تحيةً واجبةً للدكتور جابر قميحة

ويظل يعلو صوت المئذنة

أ.د/ جابر قميحة

[email protected]

د. خالد فهمي

 لم أزل مذْ عرفته وهو قائمٌ يُحاضر طلابه في كلية الألسن منذ ما يقرب من عشرين عامًا أسيرًا لحيويته، وجهاده العلمي، وخفة رُوحه، وطلاقة لسانه، ولم أزل كذلك إلى اليوم.

والحديث عن جابر قميحة لا يصح أن يكون من باب المجاملة، ولا يليق بأحدٍ أن يتصور ذلك؛ لأنَّ الرجل يُمثِّل قيمةً راقيةً في مجالاتٍ متعددة، سنفرغ لها بعد قليل، وليس يصح كذلك أن يكون من باب التهنئة وحدها بعيد ميلاده الذي ودَّع فيه السبعين من عمره المبارك المديد إنْ شاء الله تعالى بقليل، وإن كان ذلك تقليدًا علميًّا تعرفه أروقة العلم والأكاديميات الراقية، ومن هذا المكان أدعو كل محبيه للنهوض بكتابٍ تذكاري يُدشن جهاده العلمي والإبداعي والدعوي.

 إنَّ الحديث عن جابر قميحة فوق ما يُمثله من وجوب سوق التهنئة التي هو بها جدير، يُمثِّل ترسيخًا لقيمةٍ نحن أولى الناس بالحفاظ عليها وفاءً لعطاءٍ لم يزل غامرًا ممتدًا، وتقديرًا لجهادٍ لم يزل موصول الحلقات، وانتفاعًا بقامة علمية وإبداعية ودعوية لا نظيرَ لها، وتمثلاً لنوعٍ جديدٍ من الوقف الشرعي يحبس فيه الإنسان نفسه، ومواهبه، ووقته لله سبحانه.

 من أجل هذه القيم العالية وجب إزجاء التحية لهذا العالم الرفيع القدر، السامي المكانة، وهو صوت بالمعنى الأصولي للكلمة، إذْ التنويه بجهد هذه النفس الراقية من ضرورات الوقت، وواجبات المرحلة، وفروض الإيمان على كلِّ من عرفه، ولمس جهاده!

 والمتأمل لهذا الحابس نفسه لله سبحانه يستطيع أن يقف على مناطق افتتحها لم يعرف تاريخ الدرس الأدبي والنقدي قبله سبيلاً إليها يمكن إجمالها فيما يلي:

 أ- اختراعه مصطلح (الأدب الرسالي) وهو يقصد به التأريخ والتبشير بالآداب التي تحمل همَّ الدعوة، وتتعاطى هموم الإنسان الحقيقية المنبثقة من التصور الإسلامي، ومخطئ مَن يتصور أن العناية بهذا الطرح كان متأخرًا بعد أن أوقف نفسه لخدمة الجهاد الإسلامي الفكري بعدما ترك العمل الجامعي، الحق قاضٍ بأن نقرر أن بوادر كثيرة مبكرة ظهرت في أعماله العلمية كانت ترهص بالمآل الذي توصَّل إليه من مثل كتاباته عن (صوت الإسلام في شعر حافظ إبراهيم)، وملحمة (كلمة الدم)، وهي الدراسة التي خصصها لدراسة الشاعر الفلسطيني عبد الرحيم محمود، بل يمكن العودة بهذا المنحى إلى أبعد من ذلك في دراسةٍ عن التراث الإنساني في شعر أمل دنقل.

 ولم يقف اهتمامه بالأدب الرسالي أو الأدب الدعوي عند حدود الدراسة النقدية لكثيرين من المبدعين الشعراء، ولكنه تخطاه ليؤرخ للنقاد الرساليين أو النقاد الدعاة فيما افتتح به حديثه عن الاتجاه النقدي عند المرحوم الدكتور علي عشري زايد رحمه الله تعالى.

 وقد تعانق مع هذا كم غير قليل من دواوين أخلصها جابر قميحة لخدمة قضايا الدعوة الإسلامية المعاصرة وقضايا الدفاع عن الإسلام من مثل: "لجهاد الأفغان أغني"، و"لله والحق وفلسطين"، و"حسبكم الله ونعم الوكيل" وغيرها.

 ب- أدب القدس: كان لإيمانه الجارف الذي استوطن قلب جابر قميحة وعقله بقصيدة الإسلام الكبرى في العصر الحديث، وهي قضية العمل لتحرير القدس أثرٌ جبارٌ في توجيه جزءٍ كبيرٍ من نشاطاته الفكرية والإبداعية، فأرَّخ للقضيةِ من خلال دراسة أكبر الشعراء الذين خدموا القضية بأشعارهم، وهو ما نلمحه في دراسته عن عبد الرحيم محمود، وما كتبه من قصائد كثيرة عن القضية الفلسطينية.

 غير أن الجديدَ في هذا الباب هو ابتكاره مصطلح (أدب القدس) والتحشية عليه والدأب على خدمته بما فعله من خدمة المبدعين من الشعراء الشباب والتبشير بشعرهم المدافع عن القضية، حتى صار أشبه شيء بالباب الثابت في مجلة القدس (التقرير الشهري) الذي يصدره مركز الإعلام العربي بالقاهرة للدرجة التي يمكن أن نُقرر معها أنه بالإمكان أن يعد عنوانها (أدب القدس) مادة جديرة لأن يكون ثمة مقعد مستقل لتدريس هذا الفرع في الأكاديميات المختلفة.

 ج- العناية بالثقافة الإسلامية المعاصرة بحيث لا تُخطئ العين في التقاط الأدلة على ذلك، فهو المعني بتبصير الشباب المسلم بآثار التنصير والاستشراق ومؤامراته، وهو المعني بالدفاع عن العربية وبيان المخاطر التي تحدق بها، ولا سيما من تأثيرات وسائل الإعلام المختلفة، وهو المعني بالتأصيل للمعارضة في الإسلام بين النظرية والتطبيق، وهو المعني بتأمل سيرة المصطفى، معنيًا بالتقاط فوائد من طول صحبته، وهو المهموم بقيم الأمة وتحرير المداخل لها، بضبطها في زمامٍ يرمي إلى التمييع وضياع الحدود.

أما إبداعه الشعري فيكفي أن نقرر أنه علم على نجابة الحركة الشعرية المنتمية للإسلام.

والحق تقتضي أن نقرر أن أية قراءة اجتماعية لأحداث الحركة الإسلامية في مصر تحديدًا لا تسترشد شعر جابر قميحة سيفوتها جانبٌ كبيرٌ جدًّا من الأصول اللازم توافرها في هذا المجال.

 والحق يقتضي أن نقرر أيضًا أن القصيدة الجديدة (قصيدة التفعيلية) ميدان بكر لم يمحص التمحيص الكافي في استجلاء عناصر الإبداع في شعر قميحة بلا جدال.

 باسم هذا الإبداع المتجلي في ميدان من ميادين الفكر الإسلامي المعاصر ينبغي أن نُقيِّم عطاءات جابر قميحة باسم الوفاء الذي ينبغي أن يحل في أوساطنا لأصحاب المقامات الرفيعة من علمائنا ونقادنا ومبدعينا ومفكرينا، يجب أن نُحيي عطاء جابر قميحة، وباسم مواجهة الطغيان ومقاومة الاستبداد والإعلاء من قيمة جهاد اللسان وجب أن نزفَّ التحايا لجابر قميحة.

 إننا إذْ نفتتح الكتابة عن قيمةٍ كبرى تمثَّلت في الرجل المجاهد نرد له جميلاً سبق في ترسيخ هذه القيمة يوم كَتَبَ ممتدحًا جهاد إبراهيم عوض العلمي، وتبتل النبوي شعلان في مجال خدمة النصوص التراثية وتحقيقها ونشرها.

 فيا جابر جبر الله بك نقصنا وملانا بك، ونفع بعلمك، وحرَّك الأمة بشعرك، وجعلك صدَّاحًا بالحق، فيك وبعطائك سيظل يعل صوت المئذنة.

-- ---------

* كلية الآداب جامعة المنوفية