أعلام الخطابة في بلاد الشام
بشار منافيخي
عرفت الخطابة كفن من ضروب النثر منذ أقدم العصور واستعملها اليونان في محاكمهم كفن على يد ( كراكس ) وذلك في القرن الخامس ق.م ،
وشهدت الخطابة عند العرب رواجا ً وازدهارا ً في العصر الجاهلي في (سوق عكاظ)، ثم احتلت موقعا ً متقدما ً في العصر الأموي نظرا ً لأهميتها وتأثيرها خاصة أثناء الفتوحات حيث ذاعت شهرة خطب جمهرة من القادة الأفذاذ وفي طليعتها خطبة طارق بن زياد التي ألقاها أثناء فتح الأندلس .
ولعب فن الخطابة في عصرنا الحديث دورا ً هاما ً على الصعيدين الأدبي والاجتماعي في طرح ومعالجة القضايا الكبرى مثل التعليم وتحرر المرأة ، وتجلت الخطابة على الصعيد السياسي وكان لها دورٌ بارزٌ في مناهضة الاستعمار وتأجيج الثورات الاستقلالية وتوجيهها نحو التحرر والتمسك بالمبادئ الوطنية. ففي مصر برز عدد من الخطباء أشهرهم ( عبد الله النديم ومصطفى كامل وهدى شعراوي ومي زيادة ) ، أما في بلاد الشام فقد برز عدد من الخطباء الذين أثروا بعطائهم السخي الحياة الأدبية والاجتماعية والسياسية. في هذه العجالة سوف نلقي الضوء عليهم وهم : د حبيب اسطفان وهو من أشهر خطباء بلاد الشام حيث لقب بـ ( ميرابو الشرق )، ولد في قرية ( بتاتر ) بقضاء الشوف في لبنان عام 1888 وحصل على شهادة الدكتوراه في العلوم والفلسفة من روما ، وبعد عودته عين في كاتدرائية مار جرجس فلمع نجمه بخطبه الرنانة، وبعد انسحاب الأتراك من دمشق يمم اسطفان وجهه شطر دمشق ليساهم مع إخوانه العرب في تأسيس الدولة الحديثة ، وألقى اسطفان عشرات الخطب التي أضرمت الحماس في قلوب سامعيه وندد بالفرنسيين الذين أشيع أنهم سيدخلون سورية قسرا ً ،
ومن أشهر خطبه تلك التي حضرها الأمير فيصل الأول ويفيض ما شاءت له بلاغته ، ويترنم بأن لبس العباءة وعينه قريرة بالحرية أحب إليه وأنشد فيها يقول : ولبس عباءة وتقر عيني أحب إلي من لبس الشفوف فنهض الأمير فيصل وخلع عباءته المقصبة بالذهب وألبسها للدكتور حبيب اسطفان ، وبعد دخول الفرنسيين لدمشق غادرها اسطفان وانتقل إلى مصر ومنها توجه إلى ( كوبا ) وذاع صيته في الأمريكيتين فدعي لإلقاء الخطب والمحاضرات ، وقد أطلق عليه الأرجنتينيون لقب ( أمير المنابر ) ثم توجه إلى ( البرازيل ) وأقام فيها حتى وفاته عام 1946 ، من أثاره : وجدان بلا سياسة . عبد الرحمن سلام هو شاعر وخطيب وعالم ومرب، ولد في بيروت عام 1871 وتلقى تعليمه في مدارسها، ثم أخذ علومه على أيدي علماء بيروت ووقف مواهبه على العربية وآدابها وأصبح إماما ً في اللغة العربية ومرجعا ً فيها ولقب بفرزدق عصره، عين في بدء حياته قاضيا، ثم نزح إلى دمشق وافتتح متجرا ً لبيع الكتب والمخطوطات في ( سوق الخجا ) ، ثم انتقل للعمل في التدريس في حمص والقدس، وبعد عودته إلى دمشق عين مدرسا ً للغة العربية في مدرسة التجهيز ( مكتب عنبر ) في الفترة 1918-1924 ثم قرر العودة إلى بيروت فعين مدرسا ً لأساتذة مدرسة جمعية المقاصد الخيرية ، وفي عام 1936 تولى الإفتاء في مدينة بيروت حتى وفاته عام 1941 ، من أثاره : شرح ديواني النابغة والرصافي وغاية الأماني في علم المعاني ( شعر)، ومن أشهر الخطب تلك التي ألقاها في دمشق أمام الأهالي الذين خرجوا بمظاهرة وطنية تندد بإنذار الجنرال غورو عام 1920 ويحدثنا عنها تلميذه في ( مكتب عنبر ) علي الطنطاوي حيث يقول : (( ولست أنسى خطبته حينما أطل من شرفة النادي العربي قبل ميسلون على بحر من الخلائق تموج موجان البحر .. وصاح صيحته التي لا تزال ترن في أذني : غورو لن تدخلها إلا على هذه الأجساد..)). محمد الشريقي شاعر وطني وصحفي ودبلوماسي ، ولد في اللاذقية عام 1898 وتلقى تعليمه الأولي في مدارسها ثم تابع دراسته في استانبول وبيروت ثم انتسب إلى معهد الحقوق وأثناء دراسته شارك مع الأحرار العرب في مناهضة سياسة الأتراك فاعتقل وزج به في سجن ( قلعة دمشق) وفيها نظم أجمل قصائده وهي (هل تذكرين) : قلبي لذكرك ِ يا مليحة يخفق ودموع عينى بالهوى تترقرق هل تذكرين ونحن في حجر الصبا أيام لا تشكو ولا تتحرق وانتسب إلى جمعية ( الرابطة الأدبية) التي كانت تعمل سرا ً ضد سياسة سلطات الانتداب الفرنسي فألغيت الجمعية ولوحق الشريقي ثم حكمت عليه السلطات الفرنسية عام 1922 بالسجن عشرين عاما ً فغادر دمشق وتوجه إلى شرقي الأردن وهناك عمل في الصحافة وأصدر جريدة ( الشرق العربي)، ثم اختير وزيرا ً في عدد من الوزارات ، ثم انتقل بعدها للعمل الدبلوماسي فعين سفيرا ً للأردن في عدد من الدول العربية والأجنبية حتى تقاعد عام 1962 فتفرع للمطالعة والكتابة حتى وفاته عام 1970 ، من آثاره : أغاني الصبا ( ديوان) وخطب ومحاضرات ، ومن أشهر خطبه ، خطبته هي التي ألقاها بعد انسحاب الأتراك عن سورية عام 1918 حيث شارك في رفع العلم العربي على سارية ( دار الحكومة ) في اللاذقية ، وألقى في هذه المناسبة خطبة أمام جماهير الشعب معلنا ً استقلال البلاد العربية .
د. عبد الرحمن الشهبندر طبيب ووزير ومن أشهر خطباء عصره ، ولد في دمشق عام 1878 وتلقى تعليمه الأولي في مدارسها والثانوي في بيروت ثم انتسب إلى كلية الطب ونال الإجازة ، ثم عاد إلى دمشق وافتتح عيادة لممارسة مهنة الطب وشارك مع رفاقه الوطنيين في مناهضة سياسة الحكم التركي وعندما شعر بالخطر غادر دمشق إلى العراق ومنها إلى مصر، وفي عام 1925 شارك مع زعماء جبل العرب في التخطيط للثورة السورية فلوحق من قبل السلطات الفرنسية فغادر دمشق والتحق بالثورة وبعد إخفاق الثورة سافر إلى مصر وأقام فيها حتى صدور العفو العام سنة 1936 وتابع نضاله الوطني حتى اغتيل في حادث دبرته السلطات الفرنسية عام 1940 ، من آثاره : مذكرات وخطب ، ومن أشهر خطبه تلك التي ألقاها أثناء حفل تخرجه من كلية الطب عام 1908حيث اختير خطيبا ً باسم الطلاب فألقى خطبة عنوانها ( التسامح) هاجم فيها التعصب الديني والطائفي السائد في البلاد في أواخر العهد العثماني ولفت أثناءها الأنظار وأصبح فيما بعد أشهر الخطباء في سورية . فوزي الغزي محام ومن رجال الحركة الوطنية ومن أشهر خطباء عصره، ولد في دمشق عام 1891 وتلقى تعليمه في مدارسها ، ثم سافر إلى استانبول وانتسب إلى (المدرسة الملكية ) ، وبعد عودته إلى وطنه عين في العديد من الوظائف الإدارية ، ثم مارس المحاماة وعين مدرسا ً في معهد الحقوق عام 1921 ، وفي عام 1928 انتخب نائبا ً لرئيس الجمعية التأسيسية ، وشارك في وضع الدستور السوري ، وفي عام 1929 اغتيل بحادث دبرته السلطات الفرنسية، من آثاره : الحقوق الدستورية و خطب ومحاضرات ، شارك المرحوم فوزي الغزي في كافة المناسبات الوطنية وألقى خلالها عشرات الخطب أشهرها الخطبة التي ألقاها في منزل المجاهد الوطني توفيق القباني والد الشاعر نزار قباني . خطيبات عربيات لم تتخلف المرأة عن أخيها الرجل في ميدان الخطابة فقد برز عدد من السيدات من بلاد الشام أشهرهن ( روز عطا الله شحفة ) التي خطبت في العديد من المناسبات منها حفل استقبال الأديبة مي زيادة ، وكانت روز تدعو في خطبها إلى الإصلاح والنهوض وحقوق المرأة ، وقد جمع جرجي باز خطبها ومقالاتها في كتاب صدر عام 1950 ، واشتهرت أيضا َ الأديبة سلوى سلامة من حمص والتي عملت في الصحافة وخطبت في النوادي والجمعيات ويذكر الأستاذ عيسى فتوح في أحد كتبه بأنها أول سيدة حمصية وقفت على المنابر وخاطبت الجماهير . وهكذا سطر رجالات هذه الأمة ونساؤها تراثها السياسي والأدبي الخالد عبر خطبهم التي مضت لتعبر حواجز الزمان لتردد الأجيال صداها إلى آخر التاريخ.