسلامي آنذاك لا تشجع على اتخاذ مثل تلك الخطوة.
شهدت سنتي 1921، 1922م تحركاً سياسياً واسعاً للسيد أحمد الشريف محاولاً خلق جبهة إسلامية عريضة تضم الخديوي عباس (مصر) و عبد العزيز آل سعود (أمير نجد)، وابن الرشيد (امير حائل)، وأحمد الجابر الصباح (أمير الكويت)، والحسن الادريسي (امير عسير)، وحميد الدين (إمام اليمن)، هدفها تحرير العالم العربي الإسلامي من الاستعمار الايطالي والانجليزي والفرنسي، كما تدخل في الصراعات الدائرة بين قبائل شمر وعنزة وحقق الصلح بينهما، ثم انتقل إلى سورية محاولاً إثارة الشعور الديني، محرضاً أهلها على العمل لطرد الفرنسيين بمساعدة الأتراك غير أن الفرنسيين كشفوا تحركاته وطردوه إلى تركيا عام 1924م.
وعلى إثر الانقلاب الذي قاده مصطفى كمال أتاتورك وإلغاء الخلافة العثمانية عام 1924م، أدرك السيد أحمد الشريف أن لا مكان له في دولة أتاتورك العلمانية، فانتقل إلى الحجاز بعد أن سدت في وجهه أبواب البلاد العربية الأخرى.
كانت الفترة من عام 1924 إلى عام 1933م تمثل جانباً مهماً في حياة السيد أحمد الشريف السنوسي في المنفى حيث أقام في الحجاز مستفيداً من العلاقة الخاصة التي كانت تربطه بعبد العزيز بن سعود، وبدا محركاً وقائداً للمقاومة والجهاد في الداخل والتي كان يقودها في المنطقة الشرقية للبلاد عمر المختار ويعاونه قجة بن عبد الله السوداني، والفضيل بوعمر، ويوسف بورحيل، وحسين الجويفي، وعبد الله بوسلوم، وعبد الحميد العبار، وقد تبقى من العائلة السنوسية بعد رحيل السيد إدريس السنوسي عام 1923م إلى مصر كل من محمد الصديق والسيد محمد الرضا والحسن الرضا.
ومن الروايات التي نقلها شكيب أرسلان في كتابه (حاضر العالم الإسلامي) عن عبد العزيز جاويش المقرب من أحمد الشريف أن ضابطاً إيطالياً برتبة عقيد طلب مقابلة السيد أحمد الشريف عندما كان في مرسى تركيا سنة 1924م، وهو يستعد للرحيل إلى الحجاز، ولكن السيد أحمد رفض الحديث معه بشكل قاطع عندما علم أنه يعرض عليه فكرة عقد صلح بينه وبين الحكومة الايطالية وكان جوابه (إننا لا نكره الصلح، ولكن على شرط الاستقلال الحقيقي لوطننا) وعندما علم أنه لم يكن مفوضاً من قبل حكومته أنهى المقابلة معه على الفور، وحتى بعد أن تمكن العقيد الايطالي من الحصول على التفويض من حكومته رسمياً حاول التفاوض مع أحمد الشريف عن طريق معاونه عبد العزيز جاويش إلا أن أحمد الشريف كان حازماً في توجيهاته لمعاونه التي ختمها بقولته الشهيرة: (إن طرابلس وبرقة ليستا ملكي لأجود بهما على الطليان، بل هما ملك أهلهما).
وفي21 تشرين الأول عام 1926م نجح السيد أحمد الشريف في عقد معاهدة بين إمام اليمن يحي وإمام عسير الحسن بن علي الإدريسي وملك الحجاز عبد العزيز آل سعود، أنهى بموجبها الخلافات والحروب الدائرة في المنطقة، وكان هدفه من ذلك القضاء على تلك الحروب الجانبية التي تستنفد الكثير من جهود المسلمين حتى يلتفتوا جميعاً إلى العدو (الإنجليزي والإيطالي والفرنسي) الذي كان يحتل جزءً كبيراً من العالم الإسلامي.
وظل السيد أحمد الشريف طوال فترة إقامته في الحجاز متفرغاً لدعم المجاهدين في الداخل، وكان يتخذ من مواسم الحج والعمرة وسيلة للاتصال بالليبيين ويستقبل الرسل الوافدة إلى مكة من قادة الجهاد، يزودهم بالتوجيهات والتعليمات وكذلك بالإمدادات كما جعل من مواسم الحج منبراً إعلامياً يحث المسلمين منه على دعم القضية الليبية ويجمع التبرعات منهم.
نص كتاب شكيب أرسلان (عندما قدمت إلى الآستانة في أواخر سنة 1923م، وهي أول مرة دخلتها بعد الحرب قررت لأجل الاستجمام من عناء الأشغال وترويح النفس بعد طول النضال، أن أسكن ببلد صغير تتهيأ لي فيه العزلة وتسهل الرياضة، ويكون دانياً من وطني سورية لملاحظة شغلي الخاص، وتعهد أملاكي فيها، فاخترت مرسين، وألقيت مرساة غربتي فيها.
وكان السيد السنوسي بلغه قدومي إلى دار السعادة، فكتب لي يرغب إليَ في سرعة المجيء ويرحب بي. فلما جئت إلى مرسين، ذهبت توا لزيارته فأبى إلا أن أنزل عنده، ريثما أكون استأجرت منزلاً في البلدة، وقد رأيت في هذا السيد السند بالعيان ما كنت أتخيله عنه بالسماع، وحقَ لي والله أن أنشد: (من البسيط).
كانت محادثة الركبان تخبرنا ... عن جعفر بن فلاح أطيب الخبر
حتى التقينا فلا والله ما سمعت ... أذني بأحسن مما قد رأى بصري
رأيت في الرجل حبراً جليلاً، وسيداً غطريفاً، وأستاذاً كبيراً، من أنبل من وقع نظري عليهم مدة حياتي، جلالة قدر، وسراوة حال ورجاحة عقل، وسجاحة خلق، وكرم مهزة وسرعة فهم، وسداد رأي، وقوة حافظة، مع الوقار الذي لا تغض من جانبه الوداعة، والورع الشديد في غير رياء ولا سمعة.
سمعت أنه لا يرقد في الليل أكثر من ثلاث ساعات، ويقضي سائر ليله في العبادة والتلاوة، والتهجد، ورأيته مراراً تنفج بين يديه السفر الفاخرة اللائقة بالملوك فيأكل الضيوف والحاشية ويجتزئ هو بطعام واحد لا يصيب منه إلا قليلاً، وهكذا هي عادته.
وله مجلس كل يوم بين صلاتي الظهر والعصر لتناول الشاي الأخضر الذي يؤثره المغاربة. فيأمر بحضور من هناك من الأضياف ورجال المعية، ويتناول كل منهم ثلاثة أقداح شايٍ ممزوجاً بالعنبر. فأما هو فيتحامى شرب الشاي لعدم ملاءمته لصحته، وقد يتناول قدحاً من النعناع.
ومن عادته أنه يوقد في مجالسه غالباً الطيب، وينبسط السيد إلى الحديث، وأكثر أحاديثه في قصص رجال الله وأحوالهم ورقائقهم وسير سلفه السيد محمد بن علي بن السنوسي، والسيد المهدي، وغيرهما من الأولياء والصالحين. وإذا تكلم في العلوم قال قولاً سديداً، سواء في علم الظاهر أو الباطن.
وقد لحظت منه صبراً قلّ أن يوجد في غيره من الرجال، وعزماً شديداً تلوح سيماؤه على وجهه، فبينا هو في تقواه من الأبدال إذا هو في شجاعته من الأبطال. وقد بلغني أنه كان في حرب طرابلس يشهد كثيراً من الوقائع بنفسه، ويمتطي جواده بضع عشر ساعة على التوال بدون كلال وكثيراً ما كان يغامر بنفسه ولا يقتدي بالأمراء وقوَاد الجيوش الذين يتأخرون عن ميدان الحرب مسافة كافية، أن لا تصل إليهم يد العدو فيما لو وقعت هزيمة. وفي إحدى المرار أوشك أن يقع في أيدي الطليان، وشاع أنهم أخذوه أسيراً، وقد سألته عن تلك الواقعة فحكى لي خبرها بتفاصيله، وهو أنه كان ببرقة فبلغ الطليان بواسطة الجواسيس أن السيد في قلة من المجاهدين، وغير بعيد عن جيش الطليان، فسرحوا إليه قوة عدة آلاف ومعها كهرباة خاصة لركوبه، إذ كان اعتقادهم أنه لا يفلت من أيديهم تلك المرة، فبلغه خبر زحفهم وكان يمكنه أن يخيم عن اللقاء أو أن يتحرف بنفسه إلى جهة يكون فيها بمنجاة من الخطر، أو يترك الحرب للعرب تصادمهم فلم يفعل، وقال لي: (خفت أنني إن طلبت النجاة بنفسي أصاب المجاهدين الوهل فدارت عليهم الدائرة فثبت للطليان وهم بضعة آلاف بثلث مائة مقاتل لا غير، واستمات العرب وصدموا العدو، فلما رأى وفرة من وقع من القتلى والجرحى ارتدوا على أعقابهم، وخلصنا نحن إلى جهة وافتنا فيها جموع المجاهدين.
والسيد أحمد الشريف سريع الخاطر، سيّال القلم، لا يمل الكتابة أصلاً، وله عدة كتب منها كتاب كبير أطلعني عليه في تاريخ السادة السنوسية، وأخبار الأعيان من مريديهم والمتصلين بهم، ينوي طبعه ونشره فيكون أحسن كتاب لمعرفة أخبار السنوسيين).
توفي أحمد الشريف يوم الجمعة في منتصف ذي القعدة سنة 1351 هـ/10 آذار 1933م بالمدينة المنورة، ودفن في مقبرة البقيع.
وسوم: العدد 820