الشيخ طاهر الجزائري
المصلح الذي أخذ على عاتقه إيقاظ الشعوب العربية من غفوتها
الشيخ طاهر الجزائري |
محمد فاروق الإمام |
الشيخ طاهر بن محمد صالح بن أحمد بن موهوب السّمعوني الجزائري، ولد في دمشق سنة 1852م. التي هاجر والده إليها سنة 1847م، وكان من قضاة المالكية في الجزائر, وعندما استقر في دمشق أصبح مفتياً للمالكية فيها.
درس الشيخ طاهر في مدارس دمشق, حيث دخل إلى المدرسة الجقمقية، وتخرّج على يد الشيخ عبد الرحمن البوشناقي، فأتقن العربيّة والفارسيّة والتّركيّة ومبادئ العلوم المختلفة.
اتصل بالعالم الشيخ عبد الغني الميداني، وكان لـه تأثير كبير على شخصية الشيخ طاهر, وقد أنشأه على الأصول العلمية الصحيحة, ومحاربة الخرافات, والتسامح الديني. ويذكر أن الشيخ عبد الغني الميداني قد حال سنة 1860م بدمشق, دون تعدي فتيان المسلمين على جيرانهم المسيحيين, فأنقذ ألوفاً من القتل في تلك الفتنة المشؤومة. ومن المفيد تذكير القارئ الكريم بأن الشيخ عبد الغني كان سلفياً, تعلم في الحجاز, ولكنه لم يكن تكفيرياً, مبغضاً للناس, بل كان يفهم الدين على أنه معاملة كما قرر الرسول صلى الله عليه وسلم. وقد تأثر الشيخ طاهر به, فكان يأخذ من أصل الشريعة باجتهاده الخاص, ولا يعادي أئمة المذاهب المعروفة, وكان من عادته أن يصحب أصحاب الفرق المختلفة مهما كانت طريقتهم.
تعلّم الشيخ طاهر الفرنسيّة والسّريانيّة والعبرانيّة والحبشيّة والبربريّة. وتولى التعليم لأول أمره في المدرسة الظاهرية الابتدائية. وكان عضواً في (الجمعية الخيرية) التي أُسست سنة 1877م، والتي استحالت إلى (ديوان معارف), في عهد والي الشام مدحت باشا.
عُيّن الشيخ طاهر مفتشاً عامّاً على المدارس الابتدائية في عام 1877م, فألّف كتب التدريس للصفوف الابتدائية في جميع الفروع, منها: "مدخل الطّلاب إلى علم الحساب", و"رسالة في النّحو", و"منية الأذكياء في قصص الأنبياء", و"الفوائد الجسام في معرفة خواص الأجسام", و"إرشاد الألباء إلى تعليم ألف باء", وغيرها كثير. وعمل على افتتاح كثير من المدارس الابتدائية, حيث تم افتتاح تسع مدارس في مدينة دمشق منها اثنتين للإناث. فجعله الوالي مفتشاً عاماً للمعارف في ولاية سورية. فكان يعمل على توعية الناس, ونشر العلم ومحاربة الخرافة, والاعتزاز بالعروبة والإسلام.
أأنشأ المكتبة الظّاهريّة، والمكتبة الخالدّيّة في القدس. وتحمّل في سبيل ذلك عداوة الكثيرين ممن استحلوا أكل الكتب والأوقاف.
وفي سنة 1898م, عُيّن مفتشاً على دور الكتب العامة, وظل في وظيفته تلك أربع سنوات, ولكنه أثار حفيظة الأمن بسبب نشاطه وأفكاره التي كان يسعى لبثها في عقول طلابه ومريديه, حتى هاجم الأمن بيته وعاثوا فيه فساداً, فاضطر إلى التواري عن الأنظار, وأخيراً قرر الهجرة إلى مصر, فوصلها سنة 1907م, وسكن في بيت صغير واجتنب الناس إلا بعض العلماء الذين اتصلوا به بغية الإفادة من علمه.
أولع الشيخ طاهر باقتناء المخطوطات, وحافظ عليها إلى أن ألجأته الظروف إلى بيع بعضها للإنفاق على نفسه, رافضاً مبادرات قام بها بعض أصدقائه وطلابه لمساعدته, منعته من ذلك عزة نفسه, وعفته.
يذكر محب الدين الخطيب وهو أحد تلاميذ الشيخ طاهر, أنه حاول مساعدة الشّيخ طاهر عندما ألجأت الحاجة هذا الشّيخ إلى بيع مخطوطاته ليعيش بثمنها، فتوسّط له مع بعض معارفه لدى الخديوي لإجراء راتب للشّيخ من الخزينة الخاصّة، فرفض هذا بإباء. وقال السّيّد محب الدّين معلّقاً على هذه الحادثة: "فظهر لي أنّني لا أزال أجهل تلك النّفس الكبيرة, رغم معرفتي بصاحبها منذ طفولتي، فقد غضب الشّيخ طاهر من هذه الحادثة غضباً لم أعهده فيه من قبل".
وقد ذُكرت حوادث أخرى عن زهد الشيخ, وهي تظهر لنا جانباً مهماً من شخصية هذا العالم الفذ, فبالإضافة لزهده فهي تدل على حريته وإبائه, فقد منعته عزّته وصدقه ورغبته بعدم مصانعة الحكام عن قبول مثل هذه العطايا.
أمضى أيامه في القاهرة في التأليف والبحث العلمي. وكان لـه مراسلات مع المستشرقين من مختلف الجنسيات, وشارك في تحرير بعض الصحف.
وظل في القاهرة إلى سنة 1918م, حيث قرر العودة إلى دمشق بعد قيام الدولة العربية, ولكن المرض أخرّه, فعاد إلى دمشق سنة 1919م, وعُيّن مديراً لدار الكتب الظاهرية التي أسسها, وعضواً في المجمع العلمي العربي بدمشق.
وبعد أربعة أشهر من عودته توفي في 5 كانون الثاني سنة 1920م, ودفن في سفح قاسيون تنفيذاً لوصيته.
تمتع الشيخ طاهر بصفات مميزة, وغريبة, جعلت منه شخصية مختلفة ملفتة, وقد ذكر معاصروه كثيراً منها, وهي تدل على علو مكانته وطرافته.
كان الشيخ طاهر من الإصلاحيين الإسلاميين. وقد شعر بمدى الانحطاط الذي تعاني منه الأمة, وأرجع سبب ذلك للاستبداد, والفساد وسوء الإدارة العثمانية التي كان يديرها حزب الاتحاد والترقي الذي نشأ في حضن الماسونية في سالونيك وتربى على أعين قادتها.
وكان يسعى للعمل على نهضة الأمة وذلك بالأخذ بالعلم والمعرفة والأخلاق الفاضلة وأسباب الحضارة, دون التخلي عن الدين الإسلامي, بل إنه كان يؤمن بعظمة هذا الدين وصلاحه لكل زمان ومكان. ومن سيرة حياته نجد أن الشيخ كان من أولى اهتماماته:
1- الاهتمام بالعلم والتسلح به: كان يمضي وقته كله في العلم والبحث, عاش حياته وحيداً ولم يتزوج متفرغاً لتحصيل العلوم وتعليمها. وكان يهتم بالناشئة ويشجعهم على طلب العلم والبروز فيه ويحاول التيسير عليهم, وعدم تنفيرهم من طلب العلم. ومما نُقل عنه أنه كان يرشد تلاميذه قائلاً: "إن جاءكم من يريد تعلم النحو في ثلاثة أيام فلا تقولوا له إن هذا مستحيل بل علموه, فلعل اشتغاله هذه الثلاثة الأيام بالنحو, تحببه إليه". ولا يخفى علينا ما لهذا الإرشاد من فائدة عظيمة في بث الثقة في النفوس وتشجيعهاً على طلب العلم.
كما أنه اهتم بإصلاح التعليم, وافتتاح المدارس المتنوعة, وخصوصاً الابتدائية منها, رغبة منه في نهضة الأمة ورقيها. حيث كان يؤمن إيماناً راسخاً بأن نهضة الأمة هي في العلم.
2- الاهتمام باللغة العربية والتاريخ الإسلامي: يصف لنا أحد تلاميذه المقربين, وهو محب الدين الخطيب, أنه أحب اللغة العربية والعرب من أستاذه الشيخ طاهر.
يقول محب الدين: "من هذا الشّيخ الحكيم عرفت عروبتي وإسلامي، منه عرفت أنّ المعدن الصّدئ الآن الّذي برأ اللّه منه في الدّهر الأوّل أصول العروبة، ثمّ تخيّرها ظئراً للإسلام, إنّما هو معدن كريم, لم يبرأ اللّه أمّة في الأرض تدانيه في أصالته".
وقد استطاع الشيخ طاهر إقناع والي دمشق بضرورة تعليم العلوم باللغة العربية. واهتمام الشيخ طاهر باللغة العربية والتاريخ الإسلامي, هو اهتمام بالإسلام نفسه, وقناعة منه أن النهضة المرجوة لا تعني بأي حال من الأحوال نبذ الهوية العربية والإسلامية.
3- الاهتمام بتعلم العلوم العصرية واللغات الحية: لأن ذلك أحد أدوات النهضة. فالتعرف على تلك العلوم واللغات مهم جداً لمواكبة ركب الحضارة.
يقول محمد كرد علي: " اتسع صدر الشيخ لجماع علوم المدنية الحديثة إلا الموسيقى والتمثيل فلم يكن له حظ فيهما, وكانت سياسة الشيخ في التعليم محصورة في تلقف المسلمين أصول دينهم, والاحتفاظ بمقدساتهم وعاداتهم الطيبة وأخلاقهم القديمة القويمة, وأن يفتحوا قلوبهم لعامة علوم الأوائل والأواخر, من فلسفة وطبيعي واجتماعي على اختلاف ضروبها". كما اهتم بالصحافة والأدب ونشر الكتب والمؤلفات المفيدة.
4-
الدعوة إلى إصلاح العادات, ومحاربة الخرافات والخزعبلات: كان يقف بشجاعة في وجه
الجمود والتحجر, ويدعو إلى بذل الجهد لنهضة الأمة قدر المستطاع, كما أنه دعا إلى
استخدام وسائل الاتصال المتاحة في عصره لتوعية الناس, وردهم إلى جادة الصواب.
وفي رسالة بعثها لتلميذه محمد كرد علي تظهر لنا نظرته لخطة الإصلاح حيث يقول: "
ومما يهم الأمر فيه إصلاح العادات, فإن في الشرق كثيراً من العادات التي ينبغي
إبطالها كما أن فيه كثيراً من العادات التي ينبغي المحافظة عليها. غير أنه لا ينبغي
أن يستعمل التنكيت في ذلك, بل يستعمل مجرد البيان الدال على حسن الشيء أو قبحه.
5- مقاومة الحكم الاستبدادي ومعارضته: عادى الشيخ الحكم الاستبدادي ودعا الحكومة العثمانية التي كان يقودها رجال (تركيا الفتاة) إلى الإصلاح والعدل والشورى وحرية التعليم وحرية الصحافة, مما جعل الحكومة التركية تلاحقه وتضيّق عليه حتى اضطر إلى الهرب إلى مصر.
وعندما تم الانقلاب على السلطان سنة 1908م, فرح به الناس وهللوا له, ولكن الشيخ لم يفرح به, ولم يثق بمن قاموا به, وكان يقول: "وما هذا الانقلاب الخلاب إلا انتقال من نير استبداد الفرد إلى نير استبداد الجماعات". وبالفعل فقد صدقت رؤية الشيخ طاهر, وكان الانقلابيون أكثر استبداداً من السلطان نفسه, وهذا كان من الأسباب القوية لقيام الثورة العربية الكبرى, والتي فرح بها الشيخ وشجعها كثيراً, لأنه كان يعتبرها خطوة ضرورية لنهضة الأمة العربية. وساند الحكم العربي في دمشق, وكان يدعو الناس إلى الدفاع عن هذا الاستقلال.
لقد أخذ كثير من الناس, قديماً وحديثاً, على رجال العرب قيامهم بالثورة العربية الكبرى في عام 1916م. واعتبروا تاريخ سقوط الخلافة العثمانية تاريخ شؤم, جر على الأمة ويلات الاستعمار الأوربي, الذي ما زلنا نعاني من تبعاتها حتى اليوم. ولكن نظرة إلى سوء الإدارة الاتحادية التي كانت تهيمن على الحكم في اسطنبول, وتسلط الحكام واستبدادهم, وتجهليهم للأمة, يجعلنا نجد العذر لهؤلاء, ولا نلومهم لثقتهم بوعود الغربيين, لأنهم كانوا يرونهم أهل حضارة فوثقوا بهم وبوعودهم.
وهذا الشيخ طاهر نفسه على ما يذكر طلابه, كان واحداً من المعجبين أشد الإعجاب بالإنكليز, وخصائصهم, وسياستهم, وكان حسن الظن بوعودهم ومواعيدهم, يدل على ذلك كثير من أقواله وأفعاله. وقد نشر محمد كرد علي رسالة كان قد بعثها الشيخ طاهر إلى (مس بل) أمينة سر حاكم العراق, يقدم فيها بعض النصائح للإنكليز ليحسنوا تعاملهم مع أهل العراق، ظناً منه أن هؤلاء كانوا فعلاً حملة حضارة ورعاية ولم يكونوا مستغلين مخادعين.
لذلك فقد كان لانبهار كثير من هؤلاء الرجال بالحضارة الغربية دور كبير في رغبتهم بتلقفها ونقلها إلى بلادنا, والتمتع بالحرية والديمقراطية والمظاهر الحضارية الأخرى التي كانوا يتمنونها. ولم يجدوا غضاضة من التعاون مع الغربيين, طالما أن هدف هذا التعاون هو نهضة الأمة.
بالطبع فإن هذا لا يلغي وجود فئة عملت على مساعدة الغرب بعمالة مقصودة, ولا تخلو أمة من خونة عملاء, إلا أنه من الظلم الكبير وصف كل من اشترك بهذه الثورة, أو روّج لها, أو فرح بها بالعمالة للاستعمار, والعمل على هدم الخلافة.
عاش الشيخ طاهر في فترة مظلمة من تاريخ بلاد الشام خاصة والعالم الإسلامي عامة. وكان يعرف الفرق الشاسع بين موات الأمة العربية والإسلامية وبين الحضارة الغربية. لذلك فقد سعى إلى العمل قدر استطاعته من أجل نهضة هذه الأمة, التي كان يؤمن بعزتها وبخصائصها العظيمة.
وقد وصفه محب الدين الخطيب بأنه: "كان يعرف مواطن الداء في الدولة العثمانية, وفي الأمة التي أوقعها سوء الحظ تحت سلطانها, فكان بسبب ذلك يقدّر صعوبة موقفه, وما يمكن أن يتهدد حياته من خطر لو جاهر بكل ما يعرف, لذلك نصّب نفسه ميزاناً للحق".
ورغم كل ما كان يلمسه الشيخ طاهر من تدهور في حال الأمة, إلا أنه لم يكن قانطاً من التحرر أو يائساً من الإصلاح, وإنما كانت ثقته قوية بمستقبل الأمة العربية واستعدادها للنهوض من عثرتها متى أخذت بأسباب العلم وعوامل الحضارة.
كان الشّيخ طاهر "يرى أنّ الدّولة العثمانيّة موشكة على الانهيار, فيدعو العرب إلى التّأهّب بالعلم والأخلاق والتّجدد والتّحفّز, لنيل استقلالهم وصون بلادهم من أن تبتلعها حيتان الاستعمار, حتّى تقوّضت دعائمها, وتداعت عليها الأمم لاكتسابها واقتسام بلادها". وراح يبثّ هذه الأفكار بين طلابه ومريديه, وكان إخلاصه وثقافته العالية قد جعلا كلّ من يميل إلى الثّقافة والعلم والتّحرر يتقرّب منه وينهل من علمه. ولم يكن الشّيخ طاهر يفرّق بين أحد من هؤلاء, لا بسبب الدّين ولا المذهب ولا غير ذلك, مما جعل له شهرة كبيرة في الشّام.
وقد كان للشيخ طاهر طبقة من أقرانه النبهاء والمفكرين, على رأسهم الشيخ جمال الدين القاسمي إمام الشّام في عصره علماً بالدّين وتضلّعاً في فنون الأدب, وكان لـه نشاطات كبيرة, فقد رحل إلى مصر, وزار المدينة, ونشر بحوثاً كثيرة في المجلات والصّحف. ولـه مصنفات منها: "دلائل التّوحيد", و"ديوان خطب" وغيرها. وقد توفّي, رحمه الله, سنة 1914م.
ومنهم أيضاً الشيخ عبد الرزاق البيطار, من علماء دمشق الكبار, واشتغل بالأدب مدّة, له نظم وقصائد, ثم اقتصر في آخر أمره على علمي الكتاب والسّنة, وكان من دعاة الإصلاح. من أهمّ كتبه, كتاب "حليه البشر في تاريخ القرن الثّالث عشر", وقد توفّي في دمشق سنة 1916م.
ومن أصدقاء الشيخ طاهر أيضاً الشيخ سليم البخاري, وهو عالم أديب. تولى الإفتاء بالجيش العثماني، وبعد انقضاء الحرب العالمية الأولى عين عضواً في مجلس الشورى، فعضواً بمجلس المعارف الكبير، فرئيساً للعلماء، وانتخب عضواً بالمجمع العلمي العربي. من مؤلفاته: "رسالة في آداب البحث والمناظرة"، و"حل الرموز في عقائد الدروز" وغيرها. وتوفي بدمشق في 26 تشرين الأول سنة 1928م.
كان هؤلاء العلماء وغيرهم يجتمعون بالشيخ طاهر, ويعقدون حلقات العلم والمدارسة, وانضم إليهم فيما بعد عدد كبير من شباب العرب النابهين وكان منهم: رفيق العظم العالم البحّاث, من رجال النّهضة الفكريّة في سوريّة، واستقر ّفي مصر, واشترك في كثير من الأعمال والجمعيّات الإصلاحيّة والسّياسيّة والعلميّة. صنّف كتابه المشهور "أشهر مشاهير الإسلام في الحرب والسّياسة"، وكتاب "البيان في كيفيّة انتشار الأديان", وغيرها. وقد أهدى خزانة كتبه للمجمع العلمي العربيّ بدمشق وهي نحو ألف مجلد، توفّي سنة 1925م.
ومنهم الدكتور عبد الرحمن الشهبندر, درس في الكليّة السّوريّة الإنجيليّة في بيروت, وتخرّج من كليّة الطّب عام 1906م, كان من الخطباء المفوّهين, ومن رجال الوطنيّة والقوميّة, هرب من جمال باشا عام 1915م, وعاد إلى دمشق مع دخول قوات فيصل, شارك كوزير للخارجيّة في الحكومة الفيصليّة, وحكم عليه بالإعدام, وقد اغتيل عام 1940م, من "كتبه القضايا الاجتماعيّة الكبرى".
ومنهم كذلك, عبد الحميد الزهراوي, من زعماء النّهضة السّياسيّة في سورية, وأحد شهداء العرب في عاليه, أصدر صحيفة المنير, كتب في المقطّم. ورئس المؤتمر العربيّ الأوّل في باريس فحُكم عليه بالإعدام. له رسالة "الفقه والتّصوف", وكتاب "خديجة أمّ المؤمنين" وغيرها.
وكان منهم سليم الجزائري, القائد العسكري، العارف باللغات العربية والتركية والفارسية الفرنسية والانكليزية. تعلم في المدرسة العسكرية، ومدرسة الهندسة البرية بالقسطنطينية وبلغ رتبة قائم مقام أركان حرب في الجيش العثماني، وحكم عليه بالموت بعاليه في لبنان فأعدم سنة 1916م. من آثاره: كتاب في المنطق سماه "ميزان الحق".
ومنهم الوطني فارس الخوري, دخل الكلية الأمريكية، وحاز على بكالوريوس في العلوم عام 1897م, درس اللغتين الفرنسية والتركية وحده بدون معلم. امتهن المحاماة وتقدم بفحص معادلة الليسانس بالحقوق، فنالها. في عام 1914م فاز بالنيابة عن دمشق في مجلس المبعوثان. وفي عام 1917م اعتقله جمال باشا بتهمة تعامله مع فيصل بن الحسين، ثم قرر نفيه إلى استنبول. وفي عام 1919م عُيّن عضواً في مجلس الشورى، وهو الذي اقترح على الشريف فيصل تأسيسه. تولى عدة وزارات وشارك في تأسيس حزب الشعب, والكتلة الوطنية. توفي في الثاني من شهر كانون الثاني لعام 1962م.
ومن هؤلاء الشباب أيضاً عبد الوهاب المليحي الشهير بالانكليزي, من قرية المليحة في غوطة دمشق. وهو حقوقي، إداري، مؤرخ، عارف باللّغات الفرنسية والانكليزية والتّركية. عين قائم مقاماً في عدة أقضية, ثم استقال, وتعاطي المحاماة بدمشق. ثم نصب مفتشاً للإدارة الملكية في ولاية بيروت ثم في بروسه، وسافر إلى القسطنطينية. حكم عليه بالإعدام بحجّة معارضته للاتحاديين، فقتل شنقاً بدمشق سنة 1916م. من آثاره: كتاب في التّاريخ العام.
وقد تألف من جماع هؤلاء الشيوخ المفكرين والشباب النابهين أكبر حلقة أدبية ثقافية, كانت تدعو إلى تعلم العلوم العصرية, ومدارسة تاريخ العرب, وتراثهم العلمي, وآداب اللغة العربية, والتمسك بمحاسن الأخلاق الدينية, والأخذ بالصالح من المدنية الغربية.
وكانت هذه الحلقة تجتمع في كل أسبوع من بعد صلاة الجمعة في منزل رفيق العظم. وكان مجلس هذه الحلقة يستعرض كل ما يهم المفكرين استعراضه عن الحركة العلمية والفكرية والسياسية خلال الأسبوع, وكان الشيخ طاهر هو الذي يوجههم, ويصحح لهم, ويوقظهم لما خفي عليهم من أسباب الإصابة بالرأي.
سميت هذه الحلقة بحلقة دمشق الكبرى, وقد راح الشيخ طاهر ورجال حلقته ينددون بالحكام واستبدادهم, وينتقدون سوء الإدارة, ويدعون إلى الحرية والعدل والنظام, فاتهموا بالخيانة الوطنية, والعمل على فصل سورية عن بقية السلطنة العثمانية. وبالمقابل فقد قامت الحكومة بإلغاء منصب الشيخ طاهر الحكومي, وعرقلت أعمال الجمعية, ولاحقت أعضاءها, الذين وجدوا تضييقاً كبيراً, وقامت السلطات بتفتيش منازلهم, فاضطر بعضهم للهرب وكان على رأسهم الشيخ طاهر.
وعندما غادر الشّيخ طاهر دمشق متوجّهاً إلى مصر للإقامة فيها, خلّف وراءه "ثورة فكريّة تسري تحت الرّماد, وقد شجّع هؤلاء المفكّرون غيرهم من شباب العرب, وغرسوا في عقولهم وقلوبهم حبّ التّحرر, والاعتزاز بالأمّة العربيّة, وبماضيها الحافل بالبطولة والعزّ والمجد. وقد تأثّر الشّباب بدعوتهم هذه, وألّفوا الجمعيّات السّريّة, والّتي اتّخذت من أفكار هؤلاء المصلحين مستنداً لها للمطالبة بحقوق العرب, وبالتّالي القيام بالثّورة العربيّة الكبرى.
من هذه الجمعيات نجد جمعية عُرفت بحلقة دمشق الصّغيرة، تمييزاً لها عن الحلقة الكبرى, وقد أسسها محب الدين الخطيب مع صديقه الشهيد عارف الشهابي. وفي هذه الحلقة كان يجتمع هذان الصديقان مع مجموعة من رفاقهما, ويقرؤون من الكتب ما ينمي أفكارهم ويقويها. ومن هذه الحلقة انبثقت جمعيّة النّهضة العربيّة التي تأسست في 24 أيلول 1906م في استنبول, على يد محب الدين الخطيب وعارف الشهابي. وأسموها جمعيّة النّهضة العربيّة. وكانت غايتها إحياء اللّغة العربيّة والأخلاق الفاضلة, وافتتحت فرعاً لها في دمشق.
وقد قام بعض أعضاء هذه الجمعية بتأسيس جمعيات أخرى كان لها أثر كبير في التاريخ العربي الحديث, و من هذه الجمعيات نذكر المنتدى الأدبي والذي قام بتأليفه بعض أعضاء جمعية النهضة. وهناك أيضاً حزب اللامركزية الإدارية العثماني الذي كان من مؤسسيه محب الدّين الخطيب, ورفيق العظم, وعبد الحميد الزّهراوي. وكذلك جمعية الشورى العثمانية, وكان من أعضائها رفيق العظم ومحب الدين الخطيب وغيرهم. كذلك الجمعية الأشهر (العربية الفتاة), وكان من أعضائها كثير من تلاميذ الشيخ طاهر ومن أعضاء جمعية النهضة العربية.
وكان من نتائج اجتماع هذه الأحزاب والجمعيات عقد المؤتمر العربي الأول في 18 حزيران سنة 1913م في باريس, وخرج المؤتمرون بمقررات هامّة, تؤكّد مبادئ الجمعيّات السّابقة, وتطالب بالإصلاح, وإعطاء العنصر العربيّ حقّه في الحكم في ظلّ الدّولة التّركيّة. وقد كان هذا المؤتمر مؤتمراً هامّاً, له تأثيره الكبير في الحركة العربيّة, وفي تحديد مسارها المطالب بالانفصال عن الدّولة التركية وقد انسلخت عن كل ما يمت إلى الخلافة الإسلامية بصلة، اللهم إلا الاسم. وقد كانت حلقة الشيخ طاهر هي الملهم الأول لهذه النشاطات والتحركات العملية.
بالطبع فإن ظروف العصر الذي عاش فيه الشيخ طاهر كانت من السوء بحيث تغلّب الجهل والأمية والانحطاط, ورافقه الاستبداد والتسلط وسوء الإدارة, وهذا انعكس على مرافق الحياة كلها, سياسية واقتصادية وثقافية واجتماعية. فكان نشاط الشيخ طاهر مميزاً جداً ومؤثراً جداً, وكان كما وصفه الشيخ جمال الدين القاسمي (الشيخ المفيد, والمرقّي الوحيد).
وبالفعل فقد كان عالماً عاملاً واعياً، و كان الرجل القدوة لبلد يعاني من موات حضاري خطير, " فترك أثراً من الخير أينما حل, فكان مجلسه حيثما حل مدرسة, ولقاؤه أينما لقيته درس، وكان يعلم بفعله لا بقوله, دعا إلى النظر في الكتب, فلم يكد يدع كتاباً لم ينظر فيه, ودعا إلى التأليف فكان له من المؤلفات ما عده من مكثري المصنفين, ودعا إلى حفظ الوقت, فلم يكن يضيع من وقته لحظة في عمل غير نافع, ودعا إلى ترك تلك المجاملات والرجوع إلى أخلاق المسلمين الأولين, من الصراحة والصدق, وقصد الحقائق وترك الأباطيل, فكانت حياته كلها كذلك".
وأثره هذا ظهر على طلابه ومريديه, فمن كان يحضر حلقة الشيخ طاهر من الشباب صاروا نخبة العرب علماً وثقافة وأدباً وعملاً. ولا نجد واحداً ممن كان يحضر اجتماعات تلك الحلقة إلا وقد ترك أثراً مفيداً في عصره, وكان لـه ذكره ومكانته كما رأينا. وهذا إن دل على شيء, فإنما يدل على نجاح أسلوب الشيخ طاهر, وعلى الأثر الكبير الذي خلّفه وراءه في نفوس هؤلاء الشباب.
ولولا تغلّب الاستعمار الأوروبي, ووقوع كثير من هؤلاء الرجال ضحية ثقتهم وانبهارهم بالغرب وحضارته, حتى أنهم ظنوا أن هؤلاء الغربيين يملكون من الأخلاق الحضارية ما يدفعهم للوفاء بعهودهم ومساعدة هذه البلاد الفتية على النمو والنهوض؛ لتكونت من جماعهم طبقة من النبهاء القدوة كانوا بداية لنهضة حقيقية كانت ستبني لبلادنا حضارة حقيقية قوية قائمة على العلم والعمل والمسؤولية والأخلاق الفاضلة المستمدة من ديننا وتراثنا الإنساني, ولتغير بالتالي هذا الحاضر البائس الذي نعيش فيه الآن.
وليس من الإنصاف أن يعامل بعض مفكري زماننا "هؤلاء النخبة من المثقفين باحتقار, طالما كانوا عناصر مخلصة, لم تكتسب من التجربة التاريخية خبرة كافية, تمكّنها من فصل الخبيث عن الطيب". وإنما يجب علينا أن نستفيد من تجربتهم وآرائهم, لنكون أكثر وعياً, ونكتسب الخبرة المطلوبة, لمعرفة طريق النهضة الصحيح والحقيقي, القائم على تغيير السلوك الانحطاطي الذي ينخر في جسد الأمة, وتحويله إلى سلوك نهضوي فاعل, يحافظ على هويتنا وحضارتنا, وينجو من مرض الاستلاب وعقدة النقص واحتقار الذات, هذه الأمراض التي أوقعتنا في فخ قبول ما فرضته المدنية الغربية من خير وشر, دون النظر فيه, أو حتى امتلاك القدرة والجرأة على نقده وتقويمه لأخذ أحسن ما فيه ونبذ سيئه, بهدف المساهمة في نشر فضائلنا الخلقية والحضارية ليستفيد العالم منها كله.
ما أحوجنا في عصرنا هذا لرجال قدوة كالشيخ طاهر الجزائري, يؤمنون بالإصلاح ويعملون لـه, بإخلاص ومسؤولية. وما أحوجنا لذلك النشاط الاجتماعي الفاعل, الذي يرقّي العقول والنفوس, ويخلّصها من عقدة الاستلاب للغرب, ويزرع فيها الاعتزاز بما نملك من حق وخير, ففضائل أخلاقنا المستمدة من الإسلام هي فضائل إنسانية عامة, لو عدنا لتفعيلها في حياتنا وفي تعاملاتنا فإننا سنصل للنهضة المرجوة. ولن يعم خير هذه النهضة علينا فقط, بل إنه سيصل للعالم كله بإذن الله.
والأمل كبير ببروز فئة واعية من المثقفين العاملين, تظهر على الساحة الآن, في وقت نعاني فيه من موات حضاري يماثل, إن لم يكن يفوق, الموات الحضاري الذي كانت تعاني منه الأمة في عصر الشيخ طاهر الجزائري.