الدكتور عصمت سيف الدولة
حقوقي عروبي مصري
(20 أغسطس 1923 - 30 مارس 1996)
ولد سيف الدولة في قرية الهمامية وهي قرية صغيرة بمركز البداري بمحافظة أسيوط في مصر. أكمل تعليمه الأساسي في قريته ثم انتقل إلى القاهرة ليكمل فيها تعليمه الجامعي، فحصل على ليسانس الحقوق عام 1946 م من جامعة القاهرة ثم على دبلوم الدراسات العليا في الاقتصاد السياسي عام 1951 م ودبلوم الدراسات العليا في القانون العام عام 1952 م من جامعة القاهرة، ودبلوم الدراسات العليا في القانون عام 1955 م من جامعة باريس، ثم الدكتوراة في القانون 1957م من جامعة باريس.
قبض عليه في أول أيام حكم السادات بتهمة التخطيط لإنشاء تنظيم قومي هدفه قلب أنظمةالحكم في العالم العربي، وهو ما سمي بعد ذلك بتنظيم "عصمت سيف الدولة" فاعتقل لأول مرة في 1972 حتى 1973. اعتقل مرة أخرى في عام 1981 م.
مؤلفات فكرية
* أسس الاشتراكية العربية
* نظرية الثورة العربية
* الطريق إلى الوحدة العربية
* مشكلة فلسطين من وجهة نظر قومية
* هل كان عبد الناصر ديكتاتورا؟
* حكم بالخيانة
* هذه المعاهدة
* هذه الدعوة إلى الاعتراف المستحيل
* الاستبداد الديمقراطي
* عن العروبة والإسلام
* عن الناصريين واليهم
* حوار مع الشباب العربي
* النظام النيابي ومشكلة القومية
* وحدة القوي العربية التقدمية
مؤلفات قانونية
* دفاع عن ثورة مصر العربية
* دفاع عن الشعب
مؤلفات أدبية
* مذكرات قرية
* مشايخ جبل البداري
تأثر فكر عصمت سيف الدولة بفترة التغيرات العالمية ما بعد الحرب العالمية الثانية وحركة التحرر الوطني وانتشار الأفكار القومية بعد قيام ثورة يوليو في مصر والاتجاه نحو الأفكار القومية العربية والإشتراكية. سعى نحو إيجاد الأساس الفكري النظري للقومية والإشتراكية العربية. وكان لذلك اهميته بالنسبة للفكر القومي في فترة المد الأيديولوجي الشيوعي. كتب مؤلفا في الفلسفة أسماه جدل الإنسان في مقابل جدل المادة لماركس. واعتبره بمثابة الأساس النظري ل "نظرية الثورة العربية". نشر المؤلف أفكارا عن الحرية وتطور المجتمعات الإنسانية وقوانين تطورها واعتبر ان الإنسان محور وغاية للتطور.
منهج جدل الإنسان: فلسفة الحرية
دياب أبوجهجه
لقد كنت دوما من أشد المدافعين عن الفكر المنهجي العلمي في وجه الفكر التلفيقي، وما زلت، فللعلم منهجية وللواقع مقاربة وللعمل أسس. الا أن منهجية الفكر السياسي شيء والتحجر الفكري شيء آخر. منهجية الفكر تعني أن يكون عندنا خلفية معرفية واضحة عندما نقارب مسألة ما على المستوى السياسي الاجتماعي فلا نقفز من الشيء الى نقيضه ولا نلفق وفقا للظروف ولا نسقط في فخ الانتهازية خدمة للنافذين ولا الشعبوية استميالا للجماهير. فاذا كنا مع المقاومة مثلا نكون معها حتى ولو عاداها الحاكم ولو كرهتها الجماهير ونفرت منها النخب. نكون معها لأننا معها مبدئيا ومنهجيا ومعرفيا.
ان أي حركة سياسية لا منهجية فكرية لها ولا مرجعية معرفية لها ستقع عاجلا أم آجلا في فخ من الأفخاخ الموصوفة أعلاه فتهادن أوتنافق أوتجاري وتكون بالتالي قد تحولت من حركة سياسية ذات طرح وبرنامج الى بوق للحكم أوصدى للشارع.
وأنا بقدر حبي للمناهج أكره النظريات. فالمناهج مقاربات للواقع مبنية على خلفية معرفية أما النظريات فهي تطبيقات للمناهج قد تصيب وقد تخطئ. وهي تخطئ أكثر مما تصيب. والسبب هوأن النظريات غالبا ما تتجاوز المنهجية الى عملية انتاج واقع نظري بديل يتحول الى ثقبأسود يأكل الزمان والمكان. فيطبق المنهج على قراءة نظرية للواقع لا علاقة لها بالوعي المطابق، فينتج عن ذلك نظريات تدعي المنهجية العلمية وهي شاذة عن منهجها بقدر شذوذها عن واقعها.
ولنأخذ مثلا منهج جدل الانسان الذي أعتبره أهم طرح منهجي فلسفي سياسي اجتماعي في القرن العشرين. جدل الانسان لواضع اسسه الدكتور عصمت سيف الدولة منهج جدلي أي أنه ينتمي الى المدرسة الهيجلية-الماركسية في الفلسفة. وهووان كان في مضمونه شكل تجاوزا معرفيا هاما للهيجلية وللماركسية على حد سواء الا أنه لا ينكر أصله الهيجلي-الماركسي ويعتز به.تماما كما لم ينكر ماركس أنه تلميذ هيجل رغم أنه قلب جدله المثالي رأسا على عقب.
فمن مقولات جدلية ثلاث تعتبر قوانينا كلية عند هيجل وعند ماركس وكذلك عند سيف الدولة ( وهي باختصار: في الكون كل شيء متحرك- وفي اطار الحركة كل شيء يتأثر بغيره ويأثر به- وفي اطار التأثر والتأثير كل شيء متبدل ومتغير حتما) هذه القوانين الكلية تنطبق على كل ما هوفي الوجود، ينفرد الانسان عند سيف الدولة بالجدل قانونا "نوعيا" له. والجدل الذي اصبح انسانيا عند سيف الدولة (اي أن وعاءه هوالانسان) بعد ان كان مثاليا عند هيجل وماديا عن ماركس، لا وجود له الا في اطار الوجود البشري الفردي والاجتماعي. ففي الانسان تناقض بين قوتين احداهما مادية والأخرى فكرية ويلتقي التناقض بين المادة والفكر، بين الماضي والمستقبل وبين ظروف الانسان وتطلعاته في الانسان ذاته كوحدة من المادة والفكر. ويعبر هذا التناقض الجدلي (بين ظروف الانسان وتطلعاته) عن نفسه عند الانسان من خلال مشكلة. والمشكلة الجدلية هذه هي توق الانسان الى ردم الهوة بين ظروفه (ماضيه، واقعه المادي) وبين تطلعاته (فكره، طموحه، رؤيته). أي ردم الهوة بين ما هوكائن وما يجب ان يكون (وفقا للانسان). ويحاول الانسان حل هذه المشكلة الجدلية بالعمل من أجل تحويل واقعه وتغييره باتجاه تطلعاته وهوبقدر ما ينجح بذلك يكون قد تقدم. الفكرة المنهجية عند سيف الدولة بسيطة جدا ولكنها في تشعباتها تغطى الحراك البشري في بعديه الفردي والاجتماعي كليا.
وجدل الانسان يعلمنا أن الانسان الذي يريد التغيير دوما، سواء كما أو نوعا، لا يستطيع الا انيكون تطلعات تصطدم مع واقعه فتولد مشاكلا جدلية يسعى الى حلها بالعمل. ولكي يحلها عليه أولا أن يعرف واقعه. لأن معرفة الواقع معرفة مطابقة بأعلى قدر ممكن هي شرط اساسي لتغييره. فمن لا يعرف واقعه لن يدرك أبعاد تطلعاته وحيثياتها وسيواجه مشاكل وهمية لا وجود لها ويغفل عن مشاكل أخرى مستفحلة. ومن لا يعرف واقعه لا بد له من التراجع الى الوراء وما محاولاته لحل المشاكل الوهمية المبنية على القراءة المغلوطة للواقع الا كتخبط الغريق العشوائي الذي يساهم في اغراقه. اذن البداية هي مع المعرفة لأنها الحركة الجدلية الأولى وبالتالي تكون حرية المعرفة الحرية الجدلية الأولى. واذا عكسنا هذا على المستوى الاجتماعي نقول أن مجتمعا جاهلا تقل فيه المعرفة ويغفل عن واقعه لا فرصة له بالتقدم وهوالى تقهقر حتمي. فالمعرفة (العلم) وحريتها وتوفرها هي الشرط الأول للتقدم.
بعد تشكل المعرفة كوعي مطابق للواقع على الانسان أن يخلق تصورا لما يريده ولتطلعاته لما يجب أن يكون. على الانسان أن يشكل رايا وهدفا وحلما وهكذا تكون حرية الفكر والرأي الحركة الجدلية الثانية. ومن لا راي له ولا تطلعات له يكون قد استقال من الواقع ومن الوجود فهواما متنسك في محراب ما واما انسان بهيمي يأكل ويشرب وينام كالحيوانات فلا يعمل ولا يسعى. واذا عكسنا ذلك على المستوى الاجتماعي نقول أن مجتمعا لا تتوفر فيه حرية الراي والفكر من أجل طرح وتبادل حلول للمشكلات التي تواجهه لن يتقدم حتى ولوتوفر فيه العلم والوعي وسيتعطل جدله الاجتماعي ويكون التقدم الضئيل الموجود فيه فرديا بمعظمه.
بعد تعمق المعرفة وتشكل الرأي بناء على الفكر، على الانسان محاولة تطبيق حله الذي أنتجه فكره للمشكلة الجدلية من خلال العمل. وهنا تكون لحظة العمل الحركة الجدلية الثالثة التي يحاول الانسان من خلالها تحويل ما هو كائن الى ما يجب ان يكون وتطويع واقعه ليناسب تطلعاته. فيكون الانسان بالعمل مغيرا وفاعلا وجدليا. والعمل يوصل العملية الجدلية الى نتيجتها المركبة بأن تستخلص من الشيء ونقيضه مركبا هوواقع جديد مختلف عن ما كان ولكنه مختلف حتما عن التطلعات النظرية لما يجب أن يكون. فيتفاعل الواقع الجديد مع الفكر البشري لينتج تطلعات جديدة وحلقة جدلية جديدة. وهكذا فان أي انسان يدرك واقعه وكون فكرا وتصورا لتغييره ولكنه عجز عن العمل من أجل تحقيق هذا التصور على ارض الواقع لا بد له من أن يفشل وأن يتراجع. واذا عكسنا هذا على المستوى الاجتماعي نقول بأن شعبا متعلما ويتمتع بحرية الرأي والفكر ولكنه لا يتمتع بحرية العمل السياسي والاجتماعي وغيره أو تنقصه الارادة والعزيمة للعمل، سيبقى شعبا جامدا أو يتراجع حتما.
هذا هو جدل الانسان بتبسيط شديد ومن يريد أن يعرف المزيد فليقرأ كتاب أسس الاشتراكية العربية لعصمت سيف الدولة. ولكن ما يعنينا هنا هوأن هذا المنهج البسيط جدا والذي قد يبدوبديهيا للبعض اذا ما تم اتخاذه منطلقا معرفيا له تشعبات هائلة فهو: يجعل من الانسانمحور التاريخ، محررا اياه من العبودية، لمركبات جدلية أخرى تقود التاريخ، كالمثل كما ادعى هيجل، أوالمادة كما أكد ماركس، وبالتالي ناسفا أسس الافكار السلطوية، من بيروقراطية هيجلية، الى دكتاتورية طبقية ماركسية، الى الالهة عند النظريات الدينية، الى اليد الخفية للسوق عند الليبرالية الاقتصادية، ليصل الى قيادة الانسان لتاريخه، وتأكيد وجهة هذا التاريخ التي هي الانعتاق الكلي للانسان في حرية مشبعة شاملة.
وجدل الانسان بتأكيده على نزوع الانسان للانعتاق من ظروفه، محققا ارادته من خلال عمله، ومغيرا واقعه دوما في حركة تاريخية جدلية مستمرة، يثبت مفهوم التقدم في التاريخ ويربطه بحرية الفرد وحرية المجتمع. فالحرية في جدل الانسان تبدأ مع الفرد في حركات جدلية ثلات معرفة ورأيا وعملا. وتستمر مع المجتمع على خط مواز. ففرديا لا يقبل جدل الانسان الجهل ولا الأمية ولا يقبل مجتمعيا كهنوتية العلم ولا حصريته ، ولا يقبل كذلك الاساطير والتلفيق ويشدد على ضرورة خلق وعي مطابق للواقع.
ولا يقبل جدل الانسان قمع الرأي والفكر ويرفض التابوويرفض كم الأفواه ومجتمعيا يرفض احتكار وسائل التعبير عن الرأي مثل الاعلام وغيره فكل رأي مباح وعليه أن يرمى على منبر المجتمع ويحصل على قنوات الوصول الى الناس. كما يرفض جدل الانسان وصاية انسان على غيره وتبعية الانسان فكريا لغيره تحت أي حجة كانت لأنها كلها آفات تعطل العملية الجدلية وتدفع المجتمع الى الخلف.
ولا يقبل جدل الانسان شل الانسان ومنعه من العمل لتحقيق أهدافه لا فرديا ولا جماعيا. ولا حدود فرديا الا حدود القانون أي حدود حريات الآخرين ولا حدود مجتمعيا وسياسيا الا حدودالضروة في تنظيم الية الحكم. لأن الآراء تتعدد والحلول المجتمعية لمشاكل واحدة تختلف ولا يمكن تطبيق كل الحلول دفعة واحدة. ولذلك يتماهى جدل الانسان مع الفكر الليبرالي في حل مشكلة الديموقراطية من خلال عقد اجتماعي ينشأ دولة قومية أساسها المواطنة تتشكل فيها أحزاب متعددة وفقا للآراء المتعددة وتتنافس في التعبير عن رأيها بكل حرية وطرح وجهات نظرها وحلولها للمشاكل الاجتماعية المشتركة على الناس الذين ينحازون لهذا الحزب أوذاك ويفوضون حزبا منها أن يحكم الى حين من خلال انتخابات حرة. وعندما يحكم هذا الحزب يحتكر جهاز الدولة المشترك من أجل تطبيق حلوله ولكنه لا يستطيع أن يحتكر لا المعرفة فتبقى الشفافية اساسا ولا حرية الرأي فتبقى كل الآرء ومنها الآراء المعارضة للفريق الحاكم مطروحة وتبقى المنابر مشرعة لها. ولكن جدل الانسان في فهمه للديمقراطية يتخطى الليبرالية لأنه يطرح أن المواطنين ممثلين بدولتهم الديموقراطية عليهم أن يتحكموبكل الأدوات والموارد التي تتوفر من أجل حل المشاكل المشتركة وأن احتكار جزء منها سواء كأدوات الانتاجالاقتصادي أوالثروات سيؤدي حتما الى ضرب قدرة المجتمع على حل مشاكله والتقدم. ومن هنا تكون الاشتراكية ليس كنظام قمع طبقي وانما كنظام ديموقراطي للاقتصاد هي المكمل الطبيعي للحريات السياسية.
فتمركز أي قوة كانت، سواء كانت رأس المال، أوالعلم، أوالسلطة الدينية، أوالاعلام، الخ بيد نفر من الناس دون غيرهم يضرب التوازن الاجتماعي ويؤدي الى انتهاء الديموقراطية عمليا. ومن هنا فان جدل الانسان يدعوحكما الى مجتمع "توزيعي" للسلطة وللقوة، تكون فيه كل مصادر النفوذ والسلطة والـتأثير موزعة ولا مركزية أفقيا وعاموديا.
لم يكتب عصمت سيف الدولة كل هذا ولكنه أعطانا المنهج الذي يوصلنا الى كل هذا، ويوصلنا أيضا الى رفض بعض ما كتب في انتاجه النظري. فالرجل كان منسجما مع نفسه وكان يعرف جيدا الفرق بيت المنهج والمنطلقات المعرفية، وبين النظرية من حيث كونها تطبيق للمنهج بناء على اجتهاده هو. وسيف الدولة طبق المنهج في زمانه ومكانه هووبناء على المعطيات التي توفرت لديه هو. فجاء معظم ما كتب دقيقا ورؤيويا ثاقبا، اما بعض ما كتب فجاء على خلاف ذلك، فقد كان بعض ما كتب في آخر انتاجه "هيجليا" أكثر منه "عصمتيا" ولنا في ذلك حديثآخر.
ولكن الرجل ترك لنا منهجا انسانيا في العمق لأنه يربط كل شيء بالكائن البشري وتطلعاته ونزوعه نحوالحرية فلا يقزمه أمام "روح شعب" في "عالم المثل" كما فعلت الجدلية المثالية ولا يسحله وراء طاحونة أدوات الانتاج كما تفعل المادية التارخية وهذا المنهج قادر على اثراء أي فكر حر طامح نحومجتمع تقدمي وديموقراطي وعادل.