الأستاذ عاصم البيطار
الأستاذ عاصم البيطار ...
وأمانة العلم والتعليم
د. محمد حسان الطيان
رئيس مقررات اللغة العربية بالجامعة العربية المفتوحة بالكويت
[email protected]
{
وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا
وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ
}
هذا
رجلٌ.. عَلَمٌ.. فَذٌّ.. صان أمانة العلم،
وحمل راية العربية، وجاهد دونها، وعلّم أجيالا من عشاقها، وارتحل في سبيلها، وهُدي
إليها. ثم مات دونها..
لم
تنحن له هامة، ولا هدأ له جانب، ولا انخفضت له راية.بل بقي
واقفا مجاهدا لا يلين له جانب، ولا ينعطف له سبيل. حتى لقي ربه على جهاده وسعيه
فعسى أن يكتبه الله مع المجاهدين ويحشره مع المتقين، ويبعثه مع المحسنين، ويعلي
قدره يوم الدين. يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.
لا
أعلم
أحدا من بين أساتذتنا كلهم على علو شأنهم ورفعة قدرهم أفاد طلبته كما أفادهم
الأستاذ عاصم البيطار، ولا أعلم أحدا منهم أحبه الطلبة كما أحبوا الأستاذ عاصم، ولا
أعلم أحدا أبعد أثرا في الطلبة من الأستاذ عاصم.
الأستاذ عاصم في الوسط، وفي أقصى اليمين الدكتور محمد حسان الطيان
ذلك
أنه كان معلما بحق، اكتملت
لديه المعرفة النحوية، و استوت في ذهنه التحليلات الصرفية، وجمع إليها صنوفا من
الخبرة التربوية وضروبا من الآداب السلوكية، وفنونا من الأخلاق الاجتماعية، وزين
ذلك
كله بتاج من مكارم الأخلاق..فما شئت من علم في حلم، ومعرفة في فهم، وتربية في
عزم، أنس في حب، وتعمق في فكاهة، ودراية في سماحة.
*رئيس مقررات اللغة العربية في الجامعة العربية المفتوحة بالكويت, وعضو مجمع اللغة
العربية بدمشق.
والعلم إن لم تكتنفه شمائل
تعليه كان مطية الإخفاق
لا تحسبن العلم ينفع وحده
ما لم يتوّج ربه بخلاق
قابلته منصرفي من حضور مناقشة للدكتوراه في كلية الآداب بجامعة دمشق فسلمت سلام
المشتاق لأستاذ باعدت بينه وبين تلامذته الأسفار، ثم قلت له: مازلت أذكر يا سيدي
أنك أكثر من درّس في قسم اللغة العربية نفعا للطلبة وإفادة لهم، وبناء لقاعدتهم
النحوية فما سر ذلك؟
فأجاب: يا بني لقد كنت في غابر أيامي مدرسا للعربية في ثانويات دمشق. وعندما خير لي
أن أدرس النحو في الجامعة أخذت للأمر أهميته وأعددت له عدته واحتشدت له بكل ما أملك
فلم أدع مرجعا للنحو إلا عدت إليه، عاكفا عليه، باحثا فيه، وأخبرت والدي الشيخ بهجة
البيطار – رحمه الله- فقال: يا بني حسنا صنعت، ولكن عليك قبل ذلك أن تصل إلى قلب
الطالب فإذا أحبك الطالب انتفع بك وأفاد منك، وإلا أعرض عنك ولم يفدك علمك شيئا.
اجعل علاقتك بطلبتك علاقة ود ومحبة، فإذا أفلحت في ذلك أوصلت إليهم ما تريد من
معرفة، وإلا بقيت معرفتك لنفسك. ابن مع الطالب جسرا تعبر فيه إلى قلبه، وإذا ملكت
قلبه أمكنك من عقله.
وكذا كان... فالطلبة كل الطلبة كانوا يجمعون على حب الأستاذ عاصم. والطلبة كل
الطلبة كانوا يحضرون محاضرة الأستاذ عاصم، والطلبة كل الطلبة كانوا يفيدون من علم
الأستاذ عاصم..والطلبة كلهم ينهلون من علم الأستاذ عاصم.
وجه
عليه من الحياء سماحةٌ ومحبة تجري مع الأنفاسِ
وإذا أحب الله يوما عبده أجرى عليه محبةً في الناسِ
كنا
نحضر محاضرة الأستاذ عاصم فنجد فيها العلم والمتعة والمعرفة والأنس والفن والفكاهة
والنحو والأدب. ما أذكر أنه بدأ محاضرة من محاضراته كما يبدأ معظم الأساتذة
محاضراتهم فيلجون إلى موضوع بحثهم دون مقدمات أو استهلالات.
فكما أن لكل قصيدة مطلعا يحشد فيه الشاعر كل فنه وبلاغته وظرفه وطرافته كذلك كان
لكل محاضرة من محاضرات الأستاذ عاصم مطلع يأخذ فيه بيد الطلبة إلى بحر النحو
العميق، فإما أن يبتدئ ببيت شعر، أو آية كريمة، أو حديث شريف، أو قصة نادرة، أو خبر
طريف، أو مثل معجب، أو قصيدة وافاه بها طالب من الطلاب، أو حدث كان له أثر في الناس
والمجتمع، أو طرفة يحكيها، أو حكمة يرويها، أو حادثة جرت له في الجامعة، أو من أحد
من رجالات العلم الذين تطرب لذكرهم الأسماع وتشد لسيرتهم الألباب، ويحلو بحديثهم
المكان والزمان. وما هو إلا أن تجد نفسك وسط بحث من بحوث النحو أو درس من دروس
الصرف، أو إعراب من الأعاريب أو تحليل من التحليلات، يرسمه الأستاذ على السبورة بخط
بلغ الغاية في التجويد والإتقان والملاحة والإحسان,وكأنه اللوحة الساحرة أبدعتها
ريشة فنان.
ويأتي كل ذلك سهلا ميسورا لا تكاد تجد فيه أي عنت أو صعوبة .فما كان أحد في محاضرة
شيخنا البيطار يشعر بملل أو يداخله الملال، وما كان أحد في محاضرة شيخنا البيطار
ينصرف عنه بكلمة أو يتشاغل عنه بحديث، بل كان الجميع يستمعون وكأن على رؤوسهم
الطير، ويحدجونه بأبصارهم وينصتون إليه بأسماعهم ويحفونه بقلوبهم.
أرأيت إلى الشاعر الملهم ينشد وسط الجموع قصيدة عصماء والقلوب تهفو إليه من كل
جانب... أرأيت إلى الخطيب المصقع يهدر بخطبة عصماء والجموع تحيط به من كل جانب...
أرأيت إلى الإمام الخاشع يؤم جموع المصلين يتلو آيات الرحمن يحبرها تحبيرا
والمؤتمون مأخوذون بما يرتل متابعون لما يتلو . كأني بالأستاذ عاصم كان كذلك رحمه
الله وأسبغ عليه شآبيب مغفرته.
كان
– والله – سمحا سهلا، كأنما بينه وبين القلوب نسب، أو بينه وبين الحياة سبب، وإنما
هو عيادة مريض وتحفة قادم وواسطة عقد.
فتى صيغ من ماء البشاشة وجهه
فألفاظه جود وأنفاسه مجد
ما
أذكر أني تخلفت عن محاضرة من محاضراته، بل إني كنت ألحق به إلى كلية الشريعة فاستمع
إلى محاضراته هنالك.
وانقضت السنة الأولى ونجحت في مادته، وكنت الأول فيها على أقراني، ولكني لم أترك
محاضراته أبدا، ولم يكن يحاضر إلا على طلبة السنة الأولى، فكنت تراني كلما سنحت لي
الفرصة أنسل بين طلبة السنة الأولى فأقاسمهم متعة الحضور عند الشيخ عاصم البيطار،
ومن هنا أن تعرفت إلى كثير من نجباء الطلبة في الدفعات التي تلت دفعتنا من مثل
الأستاذ الدكتور محمد الدالي، والأستاذ الدكتور عبد الكريم حسين، والأستاذ عمر
مارديني، والأستاذ صالح السمر، وغيرهم ممن صار ملء السمع والبصر.
ولازلت أذكر تلك المحاضرات التي كانت تبدأ بمناقضات شعرية يتزعمها طالبان من شعراء
تلك الدفعة لقب أولهما نفسه بالثعلب، ولقب الآخر نفسه بالعقرب، وعشنا بينهما زمنا
رغدا صنعه شيخنا البيطار رحمه الله.
وكنت أختلف إلى مكتبه في القسم أسأله عن أشياء عنّت لي أو صعبت عليّ أرجو منه بسط
الكلام عليها، وكثيرا ما كنت ألقى أستاذنا النّفاخ هناك- وكانا في مكتب واحد- فما
أذكر أني سألته عن مسألة بحضور النّفاخ إلا أحالها إلى النّفاخ بأدب بالغ وخلق كريم
نادر.
ولم
نكن آنذاك نجرؤ على سؤال النّفاخ أو حتى الكلام معه، بل نكتفي بسماع محاضراته ثم
نتهيب أن نلقاه، فكان لقاؤنا له بمعيّة الأستاذ عاصم تمهيدا لصحبته وملازمته التي
امتدت نحوا من خمسة عشر عاما نهلنا من علمه ما شاء الله لنا أن ننهل، وأفدنا من
معرفته ما شاء الله لنا أن نفيد. رحمهما الله وبرد مضجعيهما، وجزاهما عن العربية
وأهلها خير الجزاء.
ولم
يقتصر نفع أستاذنا البيطار علينا في جامعة دمشق, بل مضى ضاربا في الأرض ليفيد
الطلبة في جامعات شتى , كجامعات المملكة العربية السعودية وجامعات
الإمارات...وليفيد أهل العلم الذين عرفوا فضله وأمُّوهُ من كل مكان فكان نعم المجيب
لهم ونعم المعين على نوائب دهرهم .بل إن نفعه امتد ليشمل المشاركة في الموسوعات
العلمية, كالموسوعة العربية الكبرى وموسوعة العماد, والإشراف اللغوي على المجلات
الراقية, كمجلة الفيصل التي استأثرت بجهوده نحو عقد من الزمن فكان له أثر واضح في
سلامة لغتها ونضارة أسلوبها.
ثم
عاد إلى بلده ليتوج عمله العلمي بانتخابه عضوا عاملا في مجمع اللغة العربية بدمشق,
وليتوج رسالته التعليمية بالتدريس في قسم التخصص بمعهد الفتح الإسلامي- فرع جامعة
الأزهر بدمشق, حيث أمضى آخر أيامه على منبر التعليم الذي ارتضاه لنفسه,
ولقي وجه ربه في يوم الجمعة الأزهر(17 جمادى الأولى1426ه = 24/6/2005م) .
بقي
أن أقول إن شيخنا الأستاذ عاصم كان سليل بيت أقام فيه أهلوه للعلم دولة وللخلق
والفضل والنبل أمة؛ فأبوه بهجة الشام وريحانتها الشيخ بهجة البيطار، وجده علامة
الشام ومؤرخها الشيخ عبد الرزاق البيطار، ولو رحت أعدد أعلام ذلك البيت من أساطين
العلم وعدوله لما وسعتني هذه العجالة، وإنما حسبي أن أشير إلى أن آل البيطار كانوا
من أشهر بيوتات العلم في دمشق الشام، بل إن أثرهم قد امتد ليشمل مناطق كثيرة في
عالمنا الإسلامي.
وفي
جده الشيخ عبد الرزاق البيطار يقول الشاعر:
أفديه عبدا إلى الرزاق ذا شيم
تألفت من سناها غرة الزمن
وسيدا من بني البيطار والده بدر الهدى حسن ناهيك من حسن
وفيه وفي آبائه يصح قول الشاعر:
وما يك من خير أتوه فإنما
توارثه آباء أبائهم قبلُ
وهل ينبت الخطي إلا وشيجه
وتغرس إلا في منابتها النخلُ
سعى بعدهم قوم لكي يدركوهمُ
فلم يفعلوا ولم يليموا ولم يألوا
رحمه الله، وجزاه عن العربية وأهلها خير ما جزى عالما عن قومه ولغته.
نشر هذا المقال في مجلة البيان
الكويتية العدد 440 مارس 2007